الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين عراق (الهوم سِكْ) وعراق (السِكْ هوم)

جعفر المظفر

2019 / 4 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


بين عراق (الهوم سِكْ) وعراق (السِكْ هوم)
جعفر المظفر
فقط الذين يعرفون قيمة العراق يعرفون قيمة الظلام الذي يغشاه لأن جمال هذا الأخير هو من جمال العراق الذي إرتضى به لحافا بإنتظار صباح آخر.
حتى الظلام هناك أجمل (لا لأنه ظلام) وإنما لأنه يحتضن العراق.
إن لم يكن (السياب) قد أجزل في مدح العراق فيكفيه فخرا أنه جعل ظلامه جميلا ليس شمسه فقط.
قبل سنوات كنت قد كتبت مقالة بعنوان (هوم سِكْ .. سِكْ هوم) تحدثت فيها عن ظروف العراق القاهرة حين ساد قطع الأعناق على الهوية (علي يقتل عمر وعمر يقتل علي), وكنت من أولئك الذين لولا حسن حظي لعثر عليَّ الناس في أقرب مزبلة. وما أكثر المزابل التي غطت بغداد حينها, حتى صار "البلد" وكأنه مزبلة كبيرة, ثم ما أكثر الجثث والرؤوس المقطوعة التي ألقيت في تلك المزابل.
وقلت (البلد) ولم أقل (العراق) لأني لم أجرؤ على توسيخه بتلك الصفة التي لها علاقة بالزبالة والمزابل.
ما الذي كنت قد قلته في تلك المقالة التي أثارت وقتها إعجاب الناس فتناقلوها ؟.
قلت أن الشاب العراقي الذي كان يسافر في السنوات التي سبقت الحروب والحصار والإحتلال كان أبوه الذي يودعه في رحلته التي قد لا تطول لأكثر من شهر, يخاطبه في كلمة الوداع (لا تتأخر علينا وليدي ترة أمك تخلصها علينا نحيب, إرجع بسرعة, شهر ترة كثير, سويهه إسبوع اللله يخليك) فيضحك الإبن في سره ويقول " هذا أبوي َ شيحجي " فوَالله لو كانت لدي قدرة تمديد الرحلة لأكثر من سنة لما ترددت.
لا أدعي أن العراق كان بأفضل حال من العرب الميالين للهجرة فربما كان بعدهم عن البحار, التي جعلت أكثرية العرب الآخرين جيرانا لأوروبا, هي التي جعلت العراقيين قنوعين بقدرهم. رغم ذلك يمكن القول, أن العراقيين, في زمن الصراعات الدموية التي سادت ما قبل الحروب والحصار ظلوا بعيدين عن تلك الصراعات لأنها كانت تجري بين الفئات السياسية ولم تنحدر لكي تكون بين عمر وعلي أو على طريقة المالكي (بين الحسين ويزيد ) . ورغم الفقر الذي كان ما زال منتشرا فإن بلدهم الغني كان واعدا كما أن الظن بتطوره لم يكن إثما.
في تلك الفترة كان أخونا الشاب الذي حدثتكم عنه والذي كان يتمنى لو أن رحلته تطول لأكثر من عام, غالبا ما يصاب قبل نهاية الشهر المقرر لرحلته بما يسمى (الهوم سِك) وهو المرض الذي أجزم أن العراقيين كانوا يصابون به أكثر من بقية العرب.
عن نفسي سأقول إنني كنت قد عانيت من مرض (الهوم سك) لفترة ستة شهور على الأقل وذلك في مطلع سنوات وجودي لغرض الدراسة التخصصية في أمريكا, رغم إنني جئت إليها في مطلع زواجي وبرفقتي المرأة التي أحب.
لكن ما أن حل عام 1979 والعام الذي قبله حتى بدأت الأمور تسير بإتجاه عكسي. أول المتغيرات هي مجئ الخميني إلى سدة السلطة في إيران وعزمه على تحرير القدس مرورا بكربلاء, وثاني المتغيرات هي صعود صدام إلى قمة هرم السلطة في العراق في أعقاب الإنقلاب الذي دبره ضد أحمد حسن البكر وضد رفاقه في القيادة. وقابله, عراقيا أيضا, بروز إسم ودور محمد باقر الصدر المؤسس الحقيقي لحزب الدعوة ومَثَل الدَعَويين الأعلى الذين طلبوا من "الشيعة" مبايعته زعيما عليهم (ويريدون صدام ما يزعل !!)

هولاء الثلاثة هم المسؤوليين الحقيقيين عن كل ما جرى بعدها من فواجع ونكبات عراقية حتى جاء (البوشان : بوش الأب وبوش الإبن) ليزيدا الطين دماء ويمهدا العراق لشروق شمس الزرقاوي وأبي بكر البغدادي الشديدة الإحمرار. ثم إذا بالمالكي وصحبه النجباء ينتصرون للحسين في معركته ضد يزيد ليصير العراقيون (طشاري) على طريقة المبدعة هناء كجة جي في رائعتها القصصيية بذات الإسم.
بفضل كل الأبطال المذكورة أسماءهم في أعلاه تحول العراق من "هوم سِك" إلى "سِك هوم" وإنعكس مشهد الإبن مع أبيه تماما وصار الأمر يجري بالمقلوب, فبدلا من أن يمسك الأب بيد إبنه المزمع على رحلة أقصاها شهر ليرجوه العودة بأقل من أسبوعين إذا بالعادة صارت أن يعطي الأب لإبنه دفعة قوية على ظهره وهو يودعه بقوله (روح وليدي .. روحة بلا رجعة, ودير بالك ترجع مثل أبوك, ولا يصيبك مثله مرض الهوم سِكْ لأن الهوم نفسه صار سِكْ).
إذن إنقلبت الاية فبدلا من (الهوم سِكْ) صار (الهوم نفسه سِك) وتوزع العراقيون المهاجرين على قسمين, أولهما الذي يضم شباب (الهوم سِكْ) الذين صاروا شيوخ (السِكْ هوم) وضم القسم الثاني شباب من الذين لم يشهدوا مرحلة (الهوم سِكْ) بل كانوا قد ولدوا وعاشوا وشبّوا في مرحلة (السِكْ هوم).
ندوة الأمس عن شعر السياب الخالد, التي كان دوري فيها قراءة مقدمة الإسلحة والأطفال وإنشودة المطر وغريب على الخليج, والتي شاركني فيها الشاعر الأستاذ عمر الحديثي متحدثا فيها عن حياة السياب ومغرقا في إنشداده إلى حد البكاء. هذه الندوة شارك فيها عراقيو (الهوم سِكْ) من شيوخ المهاجرين في فرجينيا وواشنطن العاصمة الأمريكية ولم تشهد إلا مشاركة قليلة من مهاجري (السِكْ هوم), لذلك كان نجاحها باهرا وليس جيدا فقط. والسبب الحقيقي كان واضحا, عراقيو (الهوم سِكْ) يفهمون معنى قول السياب (الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام, حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق) وحتى أن بعضهم بكى بكاء حارا وهو يستمع لمقاطع من القصيدتين (عراق عراق وليس سوى عراق).
لقد ظل عراقيو (الهوم سك) في فاعة الندوة طلب المزيد رغم إنقضاء الساعتين المخصصتين للندوة وعلى حجز القاعة. وحينما إنتهت الندوة سمعنى البعض أقول الحمد لله الذي جعل عراقيو (السك هوم) يترددون عن الحضور, فلو أن أحدهم فعل لتوقعت منه أن يسألني ساخرا وربما غاضبا : عن أي عراق تتحدث يا سيدي, حتى كأنك مخلوق من الفضاء قد غاب من عراق (الهوم سِكْ) ولم يشهد مرحلة (السِكْ هوم) فتراه ما زال يهذي بإسم العراق ثم يهذي بكلام غير مفهوم عن وجود ظلام جميل وعن قرية طينية إسمها "جيكور" وعن رجل غريب عجيب إسمه "السياب".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي الشجاعة داخل الفلج.. مغامرة مثيرة لمصعب الكيومي - نقطة


.. رائحة غريبة تسبب مرضًا شديدًا على متن رحلة جوية




.. روسيا تتوقع «اتفاقية تعاون شامل» جديدة مع إيران «قريباً جداً


.. -الشباب والهجرة والبطالة- تهيمن على انتخابات موريتانيا | #مر




.. فرنسا.. إنها الحرب الأهلية!