الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فصلٌ من الكوميديا الليبية السوداء (3/3)

محمد بن زكري

2019 / 4 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


طرابلس كلمة السر

في طرابلس (وحدها) دون سواها ، و في ميدان السراي الحمراء ؛ يمكن أن تتبيّن - أو تتحدد - الخطوط الرئيسة أو الملامح العامة للمستقبل ، عند أي منعطف تاريخي للسلطة في ليبيا .
في 20 أغسطس 2011 ، كان الأمر قد حسم - إلى حين - باستعراض (شعبويّ) للقوة في ميدان السراي الحمراء ، قامت به طلائع مسلحة من أبناء الفقراء البسطاء ، المحرومين من حقوقهم و من ثروة بلادهم ، تعبيرا (رمزيا) عن الانتصار في التخلص من نظام استبدادي فاسد ، في تلك الانتفاضة الشعبية (المُحِقّة ، و المجهَضة) ، التي ما كان لها " موضوعيا " إلا أن تنتهي إلى ثورة مضادة ، حيث ركب موجتها و التف على حراكها الإسلاميون و النيوليبراليون ، لصالح قيام نظام الغنائم و سلطة الكومبرادور ، بدعم كامل من دول حلف الناتو ، تحت غطاء أممي (قرار مجلس الأمن 1973) ، و هو النظام الذي آلت مسؤولية إدارته إلى المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني ، بموْجب صفقة اتفاق الصخيرات .
و قد نص اتفاق الصخيرات ، على إلزام حكومة الوفاق الوطني بتفعيل مؤسستيّ الجيش و الشرطة ، و جمع السلاح الثقيل و المتوسط من الميليشيات (التشكيلات المسلحة) ، و تسوية أوضاع منتسبيها و تطبيق قرار حلها ، وفقا للترتيبات الأمنية المقررة في وثيقة الاتفاق (المواد من 33 إلى 46) . غير أنه بدلا من أن تلتزم حكومة المجلس الرئاسي بحل الميليشيات (التشكيلات المسلحة) و تجريدها من السلاح ، فقد شرعنت وجودها ، و دعمتها بمزيد من السلاح و بفائض من الأموال ؛ إمّا لعجز حكومة المجلس الرئاسي عن تنفيذ قرار حل الميليشيات و نزع سلاحها ، و إمّا لغرض توظيفها سياسيا في مفاوضات اقتسام السلطة ، أو لكلا الأمرين . على أن الملفت - في هذه الجزئية من الكوميديا الليبية السوداء - هو أن ذلك كان يتم بعِلم و غض بصر (المجتمع الدولي) ، الذي استولد و تبنى اتفاق الصخيرات المسخ (!) .
و إن الواقع على الأرض الآن ، بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على اتفاق الصخيرات ، الذي استنفذ - تماما - مدة سريانه ، اعتبارا من 17 ديسمبر 2017 ؛ لا زال المجلس الرئاسي لحكومة (الوفاق الوطني) ، المنبثق عن ذلك الاتفاق ، متمسكا بالبقاء في السلطة ، كأمر واقع ، مثله في ذلك مثل طرفيّ إبرام صفقة الاتفاق السياسي لتقاسم سلطة الأمر الواقع في ليبيا ، و هما : برلمان طبرق ، و المؤتمر الوطني العام (المجلس الأعلى للدولة / لاحقا) . على أنه من اللافت للنظر ، و مما له بالغ الدلالة سياسيا ، هو التفاهم و التقارب الكبيرين ، بين المجلس الرئاسي و مجلس الدولة ، وذلك في مقابل الشقاق و فك الارتباط بين الرئاسي و البرلمان ؛ ما يعني في التحليل الأخير ، خسارة سياسية ماحقة لبرلمان طبرق في صفقة اتفاق الصخيرات ؛ ذلك أن الطرف السياسي الأقوى ، محليا و على مستوى العلاقات الدولية ، هو من يسيطر على عاصمة الدولة و بنكها المركزي ، و من يملك القرار السياسي النافذ في إدارة مؤسساتها السيادية و شؤونها العامة .
إن محصلة القراءة في وقائع نحو ألف و خمسمائة سنة من تاريخ ليبيا (و على الأقل منذ ثورة الأمازيغ - سنة 523 للميلاد - بقيادة كاباون ، لدحر الغزاة الوندال من طرابلس) ، هي أن من يتقلد الأمور في طرابلس ، بأية وسيلة ، هو وحده من يحكم ليبيا .
و طرابلس الآن و منذ ثماني سنوات ، تهيمن عليها الميليشيات المسلحة عسكريا ، و يتقلد الأمور السياسية و مواقع الإدارة العليا فيها الكومبرادور (الوكلاء التجاريون و الراسمالية الطفيلية) ، بقيادة تنظيم الإخوان المسلمين العابر للحدود . و ذلك بالتقاطع مع مصالح الراسمالية العالمية ، الحاضرة بقوة ، في السياسات الاقتصادية ، لنظام الغنائم و حكم الكومبرادور .
و إن التشكيلات المسلحة (الميليشيات) ، اللاشرعية بطبيعتها ، التي (تحتل) عاصمة الدولة الليبية ، و التي ظلت طيلة سنوات ما بعد حرب 2011 ، ترفض أن تعيد - للدولة - ما استحوذت عليه من السلاح ؛ سوف لن تنصاع أبدا لقرار حلها و تسليم سلاحها ، إلا قتالا و مغالبة بقوة السلاح ، خاصة مع ما توفره لها حكومة الكومبرادور و الإسلاميين من غطاء رسمي ، على قاعدة تبادل الحماية و الاحتماء بين الفئتين . و ما الحرب إلا ممارسة عنيفة للسياسة ، و ما نتائج مفاوضات السلام حول طاولة الحوار السياسي ، إلا تحصيل حاصل ، كشكل إجرائيّ لترتيب تسليم الطرف الأضعف بانتصار الطرف الأقوى على الأرض ، و ذلك هو ما حدث في الصخيرات ، و ذلك هو ما سيحدث كمحصلة للحرب الدائرة الآن على تخوم العاصمة طرابلس ، وصولا إلى إعلان النتيجة في ميدان السراي الحمراء .
و لولا تمسك المجلس الرئاسي بسلطة الأمر الواقع ، شأنه في ذلك كشأن برلمان طبرق و مجلس الدولة ، مهما كان الثمن ، وذلك بما هو (الرئاسي) ممثل لأجندة الإسلاميين السياسية و مصالح الكومبرادور الاستغلالية . و لولا تغوّل الميليشيات و اغترارها بالقوة ، و احتكامها إلى السلاح دفاعا عن مصالحها المادية الخاصة ؛ لكان حكام طرابلس قد حكّموا العقل و فضلوا المصلحة العليا للوطن على مصالحهم الشخصية و الفئوية ، و تركوا الجيش يعود - سلميا - إلى معسكراته و ثكناته ؛ لتكون كلمة الفصل بعد ذلك للشعب في حراكه المدني . و لولا أميتهم السياسية ، التي تؤجج سُعار تشبثهم بالكراسي و الغنائم ، لكانوا قد وعوا أن اللعبة انتهت .
إن معطيات الواقع محليا و دوليا ، لا تَبقى على حال واحدة . فالأوضاع (في الشارع الليبي) قد تغيرت اليوم (2019) كليا ، عما كانت عليه في 14 فبراير 2014 ، عندما ظهَرَ الجنرال خليفة حفتر على شاشة إحدى الفضائيات الليبية - و هو يرتدي بزة التشريفات العسكرية - ليعلن عن تجميد عمل المؤتمر الوطني العام و حكومة علي زيدان ، ليتبيّن سريعا أن الأمر لا يعدو كونه انقلابا عسكريا شفهيا متلفزا ، لا رصيد له من الواقع على الأرض . أما على الصعيد الدولي ، فإن الموقف من الأزمة الليبية (المزمنة) ، قد تحول اليوم كثيرا عما كان عليه في 17 ديسمبر 2017 ، عندما أعلن الماريشال حفتر انتهاء اتفاق الصخيرات . و نحن معه - كليا و بالمطلق - في كل كلمة قالها يومئذ . و قد قلنا مرارا ما هو أكثر من ذلك (انظر مثلا مقالنا المطوّل على الرابط : http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=583118 ) ؛ فاليوم في ابريل 2019 ، ما كان للقوات ، التي يسميها المارشال حفتر : القوات المسلحة " العربية ! " الليبية ، أن تصل أبدا إلى مشارف العاصمة طرابلس ، لولا غض بصر - أو لا مبالاة - البيت الأبيض ؛ و إلا لكان الماريشال حفتر قد تبلّغ رسالة (فيتو) توقِف تَحرك قواته إلى طرابلس ، كتلك التي تلقاها - يوليو 2017 - من البنتاغون ، على لسان قائد القوات الأميركية في أفريقيا - أفريكوم (الجنرال توماس فالدهاوزر) ، بواسطة رئيس الأركان المصري (الفريق محمود حجازي) ، من أن " الولايات المتحدة ، لن تقبل بأي حل في ليبيا ، خارج توافق المجتمع الدولي بشأن حكومة الوفاق ، و اتفاق الصخيرات " . ذلك أن ما يسمى المجتمع الدولي ، و في المركز و المقدمة منه أميركا ، قد استنفذ حاجته من حكومة الوفاق الوطني التي باتت ورقة محترقة ، و نفذ صبره عليها ، و صار يخشى أن تتطور الأوضاع في ليبيا إلى ثورة غضب شعبي منفلت ، على نحوٍ تتعذر معه السيطرة على حراكها ، أسوة بما حدث في الجزائر و السودان ، خاصة و أن الحالة الليبية أشد قابلية للانفجار (العنيف) غير القابل للاحتواء ، جرّاء تردي الأوضاع المعيشية لأغلبية الطبقة الوسطى ، إلى ما دون مستوى خط الفقر المطلق ، مع استفحال ممارسات الفساد المالي - في الأجهزة الحكومية كافة ، بما فيها البنك المركزي - بصورة غير مسبوقة ، منذ وصول حكومة الوفاق (الكومبرادورية) إلى السلطة في طرابلس .
و إننا نعلم أن الأطراف - المحلية و الدولية - كافة ، تعلم علم اليقين أن ما يسمى الاتفاق السياسي الليبي ، لم يتجاوز منتجع الصخيرات المخملي الذي أُعلن منه ، و أنه قد وصل في التطبيق إلى حائط مسدود ، حتى قبل أن تنتهي المدة المحددة لسريانه في 17 ديسمبر 2017 . فاليوم و القوات التي يقودها الماريشال حفتر ، تتحرك عملانيا على مرمى البصر من ميدان السراي الحمراء بالعاصمة ؛ لم يعد من الواقعية في شيء ، أن يفكر رئيس المجلس الرئاسي ، بنفس منطق ما قاله - في ديسمبر 2017 - ردا على الماريشال ، من أن حكومته " مستمرة في عملها ، و لا وجود لتواريخ لنهاية الاتفاق السياسي " ، أو أن يَعِد مجددا بما وعَد به وقتها من أنه " ملتزم بإجراء الانتخابات في ليبيا خلال العام 2018 !!) " . و ليس من الوارد مطلقا أن يعود حفتر من حيث أتى ، كما يتوهم المراهنون على صمود الميليشيات و دعم المجتمع الدولي .
و نحن لا نتوفر على أية أوهام ، بأن الماريشال (أركان حرب) خليفة حفتر ، سيدخل العاصمة طرابلس ، و هو يحمل لنا الديموقراطية على طبق من الذهب أو حتى من السعف . لكن منذا الذي يجرؤ على الادعاء بأن الميليشيات تفهم شيئا في الديمقراطية أو أن الإسلاميين يؤمنون بمثقال ذرة من الديمقراطية ؟! و مغالِط مكابِر هو ، أو موتور ، أو مستفيد ؛ من يتوفر على فائض من الجرأة على الحقيقة ، كي يتحدث عن مدنية الدولة و الديموقراطية ؛ تحت فوهات بنادق الميليشيات ، أو تحت نعال و شعارات الإخوان المسلمين و مشتقاتهم . و إنّ في تجربة الثماني سنوات الفائتة ، عبرة لكل من يعتبر ، من دروس مدنية و ديمقراطية : ثورة التكبير ، و دولة دعه ينهب دعه يمر .
و بكل الوضوح ، إن لدينا من التحفظات على السيد خليفة حفتر الكثير الكثير ، فكريا و ثقافيا و سياسيا . و نحن لا نتوقع أو نفترض سقفا عاليا لأداء الماريشال (أركان حرب) خليفة حفتر ، كممارس سياسي . ففي صلته الوثيقة بتيار السلفية المدخلية (التكفيرية) ، ما يبرر التوجس من دكتاتورية التطرف الديني و الإرهاب الفكري ؛ على نحو ما حدث في احتفالية يوم الأرض (2017) مع طلاب جامعة بنغازي ، الذين وصفتهم هيئة الأوقاف بالبيضاء في بيانٍ رسميّ بأنهم " أراذل " ، و وصفت الحدث بأنه " مشين ، و ملتقى للفجور " . فضلا عمّا حدث في مدينة المرج ، من مصادرة مديرية الأمن لشحنة من الكتب ، بحُجة أنها كتبٌ تدعو للعلمانية و الإباحية ! . و كذلك الأمر في الموقف العنصري العروبي (المؤدلج عِرقيّا) للماريشال حفتر ، من الأمازيغ و الأمازيغية ، و نظرته الاستعلائية إلى التوارق . و هو بالتأكيد لا يعلم - كما كل المغيَّبين معرفيا - أنّ الأغلبية الساحقة عدديا من الليبيين ، هم عِرقيّا أمازيغ مستعربون لسانيا ، كما هو حال قبائل هوّارا : سكان طرابلس الكبرى الأصليون من زنزور الى تاجورا ، و أهالي ورفلا قاطبة ، و غريان ، و يزليطن (على سبيل المثال لا الحصر) ؛ فثورة الاتصالات و المعلومات أزالت الغشاوة عن العقول . لكن بالمقابل ، منذا الذي يجرؤ على الادعاء بأن الميليشيات المسلحة الإسلامية المتطرفة (التكفيرية) و القبلية و الجهوية ، التي تحتل عاصمة الدولة الليبية بمنطق الغلبة و وضع اليد ، هي أخف وطأة اغتراب هوية - ديماغوجية الخطاب - من التوجه الفكري و السياسي الذي يتبناه الماريشال حفتر ، و يمثله عملانيا في قيادته للقوات المسلحة (العربية) الليبية ؟
و نحن نعلم تمام العلم ، أن أيّ نظام قادم في ليبيا ، لن يكون غير إعادة إنتاج لمشروع ليبيا الغد النيوليبرالي ، بديموقراطية شكلية (زائفة) عديمة القيمة ، و بمضمون اجتماعي متخلف ، يكرس واقع علاقات الفرز الطبقي الظالمة القائمة حاليا ، استمرارا للعشرية الأخيرة - النيوليبرالية - من نظام معمر القذافي ؛ عملا بوصفة صندوق النقد الدولي ، و اشتراطات منظمة التجارة العالمية : من قبيل إلغاء دور الدولة الضامنة ، و إطلاق حرية السوق ، و تحرير الأسعار ، و خصخصة الشركات العامة ذات الربحية العالية (كشركات الاتصالات) ، و بيع أصول الدولة ، و إلغاء الدعم الحكومي للسلع الاستهلاكية و المحروقات ، و دعم القطاع الخاص الطفيليّ على حساب جيوب المواطنين ذوي الدخل المحدود ..
و إننا لَعلى قناعة تامة بأنه ليس مِن منقذٍ للشعب إلا الشعب نفسه ، و أن الديمقراطية و العدالة الاجتماعية ، ليستا إطلاقا على الأبواب ؛ ذلك أن الديمقراطية و العدالة الاجتماعية ، لا تأتيان هبة من النظام ، و لا يمكن أن تتحققا إلا بالنضال الشعبي الدءُوب من أجلهما . و نقول مع الفيلسوف الألماني هيغل : " ملعونٌ هو الشعب الذي يعبد البطل ، حتى لو كان بطلا فعلا " .
و لأن كاتبَ هذي السطور هو صاحبُ رأيٍ مستقل ، ممن هُم لا يخدمون أية أجندة حزبية و لا ينتمون إلى أيّ حزب ، و لا يبحثون عن أيّ دور في لعبة السلطة ، و لا ينتظرون جزاء و لا شكورا من أحد ، و لا يعرّفون أنفسهم إلا بالهوية الليبية و الانتماء للإنسانية ؛ فإنه بكل الوضوح ..
إننا نكره الحرب كراهية مطلقة ، و نمقت الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد مقتا شديدا . و كم تمنينا و نتمنى أن يرتفع الجميع إلى مستوى الولاء للوطن الليبي (وحده لا شريك له) ، فتضع الميليشيات سلاحها غير الشرعي ، اختيارا و تنازلا لوجه الوطن و امتثالا لإرادة الشعب ، ويدخل الجيش (النظامي) إلى ثكناته بسلام ، فلا غالب و لا مغلوب . لكن و الحال أنه قد تم إهدار كل فرص الحوار للخروج سلميا من مستنقع الصراع الهمجي على السلطة ؛ فإنه لم يعد ثمة من خيار (بالمطلق) غير الحسم بالقوة العسكرية الغاشمة (بأقل قدر ممكن من الخسائر) . و إننا إذ نصطف - سياسيا - إلى جانب عملية طوفان الكرامة ، فإنما نفعل ذلك مفاضلةً بين السيِّئ و الأسوأ . و (الله غالب) .
اللعبة منتهية . و غدا يوم آخر ، يبدأ من ميدان السراي الحمراء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس الصيني في زيارة إلى فرنسا تركز على العلاقات التجارية


.. مفاوضات حماس وإسرائيل تأتي في ظل مطالبة الحركة بانسحاب كامل




.. مصدر مصري رفيع المستوى يؤكد إحراز تقدم إيجابي بشأن مفاوضات ا


.. النازحون يأملون وصول إسرائيل وحماس إلى اتفاق وقف إطلاق النا




.. Ctقتيلان وعدة إصابات بغارة إسرائيلية استهدفت بلدة ميس الجبل