الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(( الغزل الرقراق في شعر جاسم الصحيح ))

حسناء الرشيد

2019 / 5 / 2
الادب والفن



بغير مقدماتٍ قد تستغرقُ الكثير من الوقت , ولأنني اعتدتُ أن يكون لخيالاتي وتصوراتي الدورَ الأكبر في قراءاتي للأبيات الشعرية التي تلفتُ انتباه روحي فقد كان هذا تحديداً السبب الرئيسي وراء اختياري للكتابة عن قصائد ( جاسم الصحيح ) , فكلما استمعتُ لأبياته أو قرأتها وجدتني أتخيلهُ وهو يلقيها على مسامع حبيبته الخجولة , تلك التي تخفضُ رأسها خجلاً وتحاولُ الهروب بعينيها من عينيه لكنها لا تستطيعُ منعَ نفسها من النظر نحوهُ بدهشةٍ بين الحين والآخر كلما طرقت مسامعها عبارةٌ لم يخطر على بالها أنهُ سوف يقولها كي يُعبّر بها عن مدى حبهِ لها , بل عن طريقتهِ المختلفة في الحب والغزل , وأقصدُ بذلك ( الغزل الرقراق ) كما ذكرتُ في عنوان موضوعي .
فشاعرنا يكتبُ الشعر العموديّ بثقافةٍ واضحة , بطريقةٍ تجعلكَ تظنُّ أنكَ تقرأ قصيدةً لشاعرٍ من العصر الجاهلي ثم ما تلبثُ أن تتبينَ أن الأمر ليس كذلك وأنهُ جمعَ بين جمال الشعر في ذلك العصر وبين حداثة الشعر المعاصر ولكن بطريقةٍ ملفتةٍ للانتباه فعلاً .
فحينَ نجدُ أن أبيات الشعر الغزليّ _تحديداً_ قد تثيرُ الخجل الشديد لدى من يستمعُ إليها , كما لمسنا من خلال قراءتنا ( للشعر الماجن ) أو للشعر الذي يركزُ على إبراز جمال جسد المرأة بطريقةٍ قد تخدش الحياء أحياناً , نجدُ أننا معهُ نرغبُ في الانغماس بتفاصيل الصور التي تجسدها أبياته , كيف لا وهو يخاطبُ حبيبتهُ مثلاً بقوله :
كل النساءِ أحاديثٌ بلا سندٍ
وأنتِ أنتِ حديثٌ لابنِ عباسِ !!
فهو هنا , يصفها بوصفٍ قد لا يخطرُ ببالِ أحدٍ غيره , فأن تصف حبيبتك بالجمال , الدلال , الرقة أو أن تتغزلَ بشفتيها أو عينيها , هي أمورٌ طبيعيةٌ للغاية وقد نتقبلها من دون أن نتوقف عندها وعلاماتُ الدهشة ترتسمُ بوضوحٍ على ملامحنا ونحنُ نراها محاطةً بهالةٍ من القداسة التي يصرّ الشاعر على أن يحيطها بها في أغلب قصائده , وهو يكملُ حديثهُ معها في ذات القصيدة بقوله :
ملأتني بكِ حتى مسّني خجلٌ
من فرطِ ما غازلتني أعينُ الناسِ
فهو هنا يصفها بالجمال البارع لكن بطريقةٍ غير مباشرة حين يبينُ أن جمالها طُبعَ في ملامحه وصارَ صفةً لصيقةً به .
وهو قد يودّ أحياناً أن يخبر حبيبته بأنهُ لها لا لغيرها ولكن بطريقةٍ غير مباشرةٍ أيضاً :
لي من هواكِ هويةٌ فكأنما
من صاح يا أهل الهوى يعنيني !

أما في تعريفهِ للعشق , فهو يتحدثُ عنهُ بــ ( روحانيةٍ ) واضحة حين يقول مثلاً :
في العشقِ تنصهرُ الأعمارُ في عمرٍ
من الخلود كأنَ اللحظةَ الأبدُ
قامت قيامةُ أشواقي وليس بها
إلا حميمٌ على ذكراكِ يتّقدّ , ويا لروعة الوصف في البيت الثاني .
وهو أحياناً قد يتحدثُ عن الحب بإسلوبٍ فلسفيّ أيضاً :
خطُّ استواءِ الهوى في كلّ خارطةٍ
للكونِ يمتدُ من جنبي إلى جنبي
خوفاً على الأرض خوفاً من تدحرجها
بالخلقِ علّقتها في عروةِ الهُدبِ

أو ..
ودنوتُ منكِ دنوتُ حتى خلتني
أدنو إلى سرّ الحياة لأدركه

أو يقول كذلك :
للهِ حسنكِ حسنٌ لا قياسَ لهُ
ما كان للهِ لا يخضع لمقياسِ , وهي إشارةٌ واضحة إلى الحديث المعروف " إن الله جميلٌ يحبُ الجمال "

وهو في قصيدةٍ أخرى يتناولُ الحب بمفهومٍ آخر , وذلكَ حين يقومُ باستعارةِ بعض الرموز الدينية كالإمام علي ( عليه السلام ) أو فكرة ظهور المهديّ المنتظر مثلاً وغيرها من الاستعارات التي اعتادَ الشاعر على إيرادها في قصائده :
من أفقِ وجهكِ فاضَ الوحيُ وانهمرا
كأنما الله قد حيى بهِ البشرا
كأنما الله يغرينا لنسألهُ
أصدفةً كان هذا الوجه أم قدرا ؟
ويا لروعة الوصف والتساؤلات البالغة الأناقة , ثم نراهُ ينتقلُ ليقول وهو يحاولُ الوصول لوصفٍ مقاربٍ لمقدار حبهِ لها :
أهواكِ مقدارَ ما صلى ( أبو حسنٍ )
وِرداً وأكثرَ مما أطعمَ الفقرا !!
ثم ينتقلُ للكلام عن الإمام المهدي في إشارةٍ واضحةٍ لما سيحدث يوماً :
الآن عصرُ ظهورِ الحبِ في عمري
ومن علاماتهِ أن يشطرَ العمرا
وهو بين هذا وذاك قد يعرجُ نحو الغزل الواضح أحياناً ويصوغُ لنا من تساؤلاتهِ عقداً غير منفرط , بعد أن ملّ السكوت الخجِل ( فمتى ستفقسُ بيضةَ الكلماتِ ) كما يقول في إحدى قصائده , ولكنها ما إن تُفقس حتى تظهر لنا الحروف والصور المضمخةَ بطيب العشق وضَوعه الذي لا تخطؤهُ القلوب الثملةَ بخمرته :
ومتى سأبصرُ في جبينكِ صورتي
عذراءَ , ترفلُ في أتمّ صفاتي
ومتى نقيمُ من العناق حديقةً
ونصوغُ أطفالاً من القبلاتِ
وهو لا ينفكُّ يمارسُ هوايتهُ الأثيرة في الكلام مع الأنثى ( الحُلم ) ويُدلّلها بأجمل الكلمات :
أدلّلُ الليل بالانثى الحنونِ كما
يُدَلَلُ الشاي بالنعناع والحَبَقِ
وشاعرنا يرسمُ بذاتِ الفرشاة المغمسةِ بالماء العذب حتى حينَ يهمُ بأن يصف لنا مشهد الوداعِ الأخير بين حبيبين , مثلاً :
وليلٌ عليهِ التفّ ثوبُ وداعنا
تُطرزهُ شهبٌ من الحسراتِ
سهرناهُ إلا نجمةً حينَ أشرقت
رأت معبدَ النجوى بلا همساتِ
وطاولةٌ ما بيننا مالَ جذعها
على الخشبِ المحروقِ بالزفراتِ
شبكنا أيادينا عليها فلم نجد
سوى زهرةٍ نشوانةِ البتَلاتِ
فما أروعَ الإنتشاء بعذوبة الآخر حتى إن كان يهمُّ بالابتعاد والرحيل عن محبوبه , ما أروعَ أن لا يُسكرنا غير عطره وإن ابتعد ونأى !!

وهو قد يصفُ الجمال المستورَ عن أعين الناس أحياناً , ويا لجمال وصفه :
وسوادُ ملفعكِ الحنون يكادُ من
فرطِ الحنان يضيءُ في جنَباتي

والــ ( قُبَلُ ) علاج , كما يقولُ في أحدِ أبياته :
ما قُبلةَ العشاق إلا حقنةً
في الروح ... حقنةُ رأفةٍ وحنانِ

وشاعرنا ينحو نحو وصف ذاته والكلام عنها بين الحين والآخر , مثلهُ في هذا مثلُ أغلب الشعراء المعتدّين بذواتهم , فتلك الذات التي قد لا تكونُ واضحةً للآخرين تمام الوضوح لا بدَ لهُ من محاولةِ إبرازها بصورةٍ مميزة , بالوصف , السرد أو ربما بالتساؤلاتِ أحياناً مما يدعو القارئ للرغبة في الإبحار والبحث عن مفرداتِ تلك الذات التي قد تكونُ غائبةً عن نظره ولكنها موجودةٌ فعلاً بين أبيات قصائد ( جاسم الصحيح ) :
وما أنفكُّ أسألني لماذا
أتيتُ إلى الوجودِ وما دُعيتُ
لماذا اختارني الملكوتُ نرداً
على أطرافِ عتمتهِ رُميتُ
وهل أقدارنا إلا قماشٌ
يُحاكُ كما تُحاكُ لنا ( البشوتُ )
تقولُ ليَ الحياة : إليكَ عني
وأحياناً تقولُ : إليكَ هيتُ !
فكيفَ أجرُّ أقدامي وأمضي
و ( هدهدُ ) رحلتي قدَرٌ شتيتُ .. ؟؟



(( حسناء الرشيد ))








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت


.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال




.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب


.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي




.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء