الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منغانا الحاج في ديوانها -عمر الماء-:: تجربةٌ تستحق أن تقرأ

عبد الرحمن جاسم

2006 / 4 / 30
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


منغانا الحاج في ديوانها "عمر الماء":
تجربةٌ جميلة لشاعرة تستحق أن تُقرأ...

تبهرك الشاعرة منغانا الحاج ومنذ اللحظة الأولى لوطئك أرض شعرها بنصها المتقلب، فلا راحة عندها، إن كنت تنشد الراحة، فهي تتبع منطق المتنبي الشهير: "على قلقٍ كأن الريح تحتي". قلقها يضحي قلقك، خوفها خوفك، هي لا تجامل كثيراً في قصائدها، ولا تحابي، تفرش ما عندها بـ"وقاحةٍ" حلوة، فتقول في خضم "الأسئلة" قصيدتها الأولى، "ماذا يعني؟" سائلةً أسئلة عادية، نراها كل يوم، وتلهج في السؤال كثيراً، حتى يصبح الجواب الوحيد أمامك هو نسبية/هامش البساطة المنتظرة "لا شيء". وتختم كما بدأت، باختيارات لا تشبه اختياراتك "كقارئ/إنسانٍ/مشاهدٍ" فحسب، بل كمشارك/متآمر في هذه الحياة التي تعيشانها (أنت/الكاتبة).
وكما قلتُ من البداية، "قلقةٌ" هي منغانا، قلقةٌ تبحث عن هدوءها، وتغرس فيك هذا البحث الدائم عن معرفة مختلفة، فتنزلق "أعلى من تكاتها" قصيدتها الثانية، لتبحر خلف الأشياء، التي تستثمر لتكوين غابةٍ من المعقولات،
أعرف أحدهم / كان يزرع ثم يقتلع الزرع قبل / النضوج/ لقلة أناةٍ منه
ولضعفٍ في رؤية الأشياء، تلين / بحكمة
ذلك هو ما تعرفه منغانا، وتخبرك إياه بوضوح من البداية، أما أنتَ فما تريد معرفته عليك أن تبحث عنه في الديوان، وهو أمرٌ واضحٌ جلي، لمن يريد النهل أكثر، هي تشرع الباب بهناءة، لا تحاول اخفاء شيء، ولا تجعل معرفتها ذاتية،
الطريق المجاور لشرفاتنا / ما كان وحده يفصل بيننا / المارة أيضاً / الأمطار الهاربة من غيمها
الجبل الذي بذر غباره / وعجلاتٍ كان هواؤها / يباعد بيوتنا
تتابع الصور وتفانيات الأشياء خلف "مائيات" مانغانا، فهي تؤرخ "عمر الماء" كما أسمت ديوانها الشعري، وهو ما تسعى إليه عبر العلاقة التواترية بين القارئ/السامع/المشارك وبين صورها المتلاحقة وقصائدها التي تدرك خصوصيتك وتتعامل معها على أساس (النفس/النفس) أو (الأنا×الأنا). فليس هناك من أكثر من "أنا" واحدة داخل النص نفسه، "أنا" مانغانا/ أو أنا القارئ، كلها تتشكل في صورة واحدة.
ما يبقى من ماء الأصدقاء / جرحٌ يكتوي بملحه / كلما علاه البحر
أو يمكنك حتى أن تسمعه شجياً حزيناً، كتواتر يذكرك بموسيقى "الجاز"(Jazz)، أو "السول"(Soul)ـ التي يمارسها الأفارقة الأميركيين، فتشعر بالنغم المترقرق (ونعود بالتشبيه إلى الماء المنساب بكثرة داخل الديوان)، الحزين نسبياً وبكثرة:
الحبق الذي فركناه / بحسرة فوق الجرن / مراً سال /إلى الآن أمي تدق /ونستطعم المرارة
أو مثلاً:
ينبت الكلام / على ركام الصمت / تتنفس الأوراق
فالذي يقرأ الأبيات، مرة بعد مرة، يمكنه الاحساس، بالعبق الموسيقي، بالـ"رتم" الصوتي/الموسيقي، فالجو الشعري الحزين-القلق (بالعودة إلى التعبير الذي استعملته بدايةً) يجعلك تشعر بمدى عمق الصورة ويترك الحزن ماءاً يتعامل معك ومع النص برصانةً أكبر.
لكنها حزينة، تشعرك بهذا، لا تحاول المباعدة بين حزنها وتجربتها المعاشة، هي شاعرة من هذا الجيل، المجبول بحزنٍ مفعم بالتجارب، وهي لا تخفي الأمر البتة، ومنذ بداية الديوان وإلى انتهاءه، هي تتعامل مع الأمر كطبيعةٍ ثانية فتقول:
أمضي متخمةً بالخطوات/كفندقٍ حزين.
أو مثلا:
بيتهما من ثلج / وحين يتعانقان / سيفتقدانه طويلاً.
ورغم هذا كله هي متفاءلة، يشدك تفاءلها، تحاول قدر امكانها المحافظة على ذلك الصراع الأبدي (التفاءل × التشاءم) أو (الأمل × اليأس)، فحزنها لا يلغي الأمل نهائياً، حزنها يتعامل مع الأشياء، ليخلق منها أملاً جديداً:
نلبث / كقصبةٍ / لكي نغني / ننتظر الرياح / نطوي أرواحنا في الأدراج / ونترك ثقوب يومنا
لصباحاتٍ جميلة
هي ترفض المألوف/العادي، كعادة أبناء جيلها، تتعامل مع المألوف بلهجة الرافض، لا تقول كفى أو توقف، ولكنها ترفضه من أساسه، وتقبل فقط بما تريد القبول به، لا شي يحد امكانيات القصيدة لديها، فنرى أمها التي تفرغ المخدة لكي تندف صوفها، (كما تقول حرفياً في قصيدة إنها الحياة يا أمي)، وهو أمرٌ اعتيادي، يتم القيام به كثيراً في البيوت، ولكن تستغل التصرف العادي/المألوف، لكي ترينا ما خلف هذه الصورة الشديدة الوضوح: "تكفر عن خيبات أحلامي"، هي ترسم الصورة بوضوح، فالأم التي تندف صوف المخدة، تعوض عن غضبٍ مكبوت إنما بطريقة متماهية، لربما تكون لاواعية بعض الشيء.
هي تجبرك على البكاء، في وداع "نيللي" التي لا تعرف "أنت/القارئ" من هي، ولكنك تعرف مدى أثرها، وتعرف معزّتها، وتعرف حبها الذي تركته في قلب الشاعرة، إنه حزنها، الذي تريد مشاركتك به، ببساطةٍ وهدوء، ليس استعراضاً أبداً، إنما هو "بوح"، فتهدل بهدأةٍ، كما لو أن صوت الموسيقى الخافت يعود:
أتذكر الضحك / يكر على درج بيتك/ كم تسلقناه / وأغمي علينا
وفي المساء/ قبل أن أنام/ أرد رموشي على صورتك فلا تبهت، / لا.
وتبقى نقطتان، كتواتر المياه ذاته، فالديوان الذي ينزل قطرةً قطرة، تبقى فيه قصتان لم تقالا بعد، إنه عن الآتي غداً فتهبرك :"كلما حاولت السمكة / الغناء / امتلأ فاهها ماءً"، أترك الصورة كما هي، ولا أحاول شرحها أو تفسيرها، أو صورةٌ أخرى: "تنام الأقلام / متراصةً في السهول / بما يشبه الموت الجماعي". هي صورٌ تتناثر بكثرة في قصيدة "عذابات" رغم أن القصيدة بأكملها ليست قصيدة طويلة، ولكنها مع هذا غزيرة الصور، متتابعة الكلام، ومانغانا تعرف ماذا تريد، فهي أعطت القصيدة ليس الاسم المعبر فحسب، بل الصور المناسبة للتاثير الذي تود أن تحرزه القصيدة.
وتختم الشاعرة الديوان الذي بين يدينا بـ"قمرٍ يرصف كسوفاً"، "لستُ واثقةً تماماً / .../ أن اليوم هو اليوم/ والشرفة هي الشرفة"، هي تقول هذا لكأنما هي تمهد للقاء آخر بقارئها، كمن يعد بيوم جديد، فالقارئ سيشعر بالإغراء، (والتعبير باللغة الانكليزية tempted أكثر صواباً في وصف الأمر لربما)، بمعرفة ما يدور في خلدها، أو سيدور فيما بعد.

ملاحظة تقنية:
ديوان عمر الماء، هو الديوان الأول، للشاعرة مانغانا الحاج، يقع في 64 صفحة، صدر عن دار مختارات، في كانون الأول 2005. وفيه سبعة عشر قصيدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لأول مرة منذ 7 عقود، فيتنام تدعو فرنسا للمشاركة في إحياء ذكر


.. غزيون عالقون في الضفة الغربية • فرانس 24 / FRANCE 24




.. اتحاد القبائل العربية في مصر: شعاره على علم الجمهورية في ساب


.. فرنسا تستعيد أخيرا الرقم القياسي العالمي لأطول خبز باغيت




.. الساحل السوداني.. والأطماع الإيرانية | #التاسعة