الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السحور...دقات الطبل والوجل من - بغلة القبور - / فصل من ذكريات طفل بحي ميملال

علي أحماد

2019 / 5 / 14
الادب والفن


نذر الرجل نفسه ليوقظ أهل الحي للسحور في كل ليلة غراء من رمضان ، في القر و الحر ، لا يكاد يخلف موعدا مع الشهر الفضيل . لا ينفك يستعد لعمله الدؤوب والشاق نفسيا وجسديا . هل اختار المهمة عن طيب خاطر أم سعيا وراء لقمة العيش ؟ المهم أن الأقدار وضعت هذا الرجل في خدمة الساكنة الذين يقدرونه ويجلون عمله . لا أحد يؤكد متى بدأ الرجل عمل ( المسحراتي ). يرتدي جلبابا قصيرا يتجاوز الركبة قليلا يشبه الى حد بعيد جلبابا يرتديه أفراد القوات المساعدة ، يشده من الخصر بحزام جلدي عريض وسميك ، يظهر إبزيمه الحديدي لامعا ، حتى لا يمنعه الجلباب من خفة الحركة والهرولة . غالبا ما يعلق في الحزام مصباحا يدويا يستعين به لإنارة دربه عندما يفتقد نور القمر . في هذا الزمان لايزال الحي يغرق في الظلام الدامس لأنه لم يربط بشبكة الكهرباء . يتدلى من كتفيه على صدره طبل صغير مشدود الجلد . وليس اعتباطا أن يختاره صغير الحجم ، فلو كان كبير الحجم لثقل عليه حمله مسافة طويلة . ينقر عليه ضربات متتالية وموزونة بعصا مميزة تكسر صمت الليل البهيم وتبعث الحركة في بيوتات كان اهلها يغطون في نوم عميق ويلفها الظلام والسكون . تكفي هذه الدقات على الطبل أن توقظ النائمون ليستعدوا لإعداد وجبة السحور ولصلاة الفجر بمسجد الحي الوحيد . يتفق كل الذين رأوه أو صادفوه أنه رجل متوسط القامة ، فهو ليس بالطويل ولا بالقصير وليس بالنحيل ولا بالسمين ، رشيقا في مشيته ، يسابق الزمن ليلف أزقة الحي دون استثناء بخطى ثابتة وسريعة ، وقد يتوقف لدقائق معدودات في رأس الزقاق لتتوالى الضربات على الطبل . . ضبط سكان الحي قيامهم للسحور على وقع طبل عمي ( عرباني ) وإن توفرت لبعضهم منبهات بصمت حياة الناس وعرفت ب ( الفروج ) الذي يزين بألوانه الزاهية وهو يلتقط الحب محاطا بالفراخ ميناء المنبه . تدور عقارب الساعة في دقة متناهية ، لهذا شبه الذي يضبط مواعيده بالساعة السويسرية . ولكن هذه الساعة التي لا يكاد يخلو بيت منها يعتريها الضعف أحيانا فتركن للسكون ..فلابد من ( ملأها ) كقطعة حديد لا روح فيها . بعض الذين يشخرون أثناء النوم يعزفون سنفونية عجيبة يضعون منبه ( الفروج ) في صينية مليئة بكؤوس( المردوم ) .
يسهر الأطفال ليلقوا عليه نظرة يملأها الإعجاب والإستغراب وأحيانا الخوف . بقي الرجل في نظرنا مقداما لا يهاب الظلام ويقهر الخوف من حكايات الأشباح والجن و ( بغلة القبور ) . كغيري من الأطفال حرصت كل الحرص على رؤية الرجل وألححت في ذلك الحاحا على أمي . لم تفوت علي فرصة رؤية الطبال دما ولحما. ومنذ ذلك الحين وشمت صورته ذاكرتي وبقي السحور كطقس من طقوس رمضان رديفا ب عرباني ... لم يسلم الرجل المسالم من مقالب بعض الجسورين من شباب ورجال الحي الذين بيتوا النية لترهيبه وتخويفه . ونحن صغار نسمع من أفواه الكبار شيوخا وعجائز عن ( بغلة القبور ) ونتساءل في براءة الطفولة كيف تكون للقبور بغلة ؟ تؤكد الحكاية أن بغلة القبور امرأة مات عنها زوجها ولم تلتزم بالعدة فترتدي اللباس الأبيض وتلزم دارها ، لهذا وعقابا لها مسخها الله . من المعتاد أن تخرج البغلة / المرأة ليلا لتتصيد فرائسها وهي تجر سلاسلا وأغلالا تحدث جلبة في المكان الذي تمر منه وتفضل جوار القبور .... وينشر ظهورها الرعب حسب شهادة من زعموا أنهم قابلوها . تفنن الكثير في وصفها حتى نافست في شهرتها عائشة قنديشة . لهذا ظل جيلنا يخشى الظلام . في أزقة تحاذي الحقول خرج على الرجل شاب يرتدي الأبيض ويجر وراءه علب الحليب الفارغة من نوع بورسيما ( الخميسة ) التي صفت بسلك حديدي . تحدث العلب عند احتكاكها بالأرض صفيرا متواصلا . ترك الرجل الدق على الطبل وأطلق ساقيه للريح يطوي الطريق الى بيته طيا فزعا مما رأى وسمع . يحكى أن ( المسحراتي ) ظل ملازما للفراش مدة من وقع الصدمة . عندما يحل عيد الفطر وفي الساعات الأولى من الصباح يفرش الطبال حصيرا أمام منزله . يتوافد السكان نساء ورجالا ويضعون فوق الحصير ما تيسر من حبوب أو قطع نقدية أجرة أو صدقة مقابل عمله طول ليالي رمضان . وهو لا يسأل الناس إلحافا أو زيادة لأنه يقنع بما جادت به نفوسهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق


.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا




.. أين ظهر نجم الفنانة الألبانية الأصول -دوا ليبا-؟


.. الفنان الكوميدي بدر صالح: في كل مدينة يوجد قوانين خاصة للسوا




.. تحليلات كوميدية من الفنان بدر صالح لطرق السواقة المختلفة وال