الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مخروط الزمن

يحيى نوح مجذاب

2019 / 5 / 11
الادب والفن


مخروط الزمن


صفاءُ الذهن واتِّساق الأفكار تُمهّدان لخَلق الكلمات المترابطة المركّزة العميقة لترسم المعاني بأشكالها الشفّافة المُبهرة كلوحاتٍ ملوّنة مُعبِّرة تنطق بالحياة وتدفع للدهشة واستِبصار الحقائق الغائبة عن المدارك.
لا خطوطَ فاصلة بين جزئيات الحياة المُكتظَّة بيوميّات الحركة والعمل والعيش ومسارات الأحداث بكل أشكالها، وبين عالم النَّوم الذي تستمر فيه الصُور بوتائر مُتباينة قد يُغلّفها الغموض والضبابية وغياب المنطق وقوانين الفيزياء وضوابط الأخلاق والأعراف السائدة التي تراكمت في خبرات الأفراد والعوائل والقبيلة والعشيرة والمجتمعات باختلاف ثقافاتها، أو أنها تتوهج بإبهار ساطع لا مثيل له مُستمدة من قوانين الكون الذي بدأت خيوطه تتكشف في ميكانيكا الكم والانفجار العظيم عند أولئك النُخبة من بني البشر الذين لم يقبلوا بعيش يكتنفه الإبهام دون أن يعثروا على بدايات أجوبة للغز الوجود الأكبر.
في عالم الصّحو؛ الوقت كان يقترب من أعوام تعدَّت عقوداً من الزمن حيث الملايين من سكان الأرض الذين يملؤون المدن والجوامع والكنائس ودور العبادة والجامعات والمصانع والحقول، والبارات والملاهي والمراقص وبيوت الدعارة الآن لم يكن لهم وجود في خارطة الرب في ذلك الزمن القصيّ، وعندما غطست الذات في مخروط الزمن وغفوته القصيرة ظهرت ملامح ذلك الفتى الوسيم الذي لم تكن معه لقاءات طويلة بل نُتف وجود متقطع. لقد اختفى أعواماً ليست قليلة وغاب في الشفق البعيد، أما اسمه فقد استدعته الذاكرة اليوم بعد يقظة الصباح.
لقد كان حاضراً بقوة في عمق النفس الغاطسة في المجهول، فملامحه كانت مطبوعة في وعيه القديم منذ أكثر من أربعين عاما كالنقش في الحجر، فحاول أن يُلملِم الأحداث المتفاوتة البعيدة ويسكبها في قالب مرئي مُدرك فكانت صورة ذاك الفتى؛ وجهه وبشاشته الهادئة منسكبة أمامه كزلال الماء الرائق. كان أبوه ميسور الحال فلم يبخل عليه في سفراته السنوية، وفي العودة كان يتحلّق حوله أصحابه وهو يتحدث لهم بشيء من الهدوء عن تجاربه مع قطط شارع الحمراء، وعندما دارت الأيام ورحل والده ونزلت بأهله الدنيا حاول أن يبحث عن مصدر للرزق لكنه لم يجد له عملاً في بلده فاضطر للهجرة إلى بلد الفلسفة ومهد الحضارة الغربية وهناك تزوج من معلمته تاركاً وراءه أطناناً من الذكريات في شرق الأرض. كانت صورة مضرب التنس الذي يلوِّح به لأصدقائه كلما خاض نزالاً مع معلمته على أرض الإغريق عالقة في الأذهان. وبعد سنين ليست طويلة بمقياس المعمِّرين غادر الدنيا غريباً وهو يصارع آفة المرض الخبيث واندثر كما اندثر الآلاف من غيره في صراع الوجود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا