الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استطلاعات الرأي بين العلم والسياسة . ‏

فريد العليبي

2019 / 5 / 11
مواضيع وابحاث سياسية



استطلاعات قيس الرأي العام أو عمليات سبر الآراء حديثة نسبيا في عالمنا ، وتعود ‏في أمريكا الى القرن الثامن عشر، بينما لم تعرفها فرنسا مثلا إلا في النصف الأول من ‏القرن العشرين ، وتتمثل في طرح أسئلة علي مجموعة من الناس ، ثم ‏قراءة الأجوبة ‏وتصنيفها واستنتاج ما يلزم عنها ، وهى تقوم على اختيار عينات ممثلة لمجموعة سكانية ‏ما ، معتمدة حساب الاحتمالات في نشر نتائجها ، ويتم توجيه تلك الأسئلة مباشرة الى ‏الناس في الشارع أو باستعمال الأرقام الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال ، وهي ‏تستند الى خلفية معرفية قوامها خضوع البشر في أفعالهم وردود أفعالهم واختياراتهم الخ ‏‏.. الى قوانين موضوعية ، يمكن على أساسها التنبؤ بما سيقومون به في المستقبل ، ‏فرغم أن الانسان كائن الارادة والحرية إلا أن هناك عوامل موضوعية تتحكم به ، بل إن ‏الحرية نفسها ليست إلا إدراكا للضرورة التي يعيش الانسان في كنفها . وتستفيد من تلك ‏الاستطلاعات حكومات ومؤسسات بل إنها أعتمدت حتى من طرف البوليس السياسي ‏في عدد من البلدان لمقاومة الحركات الثورية الصاعدة .‏
‏ ‏‎ ‎‏ وفي مجال السياسة يستند إليها في تحديد نتائج الانتخابات قبل حصولها ، وقد ثبت ‏صدقها حينا وخطؤها أحيانا أخرى ، ويطرح المشككون في نزاهتها أسئلة حول من كان ‏وراء طلب إجرائها ، ومن مولها ، لافتين النظر الى أنها عادة ما لا تذكر العينة ‏المعتمدة ومدى تمثيليتها ، ولا تشير إلى هامش خطإ استنتاجاتها ، وأن أسئلتها تفترض ‏أجوبة بعينها ، مما يعنى أنها توحي بها . ومن ثمة التأثير على المستجوبين والتلاعب ‏بالنتائج المصرح بها ، وأنها تعمل لصالح قوى سياسية محددة ، بينما تعادي غيرها ، ‏وهى لا تعدو أن تكون حملات إشهارية في الاقتصاد لصالح شركات تجارية ، أما في ‏السياسة فإنها حملات انتخابية مخفية تسبق الحملات الحقيقية ، وأحيانا تترافق معها ، ‏فهي لا تكشف عن الرأي العام بقدر ما تعمل على تكوينه ، وهناك من شكك أصلا في ‏موضوعها مثل عالم الاجتماع بيار بورديو، الذى يرى أن الرأى العام لا وجود أصلا ‏له فما بالك بقيسه. ولكنها حافظت رغم ذلك على قيمتها باعتبارها آلية قادرة نسبيا على ‏تحديد اتجاهات الرأي العام ، ومن هنا أهميتها في فهم الواقع الاجتماعي السياسي من ‏جهة مساعدتها على تغيير استراتيجيات وتكتيكات قوى مالية وسياسية وعسكرية وثقافية ‏وغيرها ، بما يضفي النجاعة على نشاطها.‏
وقد حطت استطلاعات الرأي رحالها في تونس بشكل خاص بعد ‏رحيل بن على ‏‏، ‏عندما ظهرت مجموعة من المؤسسات المعنية بتلك المهمة ، وسرعان ما أصبح لها ‏‏حضورها في المشهدين السياسي والإعلامي ، غير أنها لم تبلغ بعد مرحلة النضج ‏والحرفية والتخصص بما يمكنها من أن ‏تكون ذات مصداقية ، حيث يتسم عملها حتى ‏الآن بالعشوائية وبما يسميه بعضهم " ‏الانتصاب الفوضوي " ، فهى لا تخضع الى ‏معايير ومناهج مضبوطة من الناحيتين ‏القانونية والعلمية ، وبالمقارنة بينها يلاحظ أن ‏نتائجها متناقضة ، وهناك أدلة كثيرة على ‏خطئها في تقدير نتائج الانتخابية السابقة ، ‏ولكنها اقتربت أحيانا أخرى من الحقيقة ، والرائج ‏تونسيا هو اتهامها بالتحيل والغش ،‏‎ ‎‎ومن ثمة ضعف الثقة فيها و النظر اليها باعتبارها ‏وسيلة انتخابيه . ويفسر ذلك بأنها ‏حديثة العهد وافتقار أصحابها الى الخبرة اللازمة ، هذا من ‏جهة ، ومن جهة ثانية ‏تحيط بها جملة من العوائق لعل أهمها محاولات استثمارها ‏من قبل قوي سياسية ومالية ‏مؤثرة ، داخلية وخارجية وصعوبة التعامل مع " رأي ‏عام " لا يزال يخفي آراءه ‏السياسية في أحيان كثيرة ،ومن هنا الحذر من ‏اعتمادها لفهم تطور المشهد السياسي ‏التونسي .‏
‏ وقد ثارت زوبعة مؤخرا حول بعضها ، عندما نشرت نتائجها في علاقة بالانتخابات ‏‏القادمة ، التي تضمنت انحدار نوايا التصويت لصالح بعض الأحزاب التي سرعان ما ‏‏عبرت عن سخطها ، متهمة إياها بالتوظيف السياسي ، ومنها حركة النهضة الاسلامية ‏التي ‏سكتت عندما كانت استطلاعات الرأي تفيد صعودها ، ولما أشارت الى انحدارها ‏‏تكلمت .‏‏ ‏وليست هي الوحيدة في ذلك ، فقد عبر رئيس الدولة أيضا عن امتعاضه منها ‏وشاركه ‏ذلك الشعور حزب تحيا تونس ،والسبب هو ذاته ، ونعنى انحدارا في نوايا ‏التصويت ‏.‏
‏ والملاحظ أن المعركة حول تلك الاستطلاعات لا تتجه ناحية طرح المعضلة الحقيقية ‏‏ونعني القانونية والعلمية ، بقدر دورانها حول السياسة ، فالقوى المتصارعة انتخابيا ‏تريد ‏مؤسسات سبر آراء على مقاسها ، تكون خادمة لأغراضها ، ولا يهمها العلم ولا ‏القانون ‏بما يمكن أن يؤدي الى انشاء هذا الحزب أو ذاك مؤسسة استطلاعية ملحقة ‏به ، هذا إن ‏لم يكن ذلك قد أصبح واقعا في تونس اليوم ، والحل هو ترك الأمر لذوى ‏الاختصاص ‏والكفاءة والاحتراف والنزاهة والموضوعية والحياد في مجال العلم ، فضلا ‏عن ضبط ‏المبادئ الناظمة لعملها ومراقبة تمويلها في مجال القانون.

‏ ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيضانات البرازيل: 160 ألف نازح وبلديات دمرت بالكامل


.. اتفاق بين بغداد وإدارة مخيم الهول على آلية تسمح بإعادة 600 ش




.. الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يقيل المسؤول عن أمنه الش


.. لحظة تنفيذ الجيش الإسرائيلي لغارة على قريتين جنوب لبنان




.. لماذا يسعى الكثيرون لاقتناء المنتجات الفاخرة