الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعض المختلف في شعر نزار قباني

محمد علاء الدين عبد المولى

2006 / 5 / 2
الادب والفن


بَعْضُ المختلِفِ
في شِعْرِ نِزار قَبّانـِي
* رؤيةٌ مقترَحة ٌ*

قيلَ الكثيرُ منَ الكلامِ، نقداً وهجاءً ومدْحاً وتكريماً وتسفيهاً، عن الشاعر نزار قباني، ومن المؤكد لديّ أنه سيقالُ كثيرٌ في المستقبل أيضاً. فما الذي يستطيعُ القارىءُ الناقدُ تقديمَه منْ أفكارٍ جديدةٍ في هذا الصدد ؟.
لهذا ودون تكرارٍ لمقدّماتٍ وشروحٍ تمهيديّةٍ، متوفّرة لمن يحتاجها، سأحاولُ هنا بناءَ عددٍ من الأفكار التي أراها أساسيةً في هذا المجال، من خلال مواصلتي لتفكيك الصورة النمطية المرتسمة في وعيِ النقد العربي من جهةٍ، وفي وعيِ أو لا وعيِ المتلقّي، (أو الجماهير) بالتعبير الذي لا أستسيغه، من جهة أخرى.
من ملامحِ التجديد في علاقة شعر نزار قباني بالمرأة
قدّمَ نزار تجديداً واضحاً في علاقة الشاعر العربي بالمرأة. وذلك عندما ننظر إلى وضع المرأة/الأنثى في الشعر العربي قبل نزار، وكيف كانت تتمظهرُ كموضوعٍ فنّيّ من جهة وكموضوع بشري من جهة ثانية. فالشعر العربي يقدم لنا نماذج من المرأة نرى أنها لا تختلف أو تتباينُ كثيراً بين شاعرٍ جاهلي أو عذري، إلى شاعر حسِّيٍّ إلى آخر صوفيّ؛ فإن كل هذه النماذج وفي غالبيتها، تقدمُ المرأة/الأنثى بصورةٍ غائمة وضبابيّةٍ، بحيث تظهرُ وكأنها شيءٌ أو موضوعٌ لا ملامح ولا علامات فارقة له، وبلا طعمٍ ولا رائحة، ولا يمكن للمتلقي تخيّلُ وجودِ المرأة بصورةٍ ملموسة ومدركَة. إذ ثمّةَ فجوةٌ حادّةٌ بين صورةِ المرأة الحقيقية كما يتعايشُ معها الإنسان، وصورتها الشّعرية المفارقة للواقع. وكانَ هذا يشكّلُ ظاهرة عامةً من الطبيعي أن يكون لها استثناءات كالعادة، وهي استثناءات كانت تحقّق بعض الاختراقات الهامشية التي لم تصنع ظاهرة بديلة وموازية (على سبيل المثال نذكر بعضَ أشعار امرىء القيس - القصيدة اليتيمة)، ليظلَّ النموذجُ السّائدُ هو امرأةٌ حبيبةٌ ينشئها الشاعر كتلةً ضبابيّة تتشابه في سماتها ومفردات تكوينها. فليس هناك فرق جوهري بين " فاطم امرىء القيس " أو " خولة طرفة " أو " أسماء الحارث اليشكريّ " أو نساء عمر بن أبي ربيعة أو ليلى أو... الخ. والغريبُ أن تمتدّ هذه الصورة النمطية حتى عصور لاحقة وصولا إلى أحمد شوقي وإبراهيم ناجي والشابي على سبيل المثال، وهذا ما سوف نأتي فيما بعد على ذكره ثانيةً مستشهدين برؤية نزار نفسه للمسألة...
تطالعُنا هنا صورةُ امرأةٍ لا تفاصيل لها، ولا إحساس ولا كيانٌ مستقلّ، ولا نعرف عنها إلا ما يريد الشاعر أن ينقله إلينا، وما علينا إلا تصديقه. وما الأمثلة القليلة التي يمكن أنْ تشكّل خروجاً على هذا النمط إلا دليل على أنه هو النمط القاعدة، والمتوارثُ من جيل إلى جيلٍ. فهي الجميلة دون أن نعرف كيفيةَ جمالِها، وهي شهيّةٌ دون أن تظهر إلا صدى لشهوة الشاعر، وكأنها أنثى محجّبةٌ مضروبٌ عليها خمار مع أنها موضوع للحبّ والغزل والجنس كذلك.
وكان ذلك أمراً يبعث على التساؤل والحيرة حقّا. خاصة إذا دقَّقَ قارىءُ التراثِ في نصوص النثر والسرد العربيين، وكتبِ (الإيروتيكا) التي كانت تمعنُ في قراءة الجسدِ وأحوالِ الجنسِ وأوضاعهِ، كتب لم تترك شيئا في المرأة إلا واخترقته من لباسها حتى عطورها ورقصها ومشيتها وأصنافها وسويّاتِها الاجتماعية والبيئية والثقافية، وما يتعلق بالشهوة والعلاقة الجسدية بأدق تفاصيلها.
إضافة إلى أن القارىءَ الذكي للتراث سوف لا يعدم وجود بعض نصوص هذا النثر والسرد مشتملةً على الكثير من الإشارات الحسية الواقعية التي تصف خارطة الجسد الأنثوي، وخاصة في المرويَّة الطويلة (ألف ليلة وليلة) التي نجد جسدَ المرأة فيها وقد اتخذ حضوراً أنثويّا حادّا وأساسيا ومركزيا، عبر تقديم هذا الجسد الأنثوي لنفسه في علاقته مع الجمال والإغراء والعطور والحمَّامات واللباس الأنيق والمثير والنطق المموسق والرقص الموظَّف، وعبر التركيز على صفاته الجريئة باللون والحركة والأعضاء.
كما يفصحُ البعض الآخر من النثر العربي الذي يسرد وقائع الحياة في العصرين الأموي والعباسي، وخاصة حياة ليالي الخلفاء والأمراء والولاة في سراديب قصورهم وأسرار معيشتهم وبساتين القصف واللهو، أقول يفصحُ هذا النثر عن امرأةٍ من لحمٍ ودمٍ حارَّين، امرأة ما هي إلاّ انعكاس أمين للصورة المرتسمة للأنوثة في المخيّلة والذهنية العربيتين، وهي صورة كانت تنتقل من الواقع إلى هذه المخيلة، أو لنقل إنها صورة تتناوبها لحظتا الواقع والمخيلة في الوقت نفسه في علاقة متبادلة تأخذ هذه من تلك وتعطيها في الوقت ذاته، أي لم تكن هذه الصورة من إنشاء الخيال وحده بل من تأثير الواقع.
هل هناك مبرّرٌ واضح ومقنع لغيابِ جسدِ المرأة وتفاصيلِها وجمالها ببعده الجسدي والشهوانيّ عن القصيدةِ العربية؟ هل نقول إنه تعالي الشاعر العربي، حتى لو كان يصنف على أنه شاعر الجسد والغزل والتشبيب، تعاليه عن تعرية جسد المرأة أمام الآخر؟ وكأنّ المسألةَ تتعلق بتناقضٍ بين شبقِ الشاعر مع امرأته، وبين رغبته في (حَجْبِ) هذه المرأة عن المتلقي؟ إن ذلك منع الشاعر من إعطاء أنثاه بُعداً حيايتا واضحاً يضاف إلى البعد الغائم أو البعد الروحي لها، أو على الأقل يحقق انسجاما بين المرأة وبين تهافت الشاعر عليها وتهالكه الشبقي أمامها وهو مما يظهر جلياً في القصيدة العربية...
أم نبحث عن السبب في مكان آخر؟ فنقول إن المرأة العربية في واقعها المعاش كانت امرأة غير مكشوفة الجسد، محجوبةً بطبيعتها ونظرا لكونها عضوا في مجتمع قبلي ذي منظومة أخلاقية لا تسمح لها ولا تقبل هي كذلك، أن تكون الخروج على النمط المعطى لها، لهذا لن تتكشف تفاصيل هذا الجسد إلا من خلال ما هو متاح ومتناغم مع الأخلاق القبلية والتي كرّسها فيما بعد الدين. والمدقق في صورة المرأة سيرى أن الشاعر لم يقصر في التركيز على أي عضو مكشوف من جسدها، من هنا سنفاجأ بهذا الكمّ الهائل من الصور المتعلقة بعيون المرأة، وحركة مشيتها المتثاقلة من وراء ثيابها المتموجة على امتلاء جسدها. إنها امرأة محجّبة في الواقع، لهذا حجبت في القصيدة. على أننا لا نبرّىء بهذا تقصير الشاعر العربي على الصعيد الفني البحت، في مسألة الاقتحام وتكسير هذه الصورة،لأن الشاعر لا يقف عند المعطيات المسلم بها في الواقع، ويتجاوزها ويبتدع واقعا آخر يسهم في تثوير الصورة المألوفة للمرأة. لا سيما وأن هذا الشاعر العربي لم تكن تنقصه أبدا المقومات الفنية والجماليات الفذة في التقاط تفاصيل الجسد وتعريته جزءاً جزءاً، والمثال على ذلك ما كان يفعله في قصيدة الناقة، من وصف دقيق ومطول لكل ما يتعلق بجسد الناقة وجمالها. لقد ترك لنا الشاعر العربي صورة جميلة جدا عن الناقة، عارية مكشوفةً لا لبس فيها، وترك لنا بالمقابل صورة غائمة لا تفاصيل فيها عن المرأة. وربما من هنا جاء هذا المعجم الهائل من التشبيهات والاستعارات المأخوذة من جسدِ الناقة والمسقطة على جسد المرأة، كحالةٍ تعويضية عما احتجبَ من جسدِ المرأة. إذ نقلَ صفات جسدِ الناقة من حقله الواقعي الأصلي إلى حقلٍ آخر اكتسب من خلاله روحا جديدة وقدرة على التصوير.
هذا وقد يحقّ لنا السؤال بصورة ثانية وعلى مستوى آخر فنقول: لماذا لم نجدْ هذه المرأةَ في الشعر العربي إلاّ كما ذكرنا، بينما وجدناها متوفّرةً بصورة أخرى ومختلفة في النثر العربيّ؟ هل كان النثرُ أقدرَ فنيا وجماليّا على تلبية هذه الحاجة؟ من حيث أنّ مفهومَ الشّعرِ كان يقتضي التّعاملَ مع المسائلِ بشكلٍ شموليّ وكليّ ومطلقٍ وليس بشكلٍ تفصيليّ، الأمرُ الذي كان متاحاً للنثرِ الذي شكّل غالبا خطّا هامشيا مقصيّا عن سلطةِ الخطاب الثقافيّ المطلقة؟ أقول وفي حدودِ معرفتي، إنّ هذا السببَ ربما لم يكن بعيداً عن خلفية هذه المسألة، والتي شكلت ثغرة كبيرةً اكتشفها نزار قباني من خلال قراءته للشعر العربي عبرَ مصادره الكبرى، فأدرك الثغرة في نظرة الشاعر العربي إلى المرأة، فكان هو أول شاعر عربي، في زعمي، ينقل العلاقة مع المرأة في الشعر إلى فضاءٍ مبتكرٍ وأرضٍ غيرِ محروثةٍ من قبلُ، مقترباً بذلك من المحرّم الاجتماعي والفني في الوقت نفسه.
لقد أطاح نزار منذ تجاربه الشعرية الأولى – وهذا المهمّ، أي أنه وعى ذلك باكراً – بتمثالِ المرأةِ وأسقطَ عنها كلّ قناعٍ وحجابٍ ممكنٍ، ليُظهرَها على أنها جزء من حياتنا التي نعيشها ونعانيها، لا فكرةٌ قائمةٌ في مخيلتنا المكبوتة فقط. وبهذا اقترب من تفاصيلها ونثرياتها ولغتها اليوميةِ، وكانت هذه الثورة بحاجة إلى مصاحِباتٍ فنيةٍ تسهم في إنجازِ قصيدةٍ ذاتِ جمالياتٍ مختلفةٍ ومحرّضةٍ، لذلك جاءت لغةُ نزار جديدةً ولا تخضعُ لا لمألوف المتلقي العربي العادي، وأعرافه المستقرة، ولا تخضع كذلك للنمطِ الشعري المتداول بين أوساط الشعراء.
إذا من هنا أشرنا إلى اقتحامه للمحرمين الاجتماعي والفني معاً، ولم يكن اقترابُه من لغة الحياة اليومية والبعيدة عن المطلقاتِ والكليات إلا سببا جوهريّا من أسبابِ عداء المجتمع الذكوري المقدس في بُعدَيْهِ الديني والثقافي للشاعر، ولمغامراته التي قرّب فيها لغةَ الشعر من لغة النثر، مكمّلا بذلك الوظيفةَ التي كان النثرُ العربي يقوم بها من توصيفٍ خارقٍ ومدهشٍ ومحرجٍ للجسد الأنثوي.
والمجابهةُ الاجتماعيةُ العنيفةُ التي ووجِهَ بها نزار قد تكون دليلنا على أنّ الشاعر العربيّ عندما يقتربُ من عراء المرأة وجغرافيةِ جسدِها كاملةً، فكأنه يخترقُ القانونَ الاجتماعي والديني، أو بتعبيرٍ آخر، كأنه يتجرّأ فيعلن على الملأ تلك الصورة الحقيقية للمرأة التي نتستر عليها جميعاً. والمسألة في منشئها الفني تصبح على الشكل التالي: لقد أنزل نزار الشعر من عليائه وميتافيزيقيّته وما ورائياته الضبابية المتعلقة بالمرأة والجسد، إلى الأرض ليلتقط لنا المرأة وهي على التراب وفي حياتها اليومية لا المرآة القائمة في ذهن الشاعر وتهويماته. وهذا كان يقتضي من اللغة الشعرية أن تتغير، وتبحث لها عن احتمالاتٍ أخرى جديدة لم تكن في حسابات الشاعر العربي. من هنا كان لا بدّ للغة الشعر أن تتوسل بلغة النثرِ من حيث قدرة هذا الأخير على تحقيق المهمة الجديدة للشاعر، وهي تحويل الموضوع المطلق إلى موضوع نسبيّ. أي ترحيل المرأة من هلاميتها إلى تعينها الملموس المحسوس لا على أنه نمط عمومي يشترك في تداوله الشعراء كلهم، بل على أنها امرأة تخص تجربة شاعر ما بعينه، وتمتلك ما يميزها عن امرأة تخص شاعرا آخر. وهذا ما لم يكن يحدث عبر تاريخ الشعر العربي كما أزعم.
وفي هذا الصعيد يمكنُ لي أن أسجل ريادةً للشاعر نزار في التفاتِه لتوظيف النثر في الشعر، وهي المسألة التي تنشغل بها الآن كتابات نقدية أو تجارب شعرية على رأسها محمود درويش، الذي أجد أنه يكمل بطريقته وحسب فرادة مشروعه الشعري ما كان نزار يفعله بكل عفوية من استثمار للنثر داخل القصيدة الشعرية، حيث رأينا في قصيدة نزار لأول مرة في اتلشعر العربي هذا الكم من التفاصيل اليومية الهامشية والدقيقة والتي تعيش في الظلّ والعتمة، في الوقت نفسه كانت قصيدة نزار تستحضرُ هذه التفاصيل دون كثيرٍ من البلاغة التقليدية العتيدة والمعهودة في الشعر العربي، لأنها بلاغة تتنافى مع طبيعة النثر اليومية. ولا ندري – أو لعلنا ندري - فربما كان هو الآخر – أي نزار – يكمل بوعي أو لا وعيٍ منه، مسيرةَ النثرِ العربيّ الذي تحرر من قيود العروض والإنشاد في البلاط والمحافل الدينية والرسمية.
والحقيقة أن المسألة عند نزار في كل الأحوال، لم تكن هوايةً يمارسها في أوقات الفراغ، أو خاطراً يردُ على ذهنه أوقاتَ القيلولة، بل كانت مشروعاً مركزيا في تجربته الشعرية، بحيث أزعم أن نزاراً قام على هذا الصعيد بثورةٍ حقيقية في الشعرِ، ثورة لـه فضل الريادة المطلقة فيها ولا ينازعه فيها أيُّ منازعٍ.
لقد كسر نزار النمط الشعري المتكلس في تعامله مع المرأة بكل حياتها، جسدا وتفاصيل وأسراراً وتناقضات وخيانات وشبقا وشذوذاً، مما كان يتطلب منه كسرا للنمط الجمالي للقصيدة والمهيمن على ذهن المتلقي العربي. بحيث تم إخراج بلاغة الشعر وصورته ومجازه واستعاراه وتشبيهاته وكناياته ومعجمه، من منطقة إلى منطقة جديدة حديثة.
وإذا كان الأمر بحاجة إلى أمثلة فشعره كله أمثلة على ذلك. لأنها لم تكن كما قلت مسألة موضوعات يقترب منها بين مرحلة وأخرى، وإنما كان شعره قائما على هذه النظرة التجديدية. ومع ذلك، ومن أجل ضرورة القراءة النقدية، نستأنس بالأمثلةِ التالية:
يقول في أوَّل ديوان له:
سِيري.. ففي ساقيكِ نهرا أغانِ
أطرى من الحجاز.. والأصبهاني
بكاءُ سمفونيّةٍ حلوةٍ
يغزلها هناك قوسا كمانِ (1)
ويقول في ديوان آخر:
ألوانُ أثوابها تجري بتفكيري
جريَ البيادر في ذهن العصافيرِ

ألا سقى الله أياماً معطّرةً
كأنهنّ.. أساطيرُ الأساطيرِ

أين الزمانُ؟ وقد غصّت خزانتها
بكلّ مستهترِ الألوانِ معطورِ
فثمّ رافعةٌ للنهدِ.. زاهيةٌ
إلى رداءٍ، بلون الوجدِ مسعورِ (2)
ويقولُ:
حبيبي
أخافُ اعتيادَ المرايا عليكْ
أخافُ اهتمامي بشكل يديكْ
أخافُ اعتيادَ شفاهي
مع السنوات على شفتيكْ
أخافُ أموتُ
أخافُ أذوبُ
كقطعةِ شمعٍ على ساعديكْ
فكيف ستنسى الحريرَ
وتنسى
صلاةَ الحريرِ على ركبتيكْ (3)
أضطر لذكرِ أمثلة مبكرة من تجربة الشاعر لأن النقلة النوعية الفريدة تحققت في مرحلته الأولى، ثم وفي المراحل التالية سرعان ما أصبح الأمرُ منجزاً وسمةً أساسية من سمات المشروع النزاري. الذي أصاب الشعر العربي بعدواه بطريقة أو بأخرى.
إن اللغة التي تعلن عن نفسها في الأمثلة السابقة هي لغة لن نجدها عند شعراء عاصرهم نزار في شبابه، ولو رحنا نقرأ في شعر صلاح لبكي وسعيد عقل على سبيل المثال لرأينا اللغة تتناول المرأة من علٍ وتتأبى على جسدها وتفاصيله، مكملة بذلك المعجم الشعري الموروث من مئات السّنين.*
ويكفينا أن نستحضر قصيدة (المجدلية) لسعيد عقل، ونتفحّصَ المرأة التي فيها، لنرى كيف يقف موضوع القصيدة الحقيقي وهو الأنثى الآثمة المجدلية، يقف على طرف نقيض من لغة التعبير التي استخدمها سعيد عقل، فمع أن موضوع (المجدلية) يحتمل كثيرا من الشغل على الجسد في بعده الحسي الشهواني، مع ذلك تعفف سعيد عقل عن أن يكون شعره حسيا شهوانيا يهتمّ بجسد المرأة التي يتخذ منها مادة لقصيدة جميلة ومتميزة.
الأمر لن يكون على هذا النحو مع نزار قباني، ونحن نختار سعيد عقل أنموذجاً نظرا لما يعنيه اسمه من دلالة شعرية ورمزية كبيرة ولا تضاهى، فاسمه يغنينا عن الاستشهاد بشعرات الأمثلة، ثم إن سعيد عقل هو الشاعر الذي تأثرت بداياتُ نزار قباني ببعض جمالياتِ شعره ومعجمه اللغوي، ولكن نزاراً حدّد خياره على النقيض من خيار سعيد عقل، على صعيد لغة الجسد.
وعبْرَ هذه الثورة التي أشرنا إليها سنرى المرأة/الأنثى وقد انزاحت الضبابية عن وجودها، فأصبحت مرئيّةً مكشوفةً بصورة لم يسبق لها مثيلٌ. ويمكن لي ربط ذلك بنزعة التمرد والثورة التي تبلورت وتأسّست عليها شخصية الشاعر نزار قباني، التمرد الاجتماعي الثقافي من جهة، والتمرد الفني من جهة ثانية وهذا هو الأهمّ. وهو ما سوف نرى الشاعر يؤكد عليه مراراً. ولكن رأينا أنه يمكن تفريع ملاحظة نقدية عن هذا الجانب الفني في شخصية الشاعر، وهي تتعلق بارتباطٍ ما نراه قائما بين وضوح جسد الأنثى بتفصيلاته ومخفياته وأسراره، وبين موهبة الرسم التي كان نزار يمارسها وهو طفل، والتي يعترف هو بفشله في تطويرها كموهبة، مما اضطره لنقلها بصورة شعورية ولا شعورية إلى الشعر، فبدأ يعوّض موهبة الرسم باللون بموهبة الرسم بالكلمات، الأمر الذي تطلَّبَ منه الدمجَ بين تقنيتي اللغة المكتوبة واللغة الملوّنة في الوقت نفسه. فالرسم يأخذ الشاعر إلى جهة التفصيلات الدقيقة والمنحنيات المرئية واللامرئية في جسد المرأة، ويملي عليه استخدام خطاب اللون حتى آخر طاقة ممكنة، مما استوجب كذلك أن يُظهر المرأة بألوانها من أظافر قدميها حتى ضفيرتها مرورا بألوان ثيابها الداخلية من مايوه وحمّالة نهد إلى آخر التفصيلات والموجودة بغزارة في شعره.فأصبحنا نرى للمرة الأولى أشياء المرأة ومشاعرَها وأسماءَها وهي ملونة. حتى أنني أستطيع إعطاء نزار ميزة استخدام اللون على الطريقة الرمزية بحيث يوحي كل لون بمسألة حسية أو وجدانية معينة. إن النهد عند نزار يبدو تارة نهدا فلِّيّاً وتارة حريريا، وتارة ثالثة أسمر،ومرة أخرى ذهبيا. كما نرى عنده الشفاه ليست فقط قرمزية أو خمرية بل قد تكون شفته هو كالمزارع الخضر (وهذا استخدام جديد وفريد للَّون الأخضر في علاقته بشفاه الرجل)!. كما نرى عنده الدمع أسود والمطر أسود، أو الضوء الأسود في العين الإسبانية، أو نرى شوارع غرناطة في الظهيرة حقولاً من اللؤلؤ الأسود، ونرى الثلج أسود والسماء سوداء، حتى أنه يرى الجسد الخمري أسود! ونرى صوت المرأة أبيض وكلامها أبيض وشعورها أبيض. ويقول لها في موقع آخر ( أنتِ لي رحمة من الله بيضاء). وقد نرى عنده الصوت أزرق، والدم بنفسجيا والبحر شالاً بنفسجيا. وقد ترقص الكلمات عنده بأثواب مختلفة من اللون الأحمر إلى الأصفر. وقد تغزل يد الأنثى شمعا أصفر.
ارتبط تلوين الجسد وأشيائه وأحاسيسِه عند الشاعر بعلاقات حسيّةٍ شبقيّة مع الجسد كان اللون يقوم بوظيفة فعّالة في صياغة هذه العلاقات.وهو بذلك لم يكن يتوهّم الأنثى أو جسدها، إذ أنه لم يتعامل معها من خلف حجاب، بل فاجأها وهي في أدقِّ وأحرجِ الأماكن والوضعيّات مسلّطا عليها كل ما يملك من ضوء فاضح ومتلوّنٍ...
وأريد أن أشير هنا إلى عدد من النقاط تتعلق بالمرأة في شعر نزار قباني، وهي نقاط اعتدنا أن نراها ملتبسةً على النقد الذي توجه إلى شعر نزار وما يزال حتى هذه اللحظة تلتبس عليه الأمور.
1ـ لم يكنْ نزار في هذا الاستخدام الفاضح للمرأة/الأنثى يقلّد أحداً من شعراء العرب القدماء، ولا يمكن للمدقّق أن يُرجِعَ شعره إلى أيِّ شاعر بعينِهِ في التراث العربي، فما كان يصنعه كان جديدا بصورة مطلقة في ظنّي، وكان هو مدركا لذلك، رافضا في عدد كثير من المواقع في شعره ونثره أن يحيله النقد أو القراء إلى أيّ شاعر عربيّ، خاصةً عمر بن أبي ربيعة الشاعر الذي اعتاد النقاد على إرجاع شعر نزار إليه.فعلى سبيل المثال يقول:
إنني لم أرِثْ حبيباتي
عن عمر بن أبي ربيعة
ولا عن سواه من الشعراء الغزليين
فأنا أعجن نسائي بيدي، كفطائر العسل
وأسبِكهنّ في مختبري، كدنانير الفضّة (4)
ويقول في كتاب (عن الشعر والجنس والثورة):
(( أرفضُ القول أنني أنقل عن الذاكرة الشعرية العربية، أو أية ذاكرة أخرى. إنني بهذا المعنى شاعر مصابٌ بفقدان الذاكرة. منذ بداياتي حاولت أن أخرج على الأنموذج الشعري العام في الغزل العربي. فمن خلال قراءاتي الشعرية تنبهت إلى شيءٍ خطيرٍ، وهو أن كل الحبيبات في الشعر العربي هنّ واحدة. إن حبيبة جرير هي نفسها حبيبة الفرزدق، وحبيبة أبي تمام، وحبيبة الشريف الرضيّ، وحبيبة أحمد شوقي، وخليل مطران، وسامي باشا البارودي. ومقاييس المرأة الجسدية كانت هي الأخرى واحدة. والانفعال بجمال المرأة كان دائماً صحراويّا، بمعنى أن أمير الشعراء شوقي لم يستطع أنه يتحرّر، وهو في باريس، وإسبانيا، وجاردن سيتي، والزمالك، من رنين خلاخيل البدويات ووشمهنّ، وكحلهنّ، وأوتاد خيامهنّ.
كانت هذه الحقيقة ترعبني، لذلك أردت أن أدخل إلى الشعر العربي من بابٍ آخر، وأن أطرح عشقي الخصوصيّ على الورق دون استعارة عشقِ الآخرين.الحبّ الذي كتبت عنه ،هو حبي أنا، ومعاناتي أنا، والأبجدية التي اعتمدتها في الكتابة عن هذا الحبّ هي أبجديتي أنا. إنني أول شاعر دخل إلى غرف الحب الضيقة، ورسم أشياء العشق المعاصرة بدقة عدسة تصوير. وأنا أول من أدخل تفاصيل العشق اليومية في الشعر (الجرائد، الكتب، الستائر، منافض الرماد، أدوات الزينة المعاصرة، المقهى، المرقص، ثياب الاستحمام، العطور، الأزياء...الخ) ومن هنا أعترض على كلمة ذاكرة، لأنني، على حدّ تصوّري، كنت أحاولُ أن أسجّل علاقاتِ الحبّ في عصري، بطريقتي الخاصة، بحيث اتفق أكثر من ناقد على القول: إن شعري هو وثيقة اجتماعية للحياة العاطفية بين الجنسين خلال الثلاثين سنة الأخيرة)) (5)
2ـ عندما كشف نزار عن جسدِ المرأة واقترب من حالات هذا الجسد الإنسانية كما هي على أرض الواقع من جنس وعواطف مكبوتة أو معبّر عنها إلى شذوذ وقمع عاطفي إلى أمومة وخيانة ودعارة... الخ، فإنه لم يكن ليقدّم نفسه على أنه شاعر إباحيّ. بمعنى أنه إذا أباح استخدام اللغة الجسدية الجريئة والمقتحمة لأبواب الطوطم الجنسي والاجتماعي فإنه لم يكن يبيح جسد المرأة، بل سأقول إنه ليس في شعره جملة واحدة أو موقف واحد ولو كان عابراً يدل على أنه شاعر إباحيٌّ، وهو لا يحقق ـ فيما كتبه من عراء وشبق وجنس وحب ـ شروط الأدب الإباحيّ. إن هناك في العمق والجوهر فرقا أساسيّا ومحوريّا بين خطاب الجسد الجريء والصريح وبين استباحة هذا الجسد، بل على العكس إن نزارا في غيرته على المرأة/الأنثى الحبيبة والصديقة يظهر أنانيّا وشرسا في الدفاع عنها له وحده. وإذا كان شعره يدخل في باب الأدب الجنسيّ فليس كل ما هو جنسيّ إباحيّا أبداً.
3ـ المرأة في شعر نزار ليست رمزاً لأي شيء. والذي يحدد وجودها وقيمتها في القصيدة ليس شيئا خارجاً عنها أو ملحقا بها. وهو لم يتَّكىءْ على المرأة كعكّازة فنّية ليحمّلها رموزَ الوطن والثورة والمستقبل الثوري، بل جعلها تقول نفسَها بنفسها مستقلَّةً عن أية تبعيّة لمرجعيَّات مضافة. والمرأة الرمز في الشعر العربي بعامة والسوري بخاصة - ولا سيما في مرحلتي الستينيات والسبعينيات - أصبحت تعني الابتعاد عن الأنوثة الحقيقية والنأيَ عن بنية المرأة المكتفية بذاتها وبعوالمها ورموزها. إن المرأة في هذا الشعر السوري بخاصّة فاقدةٌ لطبيعيّتها وأريحيّتها وكرامتها، لا يكترثُ الشاعر بكيانها وحريّةِ شخصيّتها، فينظر إليها دائما مرتبطة بالوطن والأرض والاحتلال.
وأجد أن الشعر العربي الحديث في هذه المرحلة وفي علاقته بالمرأة، عاد عودةً مريعة إلى صورة المرأة التي أشرنا إليها في حينه، في القصيدة العربية في التراث القديم، وهذه ازدواجية غير مقبولة في رؤية الحداثة، ففي الوقت الذي نخرج فيه على الشكل الخارجي للقصيدة؛ نجد أننا نقلد القصيدة القديمة في طمسها لملامح المرأة / الأنثى، مع أن الظروف الاجتماعية اختلفت وانقلبت جذريا، ولكن يبدو أنه تغيير وانقلاب تناولا سطح المجتمع لا عمقه، فليس ممكنا غضّ النظر نقديا عن غياب شعر الجسد واللذة عن قصيدتنا الحديثة، في الوقت الذي كانت موضوعات المرأة والجسد معيارا من معايير تحديث المجتمع لبنيته الداخلية. الأمر الذي لم يعن به شعرنا الحديث، لذلك فنحن نرى في المراحل التي أشرت إليها (الستينيات والسبعينيات) أن حبيبة الشاعر هي نموذج شائع لا خصوصية له، يمكن أن تكون حبيبة أي شاعر آخر، إنها هي الأخرى نموذج (ليلى) رمز العشق والحب، يستهلكه كل الشعراء دون استثناء، هي امرأة بلا ملامح ولا كيان ولا قيمة لها، بل إنها كائن دونيٌّ لا يملك في نظر الشعراء ما يجعله يستمدُّ قيمته من نفسه، وإنما تتحدّدُ هذه القيمة من خلال افتعال العلاقة بين المرأة ومقدّساتٍ أخرى وأهمّها الوطن والثورة. (وهذا أمر مفارق ومستنكر).وقد شكّل نزار قباني استثناءً لا مثيل له في هذه المعمعة، شاء النقد أم أبى...

نزار قباني والشعرُ السياسيّ
من الأفكار الشائعة عن نزار قباني أنه لم يكتب شعراً في موضوع الوطن أو شعرا وطنيا أو شعرا سياسيا قبل نكسة/هزيمة حزيران 1967 ، وقد يجد المرء في بعض ما كتبه نزار ما يؤيد هذه الشائعة التي ذهبت رأيا نقديا دون تمحيص من أحد تقريبا. وهذا يفرض علينا وضع السؤال حول مفهوم الشعر الوطني والسياسي موضع التساؤل من جديد على ضوء وعينا الجديد. فقد درج النقد العربي على تحديد الشعر السياسي أو الوطني على أساس الموضوع المباشر الذي يقوم بإلغاء الطابع الإنساني لمفهوم الشعر الوطني، وحصره في جزر مغلقة لا يمكن الدخول إليها إلا عبر نظريات مسبقة عن النضال والثورة. من هنا اضطر الكثيرون تحت وطأة النزعة المؤدلجة والمسيّسة إلى تقسيم شعر نزار إلى محورين شعر المرأة والشعر السياسي، وكما قلت لعب الشاعر نفسه دورا في إعطاء مبرر للآخرين لمثل هذا التقسيم، وذلك من خلال تسمية بعض أعماله بالأعمال السياسية. ولكنه في الوقت نفسه يطرح في هذه القصيدة أو تلك ما يدل على تبرّمه بهذا التقسيم الحاد الذي يُسقط عن الشاعر وطنيته قبل هزيمة حزيران، ويُسقط عن شعر الحب الذي يكتبه غاياتِه أو منطلقاتِه السياسية غير المباشرة والتي تتخفى عبر ثنايا المواقف الحادة من ظلم وإرهاب الجسد العربي لا سيما جسد المرأة. فهل يمكن حقا ألا نرى، كنقّادٍ من مسؤوليتهم البحث في أسباب الظاهرة وخلفياتها غير المباشرة، في شعر نزار قباني أيَّةَ مواقف سياسية مضمرة وهو في صدد اختياره موضوع الجنس والحب مثلاً؟ أليس الموضوع ذا بعد سياسي سواء عبّر الشاعر أو لم يعبّر عنه؟ ماذا يعني تركيز شاعر على القمع الذهنيّ والثقافيّ والاجتماعيّ والعاطفي والجنسي في مجتمعٍ ما؟ أليس لهذا الموضوع مؤدّاه السياسي البعيد المدى؟ لكنّ المشكلة أنه هوجم عقائديا وأيديولوجيا هجوما كبيرا، الأمر الذي طمس البعد السياسي لمشروعه الكبير. بينما تقدم لنا الدراسات النفسية أن للموضوع الجنسي ارتباطاته الاجتماعية المتصلة بالسلطة الدينية التي تدعم السلطةَ السياسيةَ وتكرّسها لتأخذ منها أسباب هيمنتها هي الأخرى. وإذا كان شعر نزار في الجسد والحب لا يؤدي إلى فضح هذه السلطاتِ فما الذي كان يفعله إذاً طوال نصفِ قرنٍ؟ هذا من جهة. ومنم جهة ثانية كيف نقرأ نحن شعر نزار إذاً إذا كنا لا ندرك فيه هذا البعد؟ إن اعتماد نزار على موضوع الثورة الجنسية وربطها بالثورة الاجتماعية والسياسية كان خياراً سياسيا بحتاً رضي النقد المؤدلج أم لم يرضَ. وحديثه عن الفساد الأخلاقي في المدينة، ومظاهر التجارة بالجسد من قبل سلطة المال والنفط، واضطهاد المرأة باسم الدين والأخلاق في المجتمع الذكوري، كل ذلك كان دخولاً محرجاً في الموقف السياسي. يقول نزار عن أول ديوان له:
(( " قالت لي السّمراءُ " حين صدوره أحدث وجعا عميقا في جسد المدينة التي ترفض أن تعترف بجسدها أو بأحلامها. كان دبّوساً في عصب المدينة الممدودة منذ خمسمائة عام، على طاولة التخدير.. تأكل في نومها، وتعشق في نومها وتمارس الجنس في نومها.." قالت لي السمراء " كان كتاباً ضد التاريخ وضدّ التاريخيين.. ومن سوء حظه ـ أو ربما من حسن حظه ـ أنه ولد بين أضراس التنين)) (6)
لقد قدم نزار إدانات لا حصر لها للرجل الشرقي في بيته وسريره وعمله وفي تعامله مع المرأة وتعامله مع الحضارة والحب والدين والشعر والغناء. ومن هذا الرجل الشرقي؟ هل هو كائن متخيّل أم كائن حيّ هو نحن جميعا في جميع مواقع حياتنا من السياسة إلى الكتابة؟ وأي سياسة ستكون سائدة في مجتمع تلك صفات رجاله؟ هل هي سياسة العدل والأمان والحرية؟ ألم ينتبه حقا النقد العربي إلى أن الدعوة إلى الحرية في شعر نزار قباني كانت موضوعا سياسيا واضحا لا لبس فيه؟ أم أن هذا النقد لا يفهم الحرية إلا وفق (المانيفست) الأيديولوجي مسبق الصنع؟ كيف يمكن لإنسان أن يحرر وطنا أو أرضا وهو معتقل داخل جسده ورغباته وغير مسموح له أن يقبل حبيبته بحرية؟ كيف يمكن لجنديّ أن يقاتل على الجبهة بينما ذهنه محصور في قضية شرف أخته مع ابن الجيران؟ وقد يجدها فرصة لاستخدام البندقية لاغتيال أخته... إنني أرثي بكل أسف كل ما كتب عن شعر نزار وخلوه من الموضوع السياسي خارج شعره السياسي بعد هزيمة حزيران، وأرثي لكل نقد لا يرى في الحب والجنس موضوعا كبيرا غير منفصل عن الموقف السياسي.
مع ذلك، وإذا وقفنا من زاوية أخرى عند الشائعة المعنيَّة، وهي أنه لم يكتب شعراً في الوطن قبل هزيمة حزيران، أقول إن هذا الرأي عارٍ من المصداقيّة، لسبب وحيد هو أن نزار قباني كتب عن الوطن دائما منذ أول ديوان لـه. ولكنه لم يُقرأْ جيداً من جهة، ومن جهة ثانية لعدم اعتراف النقد ذي المواقف النضالية المرتجَلَة بأن هناك شعرا وطنيا لا يتَّصل بالمظاهرات والضجيج القومي والأمميِّ، ممّا كان سائداً في الأربعينيات الخمسينيات والستينيات. لم يعترف حتى المتلقي المؤدلَج بأنّ نزاراً كان يحب وطنه ومدينته حبّاً مجنوناً ويكتب عن ذلك من وجهة نظره الحرَّة.
ويبدو أنه لا بد من الأمثلة الكثيرة في هذا المجال، نظراً لأن العادة جرت على إقصاء الحالة الوطنية عن شعر نزار قباني قبل 1967 لذلك كان واجباً علينا البحث في مجموعاته الشعرية قبل هذا العام لاستخلاص أهم الأمثلة التي تدل على أنه لم يكن في كتابته للشعر السياسي يشكل انقلاباً إلى هذا الحدّ، بل إننا نستطيع الادعاء أن ردّة فعله العنيفة على الهزيمة كان من أسبابه أنه كان يتغنى بالجمال والحرية في الوطن والإنسان، وفجأة يكتشف أن هذا الإنسان ما زال مهزوماً من الداخل قبيل هزيمته الخارجية. بمعنى آخر كان يحلم بوطن جميل يسوده الحب والحرية ولكن حُطِّمَتْ آماله لأن هذا الوطن لم يحرّر إنسانه من داخله وأطاح بكل أحلامه فانهزم. لذلك كانت حدّته المعروفة في جَلد الذات والوطن استمراراً لحدّته في جَلد الفساد الأخلاقي وانهيار قيم الحب والحرية في العلاقات الإنسانية.
يقول في عام 1944 في أولى مجموعاته الشعرية " قالت لي السمراء" :
أنا لبلادي لنجماتها
لغيماتها.. للشذى.. للنَّدى
سفحتُ قوارير لوني نهوراً
على وطني الأخضر المفتدى
ونتّفتُ في الجوّ ريشي صعوداً
ومن شرف الفكرِ أن يصعدا
ويقول عن (اسمها) في العام نفسه:
كحريرِ النَّهدِ المهزهزِ.. فيه
علّق الله قطرةً من عقيقِ
كقطيعٍ من المواويلِ حطّت
في ذرى موطني الأنيق الأنيقِ
وفي العام نفسه يقول:
لأغزلَ غيمَ بلادي شريطاً
يلفّ جدائلكِ الرّاعدةْ
لأغسلَ رجليكِ يا طفلتي
بماءِ ينابيعها الباردةْ
سماويّةَ العينِ مصطافتي
على كتفِ القريةِ الساجدةْ
أحبّكِ في لهو بيضِ الخرافِ
وفي مرحِ العنزةِ الصاعدةْ
وفي زمرِ السروِ والسنديان
وفي كلّ صفصافةٍ ماردةْ
وفي مقطعٍ من أغاني جبالي
تغنّيه فلاّحةٌ عائدةْ
وفي عام 1948 يقول:
من لثغةِ الشحرورِ
من بحَّةِ نايٍ محزنةْ
من رجفةِ الموّالِ من
تنهّداتِ المئذنةْ
من غيمةٍ تحبكها
عند الغروبِ المدخنةْ
وجرحِ قرميدِ القرى
من وشوشاتِ نجمةٍ
في شرقنا مستوطنةْ
حدودنا بالياسمين
والندى محصّنةْ
ووردنا مفتّحٌ
كالفِكَرِ الملوَّنةْ
بلادنا كانت وكانت
بعد هذي الأزمنةْ
وفي عام 1948
والشمس والحصاد والمنحنى
إذ نهدكِ الصّبيّ لم ينفرِ
أيّ صباحٍ لبلادي غفا
وراء هدبٍ مطمئنٍّ طري
وفي عام 1949 يقول في سامبا:
بانفعالِ
نهدتْ كالمستفَزّةْ
مثلما تنشكّ أرزةْ
في جبالي
وفي 1956 يقول:
لا قدّ، لا زنّارْ
معطّر الضحكةْ
تلاشتِ الأقمارْ
في موطنِ " الدّبكةْ "
لا آه، لا موّالْ
يزركشُ القريةْ
يكحّل الآجالْ
بمجدِ سوريّةْ
إذا مضى الصيفُ
وأقفرَ البيدرْ
فموطني يغفو
في بؤبؤٍ أخضرْ
وفي عام 1955 يقول في الأندلس:
في أزقّةِ قرطبة الضّيقة
مددتُ يدي إلى جيبي
أكثر من مرّة
لأُخرج مفتاح بيتنا في دمشق
وفي عام 1956 يكتب رسالة جندي في جبهة السويس:
إني أراهم يا أبي زرقَ العيونْ
سودَ الضمائرِ يا أبي، زرقَ العيونْ
قرصانهمْ عينٌ من البلورِ جامدة الجفونْ
والجند في سطح السفينةِ يشتمون ويسكرونْ
فرغتْ براميلُ النبيذِ ولا يزال الساقطونْ
يتوعّدونْ
وفي 1956 يقول:
يا بيتها زوّادتي بيدي
والشمسُ تمسح وجهَ واديّا
وبلادُ آبائي مغمّسةٌ
بالميجنا والأوفِ واللّيّا
الوردُ جوريٌّ وموعدنا
لمّا يصير الوردُ جوريّا
وفي 1956 يقول:
يولد الموال حرّاً
عندنا بين الضياعِ
من جبين الزارع الشيخِ
وأنفاسِ المراعي
من وُجاقِ النارِ
من جذعٍ عتيقٍ متداعِ
من خوابينا الطّفيحاتِ
ومن كرمٍ مشاعِ
كل سقفٍ عندنا
يرشح رصداً، كل راعِ
والمواويل لدينا
وجدت قبل السماعِ
وبلادي شرفة الصحو
وميناءُ الشعاعِ
موطني من زرقة الحلمِ
ومن عزمِ القلاعِ
وفي عام 1956 يقول:
بيتي، وبيتُ أبي، وبيدرنا
وشجيرةُ النارنجِ تحضنني
تاهت بعينها وما علمت
أني عبدتُ بعينها وطني
وفي عام 1956 يكتب قصة راشيل شوارزنبرغ:
أكتبُ للصغارْ
للعربِ الصغارِ حيث يوجدونْ
أكتبُ باختصارْ
قصةَ إرهابيّةٍ مجنّدةْ
يدعونها راشيلْ
قضت سنين الحربِ في زنزانةٍ منفردةْ
كالجرذِ في زنزانةٍ منفردةْ
أكتبُ للصغارْ
أكتبُ عن يافا وعن مرفئها القديمْ
عن بقعةٍ غاليةِ الحجارْ
يضيءُ برتقالها كخيمة النجومْ
تضمّ قبر والدي وإخوتي الصّغارْ
وفي عام 1957 يقول في رسالة من شاعر سوري إلى مواطن أمريكي مطالباً هندرسن أن يبعد شرّه عن العرب:
من بلدٍ في الشرقِ الأوسط
أسكنه يدعى سوريّةْ
يتسلّقُ خارطة الدنيا
كالنّحلةِ... كالعشّ الأخضرْ
كرسالةِ حبٍّ مطويّةْ
وفي عام 1958 كتب قصيدة جميلة بوحيرد. ثم كتب في (الرسم بالكلمات) عام 1966 قصائد (أوراق إسبانية ـ أحزان في الأندلس ـ غرناطة).
وفي عام 1961 كتب الحب والبترول:
متى تفهمْ
بأنكَ لن تخدّرني بجاهكَ أو إماراتكْ
ولن تتملّكَ الدنيا بنفطكَ وامتيازاتكْ
وبالبترول يعبقُ من عباءاتكْ
ويتابع فيها:
فبعتَ القدسَ.. بعتَ اللهَ.. بعتَ رماد أمواتكْ
كأن حرابَ إسرائيل لم تجهض شقيقاتكْ
ولم تهدمْ منازلنا ولم تحرق مصاحفنا
ولا راياتها ارتفعت على أشلاء راياتكْ
كأنّ جميع من صُلبوا
على الأشجارِ في يافا.. وفي حيفا
وبئرِ السبعِ ليسَوْا من سلالاتكْ
تغوصُ القدس في دمها
وأنتَ صريعُ شهواتكْ
...
متى يستيقظ الإنسانُ في ذاتكْ
...
وفي عام 1963 يكتب في الشعر قنديلٌ أخضر (من رسالة إلى صديقة مجندة):
(( الآن تعودينَ من معسكرِ التّدريبِ، وأنتِ كالرايةِ المتعبةِ، كالزورقِ العائدِ من رحلةِ مجدٍ. جلستُ أدخّنُ.. وأتأمّلكِ قطعةً قطعةً.. كما لو كنتُ لا أعرفكِ من قبل.
أرأيتِ كيف تنتقلُ بلادي إليَّ؟ كيف تتحوَّلُ بلادي إلى ذرّةِ غبارٍ على قميصٍ شجاعٍ؟))
...
ولا يمكن أن ننسى في ختام هذه الجولة من الأمثلة قصيدته (خبز وحشيش وقمر) التي هي أشهر من أن نعيد الحديث فيها.
...
يمكن بناء على هذه الأمثلة وغيرها أن نزعم أن موضوعات الخطاب السياسي لم تكن غائبة الغياب كله عن شعر نزار قبل 1967 ولكنها كانت تحضر بطريقة شفافة يسعى الشاعر من خلالها للدمج بين فكرتين متضايفتين في شعره: فكرة الوطن كهاجس عامّ، وفكرة الوطن كهاجس شخصي غير منفصل عن حبّ الشاعرِ وإعجابهِ بالطّبيعة والغناءِ والشروق والغروب في بلده، وهذا مما يمكن تسجيله لصالح الشاعر على صعيد المستوى الفنيّ للخطاب، إذ أمّن له ذلك التضايفُ بين (العامّ) و(الشّخصيّ) أن يبتعدَ عن الشّعاراتِ الدارجةِ، والالتزامِ العقائدي بتيارٍ بعينهِ يحصرُ مخيلّة الشاعر في نطاقٍ معين، ولا يمكن له أن يخرجَ عن إطارِه، الأمرُ الذي وقع فيه جميعُ شعراءِ النضالِ والأحزابِ في تلك الفترة.
إن نزارا قبلَ هزيمة حزيران وبعدها كان يقيم حوارا مضادا ورافضاً مع رموز تاريخية أو شعبية، والتي تنطوي على دلالات سلبية في ترسيخ رؤية فكرية جامدة في ذهن الإنسان العربي، وكان يقصد من هذا الحوار إلى نسف هذه العلاقة الميتة مع تلك الرموز، وتثوير الذاكرة وإخراج هذه الرموز من حيز الموت والجمود إلى حيز الفاعلية، وإن فشلت في الفاعلية فلتصبح حيادية أو سينقضّ عليها الشاعر مهشما معناها كاشفا مواتها وتأثيرها السلبي. مهما بلغت هذه الرموز من قداسة المدلول. بدءا من هارون الرشيد وليس انتهاء بالإمام...
وكان هذا يعني أن يوجّهَ نزار في شعره ونثره ومقالاته المهمة، نقدَه الشديد واللاذع إلى ما يسمى النسق الثقافي الذي يقف وراء الشخصية العربية في تجليات هذا النسق المختلفة، فهو نسق ثقافي شحن هذه الشخصية بالكثير من أسباب التخلف، على أي صعيد كان، بدءا من الأسرة وانتهاء بكرسي الحكم. ولم يكن هجومه على هذا النسق الثقافي المكوِّنِ لمجملِ رؤى الشخصية العربية، والواقفِ وراء أدائها المعطَّل والبطيء، إلا شكلا متقدما من العلاقة بين الشاعر والفكر، بالقدر الذي يتاح لشاعر لا يدعي أكثر من طاقاته وآفاقه.
وفي سياق نقده الشعري – إن جاز التعبير – للنسقِ الثقافي المذكورِ، كان لا يخفي هجاءَهُ للمفهوم الملتبس للحداثة المنقطعة عن بيئتها وجذورها والمزاج العربي الخلاق الذي كانت تجسده كثير من الأمثلة الإبداعية في الذاكرة العربية. وقد يظهر هنا نوع من التناقض بين هجائه لرموز التخلف في تراثنا من جهة، وفي حربه على حداثة منقطعة عن تراثها، أقول ليس في الأمر أي تناقض، بل هو دلالة ذكية على أن موقف نزار من التراث العربي بشعره وفكره ومخزونه الشعبي لم يكن موقفا عدميا، ولا تدميريا، ولم يكن رفضا لمجرد الرفض، بل كانَ دعوةً مبطنة لتنقيةِ هذا التراث من الكثير من مواضع التخلف فيه، وهي ليست قليلةً.
والسؤال هنا: أليس هذا عملا في السياسة؟
بل يمكننا الزعم أن شعر نزار على هذا النحو من العلاقة مع الوطن كان يقدم أمثولةً سابقة مبكرةً للعلاقة بين الشعر والوطن، العلاقة التي ترتسم وفق الحاجة الجمالية والموقف الشعري لا الموقف الذي يسعى شاعر سياسي مباشر إلى توظيفه واستثماره في مصرف المواقف المسجلة المقبوض ثمنها... يأخذ موضوع الوطن بهذا المعنى أهميته من التفريق بين وطن تصنّعه الأحزابُ والشعارات، ووطن موجود فقي جماليات البيت الدمشقي وروائح العطر وشؤون البشر اليومية في أحوالهم المتقلّبة.
إن الوطن ليس حجما سياسيا ولا منفعيا ولا شخصيا يتداوله الشعراء كلّ حسب دكانه الأيديولوجية وفاتورة البرنامج السياسي، بل هو ذلك الحافز الفطري بل والغريزي على حب الحياة والياسمين والمرأة والطفل والأناقة والحضارة... هذا الوطن كان موجودا بقوة في شعر نزار دون أن يدّعي ذلك، فالادعاء هنا لا يؤخذ على اعتبار الانتماء السياسي بل على اعتبار الانتماء الجمالي للوطن كمكان وزمان وذكريات وعلاقات يومية مهددة بالاحتلال من داخل وخارج الوطن.
أعتقد أن شعر نزار حتى ما قبل هزيمة 67 كان يذيب الوطن في التفاصيل الصغيرة التي تهم الكائن في حياته دون أن يغفل عن الارتباط الطبيعي بين حياة هذا الكائن اليومية وبين (القضايا المصيرية)، ولكنه لم يشتغل معلّقاً سياسيا على الحدث، ولم يكتب تحت ضغط مناسبة راهنة، وهنا تكمن أهمية شعره، من حيث أن ما كتب تحت تأثير المناسبات والأحداث والنكبات والنكسات، ذهب مع الزمن ولم يبق إلا الشعر الذي يعالج الوطن معالجة جمالية صرفةً. وهذا ما قد يجعلني أجد تناقضا غير مبرر لدى كثير من الكتابات النقدية التي هجمت على شعر نزار متهمة إياه باللامبالاة بقضايا الوطن والعرب، في الوقت الذي تدعو هذه الكتابات إلى أن ينجز الشعر مهمته كشعر قبل أن يلتفت للموضوع والقضية النبيلة والوطنية أو القومية، والتناقض موجود بشكل فجّ وشنيع في أن هذا النقد يغفل عن أن نزار قدم مثل هذا الشعر قبل الهزيمة، وهو من الشعر القليل الباقي حتى الآن كقيمة فنية وجمالية لأنه لم يكن ردود فعل راهنة ولا توصيفا للأحداث ولا تبشيرا بنصر ولا دعوة أيديولوجية، في حين سقطت آلاف الفصائد الطنانة المعبرة عن موقف سياسي مباشر أو كانت عبارة عن تعليقات موزونة ومقفاة على الحدث.
والمفارقة التي أصل إليها الآن أن الهزيمة التي يعتبرها الجميع منعطفا كبيرا في شعر نزار، حتى نزار نفسه يعتبرها كذلك، أراها شكلت عبئا وإعاقة في مسيرة الشاعر، لأنه الهزيمة أوقعته في كمين لم يكن لصالحه على صعيد الكتابة الشعرية والموقف الفني والجمالي، فهي دفعت به لأول مرة بهذا الوضوح إلى أن يصنّف شعره بدءا من هذه المرحلة على أنه شعر سياسيّ، يقف وجها لوجه أمام الموضوع السياسي بصورة مباشرة غافلا عن الموضوع الشعري والغاية الجمالية التي كان شعره قبل الهزيمة يحققها. بها الاعتبار أرى أن شعر نزار المصنف (سياسيا) كان مسارا يحتمل الكثير من الهبوط الفني والجمالي، ولم يكن نزار في هذه اللحظة إلا ناطقا رسميا باسم جماهير منكوبة مهزومة مكسورة تعاني الاستبداد والقمع والاحتلال في وقتٍ واحدٍ معاً. ولكن ألم يكن قبل الهزيمة مشغولا أيضا بمعاناة الإنسان العربي الذهنية والنفسية خضوعه للاستبداد التاريخي الثقافي الذي حوّله إلى مستعمرة جاهزة للاختراق بأي فعل خارجي؟ ولكن الفرق بين المرحلتين أن نزار قبل الهزيمة لم يكن يضحي بلغة الشعر ولا بشؤون الفن، في حين قدم نوعا واضحا من التنازل بعد الهزيمة...
فما كتبه بدءاً بعام 1967 فقد كان خطابا سياسياً حاد النبرة، غاضباً، انفعاليّاً. ولا نقول هذه السمات للانتقاص من هذه القصائد، فهي سِمات الشارع العربي الذي نذر الشاعر نفسه لتمثيله والنطق بلسانه. ولكن عند التقييم النقدي للتجربة النزارية لا بد أن نرى تدنّي الخطاب الشعري في عدد غير قليلٍ من قصائده ذات المناخ السياسي المباشر. لذلك سنقول عن كثير من شعره (السياسي) بعد الهزيمة أنه لن يصمد أمام تاريخ الشعر مطوّلا باعتباره شعرا، مع أنه قد يبقى نموذجاً – ونموذجاً مهمّاً - للهجاء السياسي، مأخوذا بسياق الإرث العربي التاريخي الطويل الذي يتضمّنُ العديد من نماذج شعر الهجاء السياسي، وهو في أي تقييم نقدي وفي أيّ مرحلة ووفق أي منهج سيكون شعرا أقل شعرية وأدنى جماليةً.
لهذا أجد أن الهزيمة كانت وبالاً على التجربةِ الشعريةِ لنزار قباني، خاصة وأنها مرحلة تبدأ ولن تنتهي بل ستتشعب وتأخذ منحنيات وتحولات عديدة فيما بعد ليصبح الأمرُ غير محصور بالهزيمة وحدها بل ستمتد لتطال علاقة الأنظمة العربية بشعوبها، وهي الموضوعة التي سيهدرُ نزار كثيراً من شعره في تشريحها وتجريحها محققا في هذا انتشارا أوسع ومثيرا كثيرا من اللغط السياسي والإعلامي على حساب اللحظة الشعرية وجماليّات مشروعه الشعري. بل أستطيع أن أرى في هبوط شعره السياسي سبباً من الأسباب التي دفعت بالنقاد العرب للابتعاد عن تناول شعره بشكل نقدي ومنهجي وموضوعي، لأنهم سحبوا هذه المرحلة الضعيفة من الشعر السياسي المباشر على كامل مشروعه الشعري، فلم يعودوا يرون فيه دوافع مثيرة للعمل النقدي. ولا شك أننا لا نغفر لهم هذا ولا نبرره لأنه سقطة نقدية هي الأخرى وهبوط في مستوى التعاطي العلمي مع الظاهرة الأدبية متمثلة هنا في شعر نزار. وسيكتفي كثير من هذه الكتابات بالمستوى الظاهري من المسألة دون الاهتمام بما تحت السطح، لأن النقد في حالة نزار قباني كان يتعالى أصلاً على شعره، فوجد في شعره السياسي سببا آخر يحاول إن يبرر لنفسه من خلاله صحة موقفه المتعفف عن تناول شعر نزار برمته.
مع ذلك كلّه أرى أن نزاراً فيما يسمى شعره السياسي، ظلّ مختلفاً عن شعراء تعاملوا مع السياسة باعتبارها شعاراً وتفاؤلاً وفرحاً مجّانياً، أي أنه كان الأقرب والأصدق تعبيراً عن نبض الفرد العربي في لحظات عرائه أمامَ نفسه.
وللحقيقة، أو ما أظن أنه حقيقة، أقول ليس من الصعوبة على أيّ ناقد مهما صغر شأنه أن يجد ضالته في الهجوم على شعر نزار السياسي، من حيث الجانب الفنيّ والمستوى الأدبي، وهذا ما لا أطمح أن أفعله أنا شخصياً، لسببين، الأول أنها ليست فتوحا نقدية ولا فضا لمغاليق مجهولة، فالشاعر طرح شعره بكل وضوح دون أدنى لبس ولم يزعم في يوم من الأيام أنه يشكل استثناءً شعريا في الشعر السياسي. ومن هنا أخلص إلى السبب الثاني حيث أنني لا أريد أن أزايدَ على الشاعر. لأنه قام بنفسه في أواخر حياته بعمل جردِ حساب نقدي يُشهد له ويُسجّلُ في وثائق نقد الشعراء الكبار لتجاربهم، ومراجعته الذاتية لقيمتهم كما يرونها من موقعهم كقراء وليسوا كمنتجين للنصّ، فقدم نقداً نوعيّا وقيّم تجربته في القصائد السياسية تقييماً كافياً ووافيا حيث قال في عام 1994 عندما سئلَ: كيف ترى الشعر السياسي الآن؟ وهل هناك فعلاً شعرٌ جديرٌ بهذه التسمية؟:
(( منذ أكثر من سنةٍ أعلنتُ الطلاقَ مع شعري السياسي، بعدما اكتشفتُ في محاولةٍ جريئةٍ لنقد الذات، أن جميع ما كتبتهُ من شعر سياسي ذهب مع الريح. فالشعر السياسي العربي لا ثبات له ولا ديمومة، لأنه يغني على مسرح عربي شديد الاهتزاز، كثير التقلب. إنه مسرحٌ تنقلب به الكوميديا إلى تراجيديا في ثانية واحدة. وتتحولُ فيه الأفراحُ إلى جنائز خلال دقائق معدودات... والوحدات الفيدرالية والكونفدرالية تموت قبل أن تنزل من رحم أمها... وهكذا فإن جميع القصائد السياسية العصماء التي كتبناها بحماس عظيم ليلة الجمعة، انتقلت إلى رحمة الله صباح السبت
وبكل صراحة، أعلن أمامكم أن كل الملاحم السياسية التي ملأنا بها الدنيا قرقعةً وضجيجاً.. لم تكن أكثر من ريبورتاجات صحفية وضعها التاريخ في سلّة المهملات)) (7)
وفي اعتراف آخر قبل هذا الحوار يقول نزار:
(( لا أزال متمسكا برأيي في أن (السياسيّ) مضادّ (الشعري) فالزمن السياسي زمن مرحلي، مؤقت، وسريع التبخّر، في حين أن زمن الشعر زمن مطلقٌ، ومفتوح على كل الأزمان، ولا يرتبط إلا بنفسه.
قصائدي السياسية أسميها بكل بساطة (قصائد سياسية) أي أنها كتبت لتغطية حدثٍ ما.. أو غضب ما.. أو لتسجيل احتجاج على انحراف قومي ما..
عندما يربط الشاعر نفسه بساعة الأيديولوجية، أو الحزب، أو بمنطق المسيرات والمظاهرات الشعبية، فإنه يخسر كثيرا من ألقه الشعري، ويتحول إلى مرشح انتخابي، أو إلى كاتب عمود في جريدة سياسية.
إنني لست نادما على ما كتبت من قصائد سياسية، ولكنني أشعر في مراجعة النفس.. أنني خنت زوجتي – القصيدة)) (8)
وكنوعٍ من القراءة المشروعة لهذه الاعترافات، ولكي نصوغها بلغتنا نقول:
كان نزار واعيا الوعي كله لطبيعة شعره السياسي بما يعنيه من شروط يتم فيها التنازل عن الشرط الشعري، وهو يعترف بهذا صراحةً وبجرأة قد لا نعهدُها لدى شاعر آخر فيما لو كتب شعرا بمستوى شعره السياسي، وكم نحن بحاجة ملحة فعلا لأن يقف مئات الشعراء العرب ليعترفوا علانية كما اعترف نزار، لا سيما أولئك الذين حولوا القصيدة إلى خادم مطيع وجبان ودون شرف ولا أخلاق في قصور الملوك والزعماء، مع أنهم أقل مستوى منه حتى في سيئه الشعري الذي هو خير من جيدهم. إضافة إلى أن نزار كان يشكل خطرا على هؤلاء ويمثل شوكة في حلوقهم وحلوق ولاة أمرهم لأنه كان النقيض الصارخ لهذا النموذج من الشعر المنحط أخلاقياّ. وهنا قد يطلع صوت يزايد علينا وعلى نزار في تذكيرنا بأنه كتب في بعض المناسبات كلاما مغازلاً في بعض الشخصيات السياسية، ويأخذون هذا مأخذا شديدا لإدانة نزار واتهامه بالتقلب والانتهاز، أقول غير مبرر ولا مدافع، ولكن محاولا وضع الأمر في سياقه الذي أراه ممكنا ومحتملاً: إن نزار كتب ما كتب كتعليقاتٍ في ثنايا بعض مقالاته وليس في مشروعه الشعري ما يحتمل مثل هذه المواقف المدائحية، ولم تكن تلك المجاملات التي كان يقوم بها إلا نوعاً من السلوك الديبلوماسي الذي ربما كان مفرطاً في تهذيبه إلى درجة فقدان البصيرة، أجل، ولكنها مجاملات تدخل في باب العلاقات الاجتماعية العابرة التي سرعان ما تنقلب وتتحول بالمطلق عندما تمسّ هذه الشخصيات كرامةَ الوطن والمواطن والشاعر. فنزار لم يلوّث شعره بمثل هذه المدائح، بل على العكس أصيب شعره بتخمة لكثرة ما عبأه بهجاء لنموذج الطاغية العربي والديكتاتور، حتى أن البعض ممن كان يريد تصفية حساباته مع الشاعر لم يحد حرجا في تأويل بعض من قصائده تأويلا يتعلق ببعض الحكام العرب مباشرةً وبالاسم، وربما كان حاكما نال بعضا من مجاملات الشاعر في مقالاته النثرية وتصريحاته التي كان يدلي بعد اشتراكه في بعض المهرجانات العربية المشهورة.1
وأجد أن نزار قباني في بعض قصائده التي اتخذت من نموذج الطاغية 2موضوعا للتهكم والسخرية فهو قدم قصائد نموذجية، ربما تضاءلت قيمتها الشعرية مع الزمن، ولكنها ما زالت تكتسب أهمية وقيمة من زاوية اختراع الأدب لنماذج من الطاغية والديكتاتور الذي يضربه الشاعر بإزميل السخرية والتهكم، وهو ما سيفعلُه الشاعر محمود درويش بعد سنين عندما كتب (خطب الديكتاتور الموزونة)، التي نجد أن نزار سبقه في موضوعها. وهذا مما يسجل أيضا للكثير من الفتوحات التي كان نزار حتى وهو في انشغاله عن المشروع الفني، ينشغل بها لأنها تعبر عن شخصيته الحقيقية.
على أن نقد نزار لقصائده السياسية ولمستواها، بمثل تلك الجرأة الجارحة والنادرة، تجعل الناقد يضطر لينصب من نفسه مدافعا عن الكثير من شعر نزار السياسي نفسه، وهو ما يشكل مفارقة طريفة، ففي الوقت الذي يدين شاعر مرحلة من مراحله الشعرية بكل وضوح لا لبس فيه، يضطر ناقد ما ليخالف الشعار قليلا في تقييم تجربته تلك!.
والسبب في ذلك أن التصنيف الذي لجأ إليه نزار لشعره، في تسمية أجزاء كاملة من أعماله الشعرية باسم " الأعمال السياسية " كان نوعا من الظلم والاستهانة بكثير من الشعر الذي لا يمكن تصنيفه على أنه شعر سياسي هكذا بالإطلاق، ولكن وجوده في كتاب مصنف مسبقا على أةه سياسي، ضيع الفرصة على المتلقي النقدي في أن يلتفت إلى قيمة هذا الشعر الغير خاضع للتصنيف.
ولكي لا نتكلم في الفراغ ونطالب بأمثلة سأسوق هذه الفقرات من المجلد السادس من أعماله الشعرية لكاملة وهو مجلد يحمل اسم (الأعمال السياسية الكاملة).
1 ـ هناك بلادٌ تخاف على نفسها
من هديل الحمام
وقهقهة الريح بين الشجرْ
وتستنفر لجيش
برا وبحرا وجوا
لكي يستعد لقتل القمرْ
هناك بلادٌ
تشرّع أبوابها للبغايا
وترفض أن تمنح الشعر
تأشيرةً للسفرْ (9)
*
2 ـ يا ربي
إن الأفق رمادي
وأنا أشتاق لقطرة نورْ
إن كنت تريد مساعدتي
يا ربي فاجعلني عصفورْ (10)
*
3 ـ ليس هنالكَ لعبٌ بالكلماتْ
فعلى الشاعر أن يختارَ معاركَه
أو يختارَ السّكنى
في بيتِ الأمواتْ (11)
*
4 ـ يسعدني
أن تجعلوا منْ كُتبي مذبحةً
وتنحروا قصائدي
كأنها النياقْ
فسوفَ يغدو جَسدي
تكيّةً يزورُها العشّاقْ (12)
*
5 ـ غودو أنا
غودو أنا
تسلّقَ العشبُ على حقائبي
تسلّقَ العشبُ على ذاكرتي
والوقتُ فوق رقْبتي
يمرّ كالمنشارْ
لا تتركي رأسيَ في الهواءِ يا سيدتي
فهذه الدنيا
بلا سقفٍ ولا جدارْ
لا تتركيني أبدا
فالقلبُ إبريقٌ من الفخّارْ (13)
ولا أقول إن هذه الأمثلة قليلة أو تشكّل طفرة، أبدا، بل هي منتشرة على طول ما يسمى بالأعمال السياسية. وربما كان أجدى لو ترك الشاعر هذا التصنيف الذي أضاف إلى شعره ظلما فوق الظلم الواقع عليه. وتبقى مهمة النقد أن يحكم على قيمة الشعر كله دون الوقوف أمام مسميات مفروضة عليه.
وحتى لا نقطعَ نحنُ أيضا برأيٍ نهائي نرى عدم إمكانيته، أقول ربما تعمّدَ الشاعر إطلاق وصف السياسية على هذه الأعمال منوع من الاعتراف الضمني بأنها أقل مستوى من باقي شعره الصافي، أو لفت نظر للمتلقي بأنْ يخفف من مطالبه الجمالية وطموحاته الفنية من هذا النوع من القصائد.
وفي أي احتمال كان وارداً، أستطيع أن أجزم بأن حصْرَ النصّ الأدبي في خانةٍ سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك هو عملُ مصادرة للقارىء وإملاءُ رأي مسبقٍ عليهِ، إذ ليس مقبولا أن يكتب روائي مثلاً على غلاف روايته (رواية سياسية) أو (رواية رمزية) أو (صحراوية)... فهذا يعتبرُ تدخّلاً – غيرَ سافرٍ طبعاً!- في حرية المتلقي، قارئاً نوعيا كانَ، أم ناقداً مختصّاً.

الهوامش:

1 ـ نزار قباني ـ الأعمال الشعرية الكاملة ـ ج1 ـ منشورات نزار قباني ـ طبعة 12ـ بيروت ـ 1983ـ ص 54
2 ـ نزار قباني ـ المصدر السابق ـ ص 215
3 ـ نزار قباني ـ المصدر السابق ـ ص 527
4 ـ نزار قباني ـ تنويعات نزاريّة على مقام العشق ـ الأعمال الشعرية الكاملة ج 9 منشورات نزار قباني ـ بيروت 2002 ـ ص 640
5ـ نزار قباني ـ الأعمال النثرية ـ ج7 ـ منشورات نزار قباني ـ بيروت ـ 1993 ـ ص 471
6 ـ نزار قباني ـ المصدر السابق ـ ص 271
7 ـ حوار مع نزار قباني ـ مجلة الهلال ـ القاهرة ـ يونيو ـ 1994
8 ـ حوار مع نزار قباني – نشر في مجلة أوراق - أبو ظبي، وفي مجلة العواصف عدد 126 تاريخ 17/7/1992
9 ـ الأعمال الشعرية الكاملة ج 6 الأعمال السياسية – منشورات نزار قباني بيروت ط 2 ص 319
10 ـ المصدر السابق ص 338
11 ـ المصدر السابق ص 341
12 ـ المصدر السابق ص 353
13 ـ المصدر السابق ص 372








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??