الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل أصبح العالم غابة مرة أخرى ؟ وهل يجب على الأمريكيين أن يهتموا ؟

فارس تركي محمود

2019 / 5 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


في الثاني والعشرين من أيلول / سبتمبر عام 2018 نشرت جريدة نيويورك تايمز ( New York Times ) مقالاً مهماً للكاتب والصحفي الأمريكي ستيفن إرلانجر ( Steven Erlanger ) - رئيس مكتب صحيفة نيويورك تايمز في لندن - جاء تحت عنوان " هل أصبح العالم غابة مرة أخرى ؟ وهل يجب على الأمريكيين أن يهتموا ؟ " ، " Is the World Becoming a Jungle Again? Should Americans Care? " وعلى الرغم من أن العنوان جاء بصيغة استفهامية إلا أن الاستفهام ليس هو المقصود بل التقرير ، أي تقرير الحقيقة القائلة بأن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الشؤون الدولية وعدم تدخلها بشكلٍ فاعل وانكفاءها على ذاتها سيعود بالعالم القهقرى ويرجع به إلى عصر قانون الغاب .
ويطرح الكاتب في مقاله جملة من التساؤلات تدور حول السياسة الخارجية الأمريكية لتكون بدورها مدخل لسؤال أكبر يتعلق بالدور الأمريكي في النظام العالمي بشكلٍ عام ، بل ويتطرق – بشكلٍ موارب – إلى واحدة من أهم الأفكار التي استقرت وحفرت عميقاً في الوعي والعقل الجمعي الأمريكي ، والتي قامت وبنيت عليها الولايات المتحدة الأمريكية وأثرت وما زالت تؤثر في التاريخ الأمريكي بشكلٍ عام وفي السياسة الخارجية الأمريكية بشكلٍ خاص ألا وهي فكرة " الاستثنائية الأمريكية " والقائلة بأن الولايات المتحدة تختلف وتتمايز عن غيرها من الدول والتجارب البشرية السابقة لها نشأة وتكويناً وفكراً وسلوكاً فهي الاستثناء بمعناه الإيجابي ، وهي المعيار الأصح الذي تقاس به تجارب وسلوكيات الآخرين ولا يقاس هو بأحد ، وهي النموذج الصالح لكل زمان ومكان ، وأن بقاءها كدولة مسيطرة سيطرة مطلقة ومتحكمة بالشؤون الدولية يعد مصلحة وفائدة للعالم أجمع قبل أن يكون مصلحة أمريكية ، فهي – أي الولايات المتحدة الأمريكية – الدولة الخيِّرة ( Benevolent State ) .
بناءً على هذه الفكرة وانطلاقاً منها يطرح الكاتب آرائه ورؤاه ممزوجة بآراء عدد من الكتاب والمفكرين الأمريكان سواء المحسوبين منهم على التيار الواقعي أو أولئك المنتمين للتيار المحافظ ولتيار المحافظين الجدد ، وكل الآراء الواردة في المقال تدور حول فكرتين أساسيتين :
الأولى : الفكرة القائلة بوجوب زيادة التدخل الأمريكي الفاعل وحتى الخشن في الشؤون الدولية وتعزيز القيادة الأمريكية للنظام العالمي ، والتحذير من العواقب الوخيمة والكارثية التي قد تترتب على تخلي واشنطن عن دورها العالمي المهيمن . ومن أبرز الكتاب في هذا المجال الكاتب والمفكر الأمريكي روبرت كاغان (Robert Kagan ) الذي يعد من أبرز رموز تيار المحافظين الجدد ، والذي ألَّف الكثير من الكتب التي ناقش فيها تلك الفكرة كان آخرها الكتاب المعنون " قانون الغاب يعود : أمريكا وعالمنا الخطير " (The Jungle Grows Back: America and Our Imperiled World ) الذي أكد فيه على أن تخلي الولايات المتحدة عن دورها كـ ( ضابط ) للنظام الدولي سيعود بالعالم إلى عصر الغابة المظلم والحروب والصراعات العرقية والقبلية ومما جاء على لسانه " إن العالم الليبرالي الذي أسسته الولايات المتحدة الأمريكية بدأ ينهار " ويعزو سبب الانهيار إلى تراجع قدرة واشنطن على تأدية واجباتها العالمية ، وتقصيرها في الحفاظ على " الجنة الليبرالية " التي انتجتها و " الاستثناء التاريخي " الذي صنعته في العقود السبعة السابقة ، ويؤكد على أن العالم سيتعرض إلى مخاطر وتهديدات كبيرة في حالة غياب الدور الأمريكي ، ولا يستثني من تلك المخاطر أية منطقة أو بقعة جغرافية على وجه الأرض بما فيها أوربا التي ربما ستعود – بحسب – رأيه إلى الحالة التي كانت عليها في حقبة الثلاثينيات من القرن المنصرم ، أي عودة الايديولوجيات المتطرفة كالنازية والفاشية . والخلاصة التي يريد الكاتب أن يصل لها أن الأمة الأمريكية هي الأمة التي لا غنى عنها وإن قيادتها للعالم وهيمنتها عليه يصب بالنهاية في مصلحة البشرية .
أما الفكرة الثانية المتبناة من قبل ما يسمى بالتيار الواقعي تنادي بضرورة تقليل التدخل الخارجي الأمريكي لأنه لا يؤدي إلا إلى مزيد الأضرار والخسائر للعالم وللولايات المتحدة على السواء ، ويعد ستيفن والت ( Stephen Walt ) استاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد من أبرز رموز هذا التيار ، لذلك يعمد كاتب المقال إلى إيراد عدد من آرائه وبخاصة تلك التي ساقها في كتابه الذي يحمل عنوان : جحيم النوايا الطيبة (The Hell of Good Intentions ) والذي يدعو فيه إلى التقليل من حجم التدخل الخارجي الأمريكي ، كما دعا إلى ضرورة الحرص والتدقيق في انتقاء الأهداف إذا كان هناك ضرورة للتدخل . وأشار إلى أن الولايات المتحدة ومنذ انتهاء الحرب الباردة تورطت في سلسلة من المغامرات الفاشلة والمكلفة وغير الضرورية ومن أجل أهداف وشعارات مثالية وغير واقعية ، منتقداً فكرة أو مقولة الدولة الخيِّرة التي تسعى من أجل إدخال العالم الضال إلى ( جنة الليبرالية ) والأخذ بيده إلى طريق الرشاد وإنقاذه من جاهلية العصور الغابرة وقوانين الغاب ، حتى لو استدعى ذلك القسوة عليه ومعاملته بشيء من الخشونة أحياناً .
إن هاتين الفكرتين كانتا ولا زالتا من أكثر الأفكار نقاشاً فيما يتعلق بتوجهات واستراتيجيات السياسة الخارجية الأمريكية ، وفيما يتعلق بتحليل وتفسير تلك التوجهات ، وعلى الرغم من أن التطرق لهاتين الفكرتين والكتابة عنهما ليس بالأمر الجديد ، لكن يمكن القول أن التركيز عليهما قد ازداد كثيراً في الآونة الأخيرة ويبدو أن السبب الرئيس في ذلك يرجع إلى سلسلة الإخفاقات التي منيت بها السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات القليلة الماضية ، وكان العراق هو الإخفاق الأبرز والأكثر إثارة للجدل ، وهو الذي أعاد تلك النقاشات للواجهة ، لذلك نجد أن داعمي وأنصار الفكرتين قد استخدما – كما يذكر كاتب المقال - تجربة الولايات المتحدة الأمريكية مع العراق في محاولة كلٌ منهما لإثبات وجهة نظره . وبخاصة أن الفكرتين أو التوجهين قد تم تطبيقهما في التعامل مع ذلك الملف . فأنصار التيار الواقعي يحاولون التركيز على نتائج الاحتلال الأمريكي للعراق في عهد بوش الابن بوصفها نموذجاً صارخاً ودليلاً دامغاً على فشل وخطأ التدخل الخارجي غير المدروس ، بينما المحافظون الجدد وحلفاؤهم يركزون على سياسة الانسحاب والانكفاء التي طبقها أوباما وما ترتب عليها من تداعيات سلبية كان أبرزها تنامي خطر الجماعات المسلحة وظهور تنظيم ( داعش ) وسيطرته على أجزاء واسعة من العراق وسوريا ، ويتخذون من ذلك كله دليلاً على صوابية فكرتهم وخطأ الأفكار المطالبة بتقليل التدخل الأمريكي الفاعل في الشؤون الدولية .
وعلى أية حال يجب القول أن محاولة الكاتب تفسير وتحليل السياسة الخارجية الأمريكية وفقاً لهاتين الفكرتين فحسب تبدو محاولة غير مكتملة ، فعلى الرغم من أهمية هذا الطرح ووجاهته إلا أنه لا يكفي للإلمام بكل العوامل المؤثرة في السياسة الخارجية الأمريكية ، إذ أنه يغفل العامل الأهم الموجه لتلك السياسة وهو العامل الواقعي ، فمعطيات الواقع تعد من أهم العوامل المتحكمة في السياسة الخارجية للدول ، ومعطيات الواقع الأمريكي تشير إلى أن الدولة الأمريكية قد بلغت شأواً بعيداً وغير مسبوق في مدارج القوة بحيث يمكن القول أن صانع السياسة الأمريكية أصبح خاضعاً لإملاءات تلك القوة وأسيراً لها ، بل وفرضت عليه معادلة وحيدة يمكن تسميتها بمعادلة الخيارين . يتمثل الخيار الأول ببقاء الولايات المتحدة - وبحكم مصالحها وقوتها الكاسحة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً – مسيطرة وموجهة للشؤون الدولية وبشكلٍ منفرد حتى لو استدعى ذلك استخدام القوة والتدخل العسكري المباشر ، مع ما يستتبع ذلك من نفقات وتكاليف باهظة مادياً وبشرياً ، لأن الانفراد بحكم العالم ليس مجاناً بل له أثمان يجب أن تدفعها واشنطن وسيحرص منافسو وأعداء أمريكا على أن تكون تلك الأثمان عالية وترتفع باستمرار واضطراد ، مما يعني أن الولايات المتحدة ستصل في نهاية المطاف إلى اللحظة التي لا تعود معها قادرة على تحمل تلك التكاليف الأمر الذي سيجبرها على تطبيق الخيار الثاني . وهذه التكاليف والأثمان العالية هي التي يتم انتقادها من قبل مناصري التيار الواقعي ، وهي التي يتم اتخاذها كحجة ودليل على خطل هذا التوجه . أما الخيار الثاني فيتمثل بتقليل حجم التزامات واشنطن الخارجية وهي الالتزامات التي نشأت بالأساس كنتيجة لتمتع واشنطن بدرجة عالية من القوة والهيمنة العالمية ، مما يعني أن تقليلها أو الانسحاب منها سيخلق فراغاً سيملأ في الغالب من قبل أعداء الولايات المتحدة ومنافسيها الذين لن يكتفوا بذلك بل سيضغطون عليها أكثر وأكثر من أجل استحصال مزيد من التنازلات – وهذا هو محل انتقاد المحافظين الجدد والتيار المحافظ بشكلٍ عام - وهذا الضغط لن يتوقف إلا باتخاذ واشنطن مواقف وسلوكيات تؤكد وتقنع الآخرين بأنها ما زالت القوة الأعظم على مستوى العالم مما يعني تبني وتطبيق الخيار الأول . وهكذا نرى أن السياسة الخارجية الأمريكية تعيش – مجبرة - حالة من التذبذب والتناوب بين الخيارين الأول والثاني بفعل معطيات الواقع وليس بفعل أفكار ورؤى فلاسفة ومنظري السياسة الخارجية الذين لا يعدو عملهم وصف وتحليل وتفسير النتائج التي يفرزها الواقع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة.. ماذا بعد؟ | جماعة أنصار الله تعلن أنها ستستهدف كل السف


.. أمطار غزيرة تودي بحياة العشرات في جنوب البرازيل




.. بسبب قانون اقترحته حكومته.. رفض تصويت جونسون فى الانتخابات ا


.. بطل مسلسل -حرب النجوم- مارك هاميل في المؤتمر الصحفي للبيت ال




.. هل ينتزع الحراك الطلابي عبر العالم -إرادة سياسية- لوقف الحرب