الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سنة على الإنسحاب السوري من لبنان: أزمة تشتدّ ولا تنفرج

صبحي حديدي

2006 / 4 / 29
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


كان الدخول العسكري السوريّ إلى لبنان، صيف 1976، بمثابة النقلة الإقليمية السياسية والعسكرية الأهمّ في تاريخ "الحركة التصحيحية"، وهي التسمية الرسمية للإنقلاب الذي قاده حافظ الأسد ضدّ رفاقه في حزب البعث منذ أواخر 1969 وتوّجه في 16 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1970، حين استكمل وأعلن استيلاءه على السلطة. ولهذا فإنّ الإنسحاب العسكري السوري من لبنان، الذي تمرّ سنة أولى عليه هذه الأيام، كان بدوره يستكمل تلك النقلة في الوجهة المعاكسة إذا جاز القول، أي في مسار تجريد النظام السوري ـ ببطء تارة وبتسارع دراماتيكي طوراً، ولكن على نحو مضطرّد إجمالاً ـ من المغانم والأوراق والقوى والحلفاء وهوامش المناورة الإقليمية.
ومن الإنصاف القول إنّ انحطاط النفوذ السوري في لبنان كان قد بدأ مع سحب هذا الملفّ من يد عبد الحليم خدّام، نائب الرئيس آنذاك، وتسليمه إلى بشار الأسد كجزء من ترتيبات إعداد الفتى لخلافة أبيه (وبالطبع، غنيّ عن القول إنّ الإنحطاط لم يبدأ لأنّ خدّام كان أرحم باللبنانيين من الأسد الابن، بل على العكس تماماً: الأخير كان في طور التلقين وألعاب الهواة، وكان خدّام أشدّ شراسة وشراسة وأكثر تشدداً ودموية). غير أنّ الضربة القاصمة جاءت مع وفاة حافظ الأسد في حزيران (يونيو) 2000، حيت صحا اللبنانيون على الحقيقة البسيطة التالية: الوجود السوري («الشرعي والمؤقت» بالنسبة إلى الرئيس اللبناني إميل لحود، والمؤقت ولكن اللاشرعي الذي آن أوان إنهائه بالنسبة إلى معظم اللبنانيين) ينبغي أن لا يظلّ على حاله السابقة بعد أن غاب حافظ الأسد، صانعه الأوّل الأعلى دهاء ومكيافيللية وشراسة ودموية من وريثه في الحكم، بشار الأسد.
هذه الحقيقة/ البديهة كانت تقبل، أو تصنع تلقائياً، ذلك الاستطراد البديهي الآخر: إذا تآكل الوجود السوري في لبنان ـ سواء نُظر إليه في مستواه العسكري والسياسي والإقتصادي، أو في مستوياته الأخرى الاجتماعية (العمالة السورية، التوترات بين الشعبين، انقسامات اللبنانيين...) أو الحقوقية (اتفاق الطائف، القرارات الدولية...) ـ وكفّ عن كونه صانعاً لأوراق القوّة، فمن المنطقي والحال هذه أن ينقلب إلى عبء على سلطة الوريث، أو ربما كعب آخيل الأهمّ في الجسم الذي يطلّ به بشار الأسد على الكون الخارجي، على الجوار الإقليمي والعالم بأسره سواء بسواء.
ومن الإنصاف التذكير، كذلك، أنّ أولى إشارات الصحو على هذه الحقيقة/ البديهة لم تأت من وليد جنبلاط أو ميشيل عون أو "الكتائب" او "القوّات اللبنانية" أو أيّ من القوى اليسارية التي سوف تأتلف بعدئذ في إطار "اليسار الديمقراطي"، وطبيعي أنها أيضاً لم تأت من الراحل رفيق الحريري لأنه كان آنذاك أحد أخلص حلفاء النظام السوري. لقد جاءت، ليس دونما مفارقة في واقع الأمر، من مجلس المطارنة الموارنة الذي أصدر بياناً لافتاً تماماً في 20 أيلول (سبتمبر) من العام 2000، أي بعد أشهر معدودات على توريث الأسد الابن، أبدى فيه الحرص على «توثيق أحسن علاقات الأخوّة بين لبنان وسورية»، ولكنّ المغزى الأهمّ وراء البيان كان التشديد على أن الصلة اللبنانية ـ السورية قائمة على «علاقات الأخوّة» وحدها، ليس أكثر!
وإذْ ينصف المرء ذلك البيان اليوم، فليس لأنّ الذكرى الراهنة تقتضي استذكار تلك الواقعة الفارقة فحسب، بل لأنّ ما انطوى عليه نصّ المطارنة الموارنة كان كأنه يستبصر للبنان الكثير من التطوّرات التي سيشهدها البلد حين تغادر القوّات السورية من جانب أوّل، كما استدعى في حينه سلسلة استقطابات سياسية واجتماعية ودينية ومذهبية سوف تصبح من جديد جزءاً لا يتجزأ من خطاب، وكوابيس، الحياة اليومية اللبنانية الراهنة، وتحديداً في ذكرى الإنسحاب هذه الأيام. وهكذا، وكما نشهد اليوم مَن يترحّم على الوجود العسكري في صفوف اللبنانيين أنفسهم (وليس عاصم قانصوه وحده، للتذكير!)، توفّر قبل ستّ سنوات مَن يناهض بيان بكركي... دفاعاً عن شرعية الوجود السوري. هذه كانت روحية البيان المضاد، أو هكذا توجّب أن يُقرأ عملياً، الذي صدر آنذاك عن «اللقاء الإسلامي» المؤلف من المفتي الشيخ محمد رشيد قباني (ممثلاً لدار الإفتاء السنية)، والشيخ عبد الأمير قبلان (المفتي الجعفري الممتاز)، ومحمد السماك (ممثّل لجنة الحوار الإسلامي ـ المسيحي)، وبهجت غيث (شيخ الطائفة الدرزية). بيان مجلس المطارنة الموارنة طالب بإعادة انتشار الجيش السوري تمهيداً لانسحابه نهائياً، عملاً بالقرار 520، واستناداً إلى نصوص اتفاق الطائف؛ وبيان «اللقاء الإسلامي» اعتبر أنّ الوجود السوري شرعي ومؤقت كما قال رئيس الجمهورية، وأي موقف منه تقرره السلطات الرسمية. موقفان، إذاً، على طرفَي نقيض وعلى طرفَي استقطاب ديني واضح: مسيحي/مسلم. إلى هذا، كان الفارق بين البيانين لا يقتصر على انقسام حادّ بين «لا» و«نعم» للوجود السوري، بل تجاوز اللونَين الأبيض والأسود إلى تدرّجات للرمادي، عديدة ومعقدة!
بين هذه التدرّجات، العابرة للدينيّ والمذهبيّ والسياسي بمعنى السياسة الصرفة الكلاسيكية، ما جاء في بيان مجلس الوزراء اللبناني ردّاً على بيان المطارنة الموارنة: «العلاقات بين سورية ولبنان ليست أمراً مزاجياً يتغير بتغيير المواقف الخارجية والفئوية، بل هي علاقة استراتيجية تحددها الدولة بمؤسساتها الدستورية، وأنّ هذه العلاقة هي من الثوابت التي تقوم على تأكيد مصلحة لبنان أولاً، والتي تؤكد أيضاً ثبات المواقف القومية مع الشقيقة سورية وأواصر المصالح المشتركة في ما بيننا». هذه «لغة خشبية» كما يقول الفرنسيون، لكنها كانت اللغة التي تلتقي تماماً مع بيان «اللقاء الإسلامي»، حتى أنّ الواحدة منهما بدت وكأنها ترجّع أصداء الأخرى. وهنا أطلّ ذلك التطيّر الذي يشتغل على المخاوف والكوابيس والمخاطر: بيان بكركي يرجّع أصداء الحرب الأهلية اللبنانية!
المعادلات اختلفت جذرياً بعد اغتيال رفيق الحريري وانقلاب سواد السنّة على دمشق، وانحياز سواد الدروز إلى وليد جنبلاط بوصفه ممثّل الزعامة التاريخية على الأقلّ، حين انخرطت دمشق في تأثيمه وتجريمه. وباتت أشباح الحرب الأهلية أقلّ هيمنة على الوجدان الشعبي العامّ، بل صار من المشروع القول إنّ خريطة الولاءات المذهبية ذات التلوّن السياسي (بصدد الموقف من النظام السوري، أساساً) أقلّ تعقيداً من ذي قبل، وبالتالي أوضح في الطبيعة والتكوين والقدرة، وأيسر سيطرة في حال اندلاع صدامات مذهبية أهلية! في عبارة أخرى، إذا كان خطاب بكركي في أيلول 2000 قد طالب بانسحاب القوّات السورية فاستدعى خطاباً مضاداً سنّياً ـ شيعياً ـ درزياً حكومياً رسمياً يطالب ببقاء تلك القوّات على نحو أو آخر، فإنّ أحداً اليوم (حتى أهل الحسرة على تلك الأيام) لا يطالب بعودة تلك القوّات.
هل يندرج هذا في باب التقدّم، أو في سجلّ إنجازات حركة 14 آذار على الأقلّ؟
ليس تماماً، إذْ قد يصحّ القول إن تعذّر اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية لا يعني حتمية مجيء السلم الأهلي، أو أنّ ذلك السلم قيد التحقق، بين مختلف القوى اللبنانية؛ ولا يعني في الآن ذاته أنّ غياب الإجماع اللبناني ـ اللبناني حول أجندات أخرى لن يتفجّر في هذه الصيغة او تلك من النزاعات الأهلية العنيفة، حتى إذا كانت معظم تلك الأجندات لا تتكيء مباشرة على وجود أو غياب اللاعب العسكري والأمني السوري في لبنان. في صياغة ثانية، على اللبنانيين الذين أرادوا انسحاب القوات السورية من لبنان أن يفهموا أنّ ثمن الإنسحاب هو عزم دمشق على إعادة البلد إلى حال أسوأ ممّا كانت عليه حين دخلته القوّات السورية سنة 1976، لا بيد النظام السوري مباشرة وعلانية، بل بيد ما تبقى له من أنصار وقوى وحلفاء... بعضها ("حزب الله" أوّلاً، وبعض الفصائل الفلسطينية العاملة لحساب دمشق ثانياً) هو وحده الذي يزعم الحقّ المقدّس في امتلاك السلاح غير الخاضع لسلطة القانون أو سلطة الدولة!
أكثر من هذا، وربما تطويراً لهذا، يشتغل النظام السوري اليوم على نغمة تخويف المجتمع السوري نفسه من أخطار الحرب الأهلية، فيجري خلط خبيث للمفاهيم (بين الأسبقية الديمقراطية والأسبقية الوطنية مثلاً؛ وبين أن تعاضد النظام الحاكم ضدّ أمريكا، أو تفعل العكس)، وطمس أشدّ خبثاً للولاءات الأكثر إلحاحاً (على شاكلة القول إنّ مصير الطائفة العلوية ـ بابنائها كافة، عن بكرة أبيهم، بفقرائها ومناضليها الوطنيين الديمقراطيين، وبمعارضيها من نزلاء سجون النظام في الماضي والحاضر ـ بات مرتبطاً تماماً ونهائياً بمصير النظام!)، وترهيب العباد من احتمالات تكرار مآسي العراق في سورية، وما إلى هذا... وفيه من التنويعات الكثير الكثير!
وقد يقول لك قائل، مثلاً، إنّ الرئيس الأمريكي جورج بوش لم يصدر الأمر التنفيذي القاضي بتجميد العائدات والممتلكات لأي "شخص" أو "كيان" يشتبه في تورطه في جريمة الحريري، أو في عرقلة أو تأخير التحقيق الدولي فيها، إلا في مناسبة الذكرى الأولى لانسحاب القوّات السورية من لبنان! وقد يقول آخر القول ذاته عن الجهد الفرنسي لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يقضي بترسيم الحدود بين سورية ولبنان وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين. وإذا صحّ أنّ القرار الأمريكي يندرج في باب مناوشة النظام السوري عن طريق الوخز الخفيف الذي ينبّه دون أن يدمي، والمشروع الفرنسي يندرج في باب التخبّط الدبلوماسي الفرنسي بصدد دمشق، والذي تعيشه باريس منذ اغتيال الحريري؛ فإنّ الأصحّ من هذا أنّ الشعب السوري ليس رابحاً من أفعال واشنطن وباريس هذه من جهة أولى، وأنّ هذا الخسران لا يفرض بأية حال واجب الإصطفاف خلف النظام من جهة ثانية.
وإذا توفّرت أية قيمة ـ رمزية صرفة في الواقع ـ خلف هذه المصادفات بين الذكرى الأولى لانسحاب القوّات السورية من لبنان، وقرار بوش او المشروع الفرنسي في مجلس الأمن الدولي، أو حتى لقاء المحقق الدولي سيرج براميرتس بكلّ من بشار الأسد ونائبه فاروق الشرع، فإنها ينبعي أن تقتصر على تظهير المأزق الشامل الذي يعيشه النظام السوري عموماً، وسلسلة الضربات القاتلة التي تلقاها ويتلقاها جرّاء اضطراره إلى خسران الورقة اللبنانية. ثمة المزيد من تضييق حلقة النفوذ في هرم السلطة وبيت الرئاسة تحديداً (حتى أخذت هذه تضيق على عقيلة الرئيس الممنوع عليها، بقرار من شقيقة الرئيس، استخدام لقب "السيدة الأولى" أو افتتاح مؤتمر نسائي في دمشق!)؛ والمزيد من الارتداد إلى سياسات أمنية قيل لنا إنها طويت في عهد هذا "الرئيس الشاب"، وها هي ليست أشدّ ضراروة ووحشية وعنفاً فحسب، بل أشدّ عشوائية واستهتاراً وفوضى؛ وثمة هذه الصلات الوثيقة المثيرة للقلق، بين الأنساق الإنتحارية لسلوك السلطة السياسي والأمني الدبلوماسي، وأنساق ألعاب الحواة والهواة في مؤتمرات التهريج مع المحامين العرب تارة، ومع الأحزاب العربية طوراً، وصولاً إلى الأحزاب الإسلامية!
غير أنّ أخطر ما تعيشه سورية اليوم جرّاء مأزق السلطة الشامل هو اشتغال النظام ـ على نحو منهجي مبرمج، طائش وعابث في آن ـ على تفتيت الوحدة الوطنية، وإحياء الولاءات الطائفية والمذهبية، وتصنيع أخطار الحرب الأهلية، وفبركة أسبابها والتلويح بها، وتضخيم احتمالات الغزو الخارجي وتكرار الكارثة العراقية. الأرجح أنّ كلّ هذا يجري في غمرة قناعة مزدوجة يؤمن بها أهل النظام: ما الذي سنخسره وظهرنا إلى الجدار هكذا؛ وعليه، اشتدّي أزمة تنفرجي.
هيهات!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل: مظاهرات عارمة في شوارع تل أبيب للمطالبة بالإفراج عن


.. شاهد فيديو جميل لـ-قمر الزَهْرة- يضيء سماء لاس فيغاس




.. القصف والغارات تطرد النحل من صناديقه في جنوبي لبنان


.. شاحنات مساعدات تبدأ دخول غزة عبر معبر كرم أبو سالم| #الظهيرة




.. ما أبرز التطورات الميدانية للقصف الإسرائيلي على قطاع غزة؟