الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسفة عدسية

محمد ليلو كريم

2019 / 5 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


عنوان المقال يجمع ما بين التهكم ولفت الانتباه ، أما التهكم فمعروف ، وما يهمنا هنا هو لفت الإنتباه ، فإلى أي أمرٍ أريدُ لفت إنتباه القارئ ..
( بمناسبة توزيع حصة من العدس على المواطنين وبمكرمة حكومية .. وبمناسبة رفضي تسلّم هذه المكرمة )
تحرص الحكومات ، ومُنذ تطبيق الحصار الإقتصادي على العراق في بداية تسعينيات القرن السابق ، وإلى الآن ؛ وبإصرار عجيب على دفع مستحقات المواطنين دفعًا منقوص وعلى شِكل قطع صغيرة ، أي أن ما يتبقى من حقوق المواطنين يُعطى لهم بدفعات صغيرة ، فرغم أن ما يتبقى أقل بكثير مما يُمنَع أو بالأحرى يتم الإستيلاء عليه من قِبل السلطة الجائرة فهذا المُتبقي القليل يُقطَّع الى قطع صغيرة ويُدفَع للمواطنين ، ورغم أن ما يتبقى قليل ويُدفع على قطع صغيرة فكثير من المواطنين يُحرمون حتى من هذا المُتبقي القليل والقطع الصغيرة ويُتركون مُعومين ينالون معاشهم مقابل ما يبذلون من جهد في العمل أو ممارسة نوع من الكسب الرذيل ، وكإفراز لشرائح المواطنين المعومين ظهرت مخيمات النازحين والعشوائيات واللاجئين وتزاحم عجلات نقل الركاب والتكاتك والصِدامات العشائرية وآلاف الأميين وملايين الأرامل واليتامى والمتسولين والمختلين والمنتحرين والمسحوقين والقتلى والمُعاقين والعابثين والمُعنفين ..
تحرص الحكومات على تطبيق سياسة التخصيصات الصغيرة المُقطّعة والتي هي المُتبقي الضئيل من حقوق المواطنين والذي يُجزء الى نتف صغيرة ويُدفَع بشق الأنفس لقسم من المُستحقين ، المواطنين ، ولأن الحكومات المتعاقبة وعبر عقود متتالية تأكدت من خنوع المواطنين وتقبلّهم لهذا الظلم والإنتقاص المُهين فقد أبقت على السياسة الجائرة الناهبة ، فإلى اليوم والمواطنين بأغلبية ساحقة تُخدَع ويُعاد خداعها مرارًا ولم تظهر حركة وعي اجتماعي يواجه الخِداع ويوقفه ويُطالب وبضغط فعّال بإبطال السياسة الظالمة والمطالبة بالحقوق كبيرة وغير مُقطّعة ، ولأن المواطنين خاملين يمكن خداعهم بإستمرار تصاعد الفساد السياسي وصار نهب حقوق المواطنين يُذاع علنًا دون خشية من ردّ فعل كبير يقتص أو ينتقم بها الشعب من الساسة الحُكام ، أما لماذا كل هذا الإستهتار الحكومي ؛ فلأن المواطن الذي فرّط بحقوقه الكبيرة في بلد ثري ملئ بالثروات وصل به الخنوع لتقبّل كمية قليلة من ( العدس ) هي حصته من مُجمل حقوقه والتي نُهِبَ منها القسم الأعظم ، فحصة العدس لها هدف سياسي ، ولو أن الأغلبية تمتلك الشجاعة والوعي الكافيين لفُهِمَ أن الدفع بكمية من العدس للمواطن في حقيقتها سياسة تربوية هدفها ترسيخ القبول بالتخصيصات الضئيلة والمُجزأة لقطع صغيرة في نفس المواطن وتعزيز هذه التربية الحكومية عبر ممارسات دورية ومتقاربة ..
أنا نفسي كمواطن قُطِعت عن بقية المواطنين من جهة رابطة وعي المواطنة وفعاليتها السياسية والحقوقية ، فما بين المواطنين وجِدت حواجز ذهنية خربّت خاصية التواصل المسؤول ، وكذلك تم تضئيل دوري المواطني ، والحصيلة هي : لا أنا كبير التأثير ، ولا من تواصل فعّال بين المواطنين . وهذا نوع من الإعدام السياسي ، وهو إعدام حصل للذهن ، وأن ما نواجهه من أنواع الإعدامات التي يخترعها الساسة الحُكام ما هو إلا نتيجة واقعية لإعدام المواطنة ومستحقاتها في الذهن ، ولكن لماذا يستمر المواطنون بالإستسلام ؟؟ ..
فوجأت ، وبشكل عرضي ، واثناء قراءتي لرواية ( هيبي ) للروائي العالمي باولو كويلو بتفسير عميق لحالة الخنوع العام التي تجعل من الجماهير فريسة سهلة للمتسلطين الذين يعدمون الذهن بدءًا لكي يسهل عليهم بعدها أقتياد الجسد لُكِلِ فاقة وموت : (( لطالما تساءل كيف أن الناس ، وهم متجهون الى غرف الغاز في معسكرات الاعتقال ، أو مصطفون أمام مقبرة جماعية بعد أن رأوا الصف الأمامي يُردى بالرصاص دفعة واحدة ، لم يأتوا بأي ردّ فعل ، لم يحاولوا الهرب ، لم يُهاجموا مُعدميهم .
كانت الإجابة بسيطة : كان الذعر كبيرًا الى حد تسطيح وجودهم . يصدّ الذهن كل شيء ، فينتفي كل رعب أو خوف ، ويتحوّل الأمر مجرّد خنوع لما سيحدث )) توصيف عميق لعلة تسلط الخنوع على ذهنية الجماهير وفيه من الدقة الكثير ، ونُكمل مع باولو : (( تزول المشاعر ليحل محلها نوع من التغافل ، حيث يحدث كل شيء في منطقة عجز العلماء عن تفسيرها حتى الآن . في العموم ، يُطلق الاطباء على هذه الظاهرة وصف ( انفصام في الشخصية مؤقت ناتج من التوتر ) ولم يتكبدوا يومًا عناء التدقيق في أثر الغياب الكُلّي للمشاعر )) أو كما يُسميه الأطباء ( التأثير المُسطِّح ) ..
( ورد النص الذي استشهدنا به في الصفحة ٤٥ من الرواية ، الطبعة الأولى ٢٠١٨ ، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) ..
ما شكل الذعر الذي دفع مواطني مجتمعاتنا العراقية للإستسلام لتطاول الحكومات المتعاقبة والدفع بهم لفترات من الحصار والتجويع ونهبهم علنًا وزجهم في محارق كبيرة ؟؟
إنه الذعر الذي تسببه الحروب ، والطائفية الدموية ، والتهديد الذي تُمثله المجاميع المسلحة في المدن ، والأخبار التي تُحذِر دومًا من الأخطار ، والعنف العائلي ، والإيمان بغضب الله على المجتمع لإنحرافه ، والخوف من مقتل أحد افراد العائلة المُلتحِق ضمن أحدى صفوف القوات المقاتلة في المناطق الساخنة ، ومُسبِبات للذعر أخرى ، كُلها نفذت لأعماق المواطن وأعطبت مشاعره وجرّفتّها ووطنت التغافل فجعلت من المواطن كالواقع تحت تأثير التخدير في العمليات الكبرى فحتى إحتجاجه هذيان ، ونظرته للجمال والرفاهية والرُقي الإجتماعي والطرز المعمارية الفخمة نظرة عدائية فنفسه المعطوبة المشاعر لا تتكيف مع المُثيرات للشعور كالفن الرفيع وجماليات المعمار للمُدن الكبرى والتواصل الهادئ بين الناس والتعليم النموذجي عبر مدارس حكومية نموذجية ضمن المناطق الشعبية ، ولأن الذهن المُستسلِم للمطرقة الحكومية يستمر في استسلامه فالحكومة بدورها تستمر في الطرق على ذهن المواطن لكي لا يغادر حالة الإستسلام ، فتصفعه بإعلام متوتر هابط ، وبرامج تلفزيونية رديئة فاشلة ، ومسرح للسخف ، ومسلسلات بائسة ، وأغناني تسطيحية ، وخِطاب سياسي يُشوه الذهن ، فيكون كل هذا التسطيح مُكمل للذعر لتنتج الحكومة مواطن عديم المشاعر ، فالإنسان يستشعر كرامته ، ويستشعر تغييب الجمال والرفاعية من قِبل الحكومة ، وكيف لمن غابت مشاعره أن يستشعر ؟؟..
أنا المواطن محمد ليلو كريم ، أحاول وبإصرار وصمود ذهني أن أحافظ على مشاعري من العطب التام ، وأجهد وأجتهد للإحتفاظ بنعمة الإستشعار ، وأن استشعر اولًا ردة فعل مشاعري تجاه كل أشكال تواصل الحكومة معي فلا أغفل أو أستسلم ، وأظل ساعيًا وبقوة وثبات وإعتزاز بنفسي للإبقاء على صوتي ضمن الحد المسموع في إعلان وجودي الإنساني وسمو مشاعري ومقاومتي الذهنية ، فكرامتي استشعرت ما وراء حصة العدس من قصد سيء كما فعلت مع الإنتخابات فقاطعتها وكما دفعتني لإعلان رفضي البقاء ضمن صفوف الجيش لآداء الخدمة للسيد الرئيس الديكتاتور وحكومته السيئة في عام ١٩٩٥ ، وكما دفعتني للسؤوال عن الحرية وأنا بعد صغير السن أعمل في أحد قصور الحاكم التي ضربها الأمريكان فتلقيت وخزة أبرة بزندي الأيمن ما زلت أتذكر وبقوة ألمها في عام ١٩٩٢ ، ومشاعري المرهفة الندية تُعلِن : لن أخدم الحاكم الذي هو أصلًا مُطالب بتقديم الخدمة والخدمات لي كمواطن ، ولن اقاتل مضحيًا بدمي ووجودي ليبقى الساسة الحُكام متنعمين بما سرقوه من حقوقي آمنين ، ولن أنظر بإنبهار لقصر الديكتاتور وأصفق لطلته من على الشرفة العالية بل سأطرح سؤالًا بخصوص الحرية ، ولن تموت مشاعري فلا اتأثر وبعمق بجمال الفن والعِمارة والأدب وأفغر الفاه كطفل ذكي يتأمل أحدى تجليات الأم في تقلبات جمالها ..
انا اعترف بأن ما أبذله من مقاومة هو الحد الأدنى ، ولكنني أقاوم وأستشعر مشاعري وأتحين كل فرصة لتحقيق نصر لوجودي كإنسان وكمواطن ..

٥ آيار ٢٠١٩








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألعاب باريس 2024: اليونان تسلم الشعلة الأولمبية للمنظمين الف


.. جهود مصرية للتوصل لاتفاق بشأن الهدنة في غزة | #غرفة_الأخبار




.. نتنياهو غاضب.. ثورة ضد إسرائيل تجتاح الجامعات الاميركية | #ا


.. إسرائيل تجهّز قواتها لاجتياح لبنان.. هل حصلت على ضوء أخضر أم




.. مسيرات روسيا تحرق الدبابات الأميركية في أوكرانيا.. وبوتين يس