الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كمال سبتي وداعا وداعا.. ؟

ناجي رحيم

2006 / 4 / 30
الادب والفن


" لا تحاول أن تسمّي ما لا يمكن تسميته " هذا ما تقوله اليوجا.
أجدني الآن في حالة مشابهة لأني أحاول الإحاطة بحاضر على أشدّ ما يمكن للحضور أن يكون، لكنه مع
ذلك ، أعلن غيابا قاطعا عن وجودنا المقفر هذا وصار لزاما علينا أن نتحدث عنه بصيغة (البذخ الحزين
للفعل " كان" ) وهذا ما لا أريد كما وأنه بمعنى ما، ليس صحيحا ، فهاهو المتنبّي يضجّ حياة بيننا كلّ
يوم، وهاهو رامبو والسياب..الخ . المبدعون الحقيقيون يتكاثفون حضورا بعد غيابهم .. والأمثلة على
ذلك كثيرة ..

في الثمانينيات ، لا أتذكر في أيّ عام ، ربما في بدايات ذلك العقد ، وقع في يدي عدد دسم من مجلة الطليعة الأدبية وهو يحمل قصائد الملتقى الشعري الأول " للشعراء الشباب" مع صور الشعراء المشاركين، اعتمادا على ذاكرتي التي عشقت أسماء من هذا الملتقى ، يثب الآن كمال سبتي ، زاهر الجيزاني ، خزعل الماجدي ، صاحب الشاهر، رعد عبد القادر ، سلام كاظم .. ، وهي المجموعة التي أشعلت حرائق وارفة في بستان الشعر العراقي مستفيدة من ومتقاطعة بدرجات متباينة مع قدح المدّ الستيني برموزه المعروفة .. وقد غاب وصمت بعض الأقران ولم يهدأ كمال سبتي المسكون بالشعر والهموم والأوجاع قاطعا مسافات ومسافات.

وعند تعرفي في منتصف الثمانينيات على الصديق رياض سبتي قرأت استعارة ديواني وردة البحر وظلّ شئ ما لتبدأ رحلة لا تتوقف في مناخ يمطر شعرا صافيا " الناي وامرأة عجوز / والليل في حانات قدّيسينَ / والفئران ُ قرب أسرّة القتلى/ ودمع الشاعر المهدوم/ والجدران ُ تصرخ ُ يا إلهي ..... وأنت تطال ُ مرتبكا وتغنم ُ عادةً /
هي ذي قصيدتك الجديدة / كنت تهجرها فتأتي" . - اللعنة ، لقد نسيت هذي القصيدة التي كنت أحفظ ، ولا أتذكر الآن أيضا هل هي من ديوانه الثاني أم من الديوان الثالث "حكيم بلا مدن"- ، هذا نموذج رائع للشعر الخالص كما نزفه كمال سبتي في دواوين عديدة، لا نرى فيها فذلكات لغوية أو تصحرات ذهنية موهومة بدعوى الحداثة الشعرية أو تلاعب بالمفردات أو تعويلا عليها ، بل نلمس مناخا شعريا أخّاذا واحتراقا داخليا محتدما وشفيف، فتأخذنا حالات شعرية بدفق موجع ، ولست هنا في سياق إيراد أمثلة عن شاعرية هائلة ..

كمال سبتي شاعر مشروع متكامل أنجزه بكدّ المبدع الحقّ وهمومه الإبداعية الممضة ، ينطلق من موهبة
فذّة مع ثقافة شعرية ، لغوية ومعرفية رصينة جدا . إنه أحد ألمع الشعراء العراقيين والعرب معرفة بالتراث الشعري العربي واستشهادا به في كتابات ونصوص عديدة ، وقراءاته وعشقه وكتاباته عن الرموز الأدبية
أو الآباء كما كان يطلق عليهم معروفة للجميع، مقاله الرصين عن "الآباء الثلاثة والشغل الشعري" نموذج يحتذى هنا وهو منذ البدايات الأولى تقريبا اعتبر السيّاب أباه الشعري كما ظهر ذلك في عدد ما من الطليعة الأدبية تحدّث فيه "الشعراء الشباب" عن ذكرى السيّاب ، كما أتذكر جيدا. وهو رغم علمانيته ورؤيته الفلسفية غير الدينية للعالم والوجود البشري على دراية بارعة بالقرآن الكريم والحديث النبوي والعلوم المتفرعة عنهما بدرجة قد تكون أعمق وأنضج بكثير من مدّعين علما وعملا ..

شهدت مراحل شغله الشعري ( ومصطلح الشغل الشعري هو له قبل غيره وهو كمال سبتي نفسه كذلك ) قفزات كبيرة مقارنة مع أقرانه كما ويمكن التوقف عند قصيدته الرائعة الطويلة " حروف المصحح" كمحطة انطلاق جديدة في تطوره الشعريّ الجامح وهو ، كما قد أتذكر جيدا ، نشرها أول مرّة في الطليعة الأدبية أيضا مصحوبة ببيانه الشعري وتحضرني الآن جملة من هذا البيان هي قوله " لم لا يكون هذا هو الشعر " ، وكذلك سطر من القصيدة " وأنا سبع زجاجات من البيرة ، سبع روايات عن مقتل ثعلب " .
مع حروف المصحح ، كما أعتقد ، بدأ كمال سبتي طريقته المميزة في السرد الشعريّ واستمرّ في شغله الذي انبثق عن بيانه وفهمه الخاص " للحداثة الشعرية " محققا مجد تراثه الشعري ، وقد دعّمه بتأصيل تنظيري نشر بعض فصوله وقد ضمّ كتابه " بريدٌ عاجلٌ للموتى " الذي صدر عن دار مخطوطات - بطباعة يدوية محدودة ومتقنة عرف بها الشاعر والفنان ناصر مؤنس - بعضا من هذا التنظير لمشروعه الشعريّ وكنت قد سمعت شخصيا في أسابيع ماضية من الفقيد كما وأكّد ذلك صديقي المفجوع رياض من أنه "كان" يعمل على ثلاثة أو أربعة كتب في وقت واحد ، منها ديوان جديد سبق وأعلن عنه في إحدى مقالاته الأخيرة والبقية قد تكون كتبا تدخل في سياق التنظير الأدبي لمشروعه الشعريّ.

عاش الفقيد الكبير سنواته التسع في هولندا في عزلة تكاد تكون تامة ،عزلة خصبة ومميتة في نفس الوقت، اهتماماته الوجودية محدّدة ومعلومة ، القراءة والكتابة ومتابعة أخبار البلد .. ، تواصل عبر الهاتف وإطلالة على المحيط القريب من أجل الطعام والشراب ، أيامه من فرط التشابه تكاد أن تكون يوما طويلا واحدا وهاهو يصفها في قصيدة كتبها قبل ستة أشهر فقط ونشرها في بعض المواقع كما وضمّها ديوانه الذي صدر مؤخرا عن دار الجمل " صبرا قالت الطبائع ُالأربع " أيّامي .. أيّامي / متشابهة ٌ في كلّ نهار ٍ/ يخرجُ سلطانٌ مهزوم ٌ من رأسي فأجوبُ به الناس / خجلا مخذولا محنيّ الرأس/ أيامي .. أيّامي / متشابهة ٌ في كلّ مساء ٍ / يخرجُ سلطان ٌ ذو صيتِ منازلة ٍ / فأجوبُ به نفسي / بكؤوس ِ كحولٍ / حتى أثأر من أعدائي / أو قل حتى أثأر من نفسي / أيّامي .. أيامي/ متشابهةٌ / ليست أيّام الله إذن / ليست أيّام َ نعيم ٍ أو إنجاء ٍ من أحد ٍ / بل أيّامي ".
حتى مفهوم النافذة معطّل في مفردات أيّامه فالستائر مسدلة طيلة اليوم ، لا فرق نهارا كان أو ليلا ، سمعت
هذا مرارا منه وأكّدته جانيت صديقته الهولندية السابقة قبل يومين في زيارتي الأخيرة إلى بيت الفقيد صحبة رياض سبتي و شعلان شريف وحميد حداد وثامر الخفاجي .

لا أدري ماذا أقول أو كيف أقول ما أعرف ، لكنها أمراض الثقافة العراقية كما صنعوا منها في سنوات الدكتاتورية والتي ما زالت تنعم بصحة جيدة للأسف الشديد ..التملق والاستجداء بالشعر، المحسوبية على حساب الإبداع والشطارة لصيد الفتات والترويج الفج عن الذات عبر إعلانات كاذبة والتنافس غير الصحي والتهميش وفهم الشعر باعتباره ترف وطبطبات سمجة وضحكات تباه مقرفة .. وورثة هذي الأمراض
(هنا أوهناك) هي التي حاربت كمال سبتي والمبدعين الحقيقيين من أمثاله وشكّلت أحد الأسباب التي قادته
إلى المنفى ليغيب أخيرا في منفى المنفى وبحضور هذي الأمراض ..

لقد كتب بعض النقاد والشعراء عن تجربة كمال سبتي كما وترجمت بعض أعماله إلى لغات عديدة، منها ديوانه " آخر المدن المقدّسة " كاملا إلى الأسبانية ، لكنني أرى أنه لم ينل بعد ما استحق فعلا وبما ينسجم ومنجز أحد أهمّ شعراء العربية في هذا العصر، هذا الوقت سيأتي ، فعلى عادتنا " نحن العراقيين والعرب "
لن نعرف قيمة مبدعينا حقا ولن نعترف حقيقة بهم إلا بعد غيابهم كمدا وألم ..

كمال سبتي .. ؟
لا أدري .. ربما في " لا تحاول أن تسمي ما لا يمكن تسميته " بعضا من إجابة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان