الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سواد . . . محاولة لتدوين الأحلام والكوابيس

عدنان حسين أحمد

2019 / 5 / 16
الادب والفن


تشكّل "سواد"، المجموعة القصصية الجديدة الصادرة عن دار "نينوى" بدمشق انعطافة حادة في تجربة القاص والروائي العراقي سعد هادي الذي وَفَد إلى الفضاء السردي من عالم الرسم والنحت والسينما وتاريخ الفن فلا غرابة أن تشتبك جملته السردية باللقطة السينمائية أو تتلاقح مع أحد العناصر التشكيلية التي تُثري النص القصصي، وتُضفي عليه أبعادًا جمالية قد لا نألفها في القصص القارّة المُكتفية بفضائها السردي.
تتضمن المجموعة ثماني قصص غريبة شكلاً ومضمونًا، ولو تأمّلها القارئ جيدًا لوجدها محصورة بين أنا الراوي وقرينه أو مثيله، فكلنا لدينا أنداد ونظراء متعددين يظهرون لنا من حيث لا نحتسب، ويأخذوننا إلى المنطقة الرمادية أو الحدّ الفاصل بين الحقيقة والوهم، ذلك الحيّز الغامض الذي يضطّرنا لأن نقبل بنظرية "الواقع الخيالي" أو "الخيال الواقعي" الذي ينطوي على مستويات متعددة تُقنع القارئ ولا تقف حائلاً أمام تجلياته وشطحاته الذهنية الخلاّقة. فكل الرواة في هذه القصص يواجهون أندادهم من دون أن يعرفوا ذلك، وهذا هو سرّ اللعبة الفنية التي أتقنها سعد هادي وكرّرها علينا ثماني مرّات من دون أن تفقد بريقها أو تتخلى عن قدرتها على الإبهار. أما الثيمات فهي عجائبية في مجملها يتداخل فيها الواقع بالخيال، ويمتزج فيها المرئي باللامرئي، ولا تخضع لقوانين العقل واشتراطاته المعروفة. ولو شئنا التعميم لقلنا إنّ الرواة في هذه القصص الثماني يحاولون تدوين أحلامهم وكوابيسهم.
تحتاج قصة "مبكى الغرباء" لإعادة ترتيب الأحداث بغية إزالة الغموض الذي يكتنفها، فالراوي هنا "ساردٌ غير عليم" ويعاني من فقدان الذاكرة amnesia ولا يستطيع أن يتذكّر تلك النزوة التي راودته ذات يوم في أن يكون ممثلاً وكانت السبب الرئيس في تدمير حياة الأسرة برمتها. ثمة أحداث ووقائع مختلفة تشير بالدليل القاطع إلى المناخ الديستوبي الذي يسيطر على شخصيات القصة، فالراوي لا يتذكر الأحداث المفجعة التي أصابت أفراد أسرته وهزّته من الأعماق، كما لا يتذكر زوجته أو منزله أو صورته في فيلم "مبكى الغرباء" الذي اشترك فيه. غير أن الطامة الكبرى تحدث عندما يرى المشاهدون أنفسهم في صورته والكل يصرخ: "هذا أنا!"، وحينما تظهر زوجته يصيح أكثر من مُشاهِد "هذه زوجتي!" ويدعي بأنها كانت تعيش معه، وقد هربتْ منه، وتركتهُ وحيدًا. إنّ هذا التماهي مع شخصية البطل الضائع، والوحيد، والفاقد للذاكرة يشي بأننا "معشر النظّارة كُنّا وسنظلُ متشابهين في التعاسة ولا جدوى الوجود".
توحي قصة "أنا ذئبك يا صاحبي" بنَفَسها البوليسي أول الأمر لكنها سرعان ما تنتظم في ثنائية "الأنا ومثيله" ولو أعدنا تجميع العناصر المتفرقة لهذه القصة "السوداوية" لبرز لنا الراوي الفاقد للذاكرة بفعل صدمات حرب الثماني سنوات التي خلقت من مقاتليها ذئابًا بشرية. أقسى مايتذكّره الراوي هي تلك الدورية القتالية التي قُتل فيها صديقه، وقد دوّن في إفادته الرسمية بأنّ ذئبًا انقضّ عليه، وسقط معه إلى الهاوية، وظل أحدهما يأكل لحم الآخر حتى تحوّلا إلى كائن مُلتبس في زمن أهوج صنعته الحروب والعقول المريضة الفاسدة التي أفضت بنا إلى اليأس، والخراب العميم.
تأخذنا قصة "ماتريوشكا" إلى الفضاء العجائبي الذي تصنع فيه الراوية الرجل الذي تريده من مسحوق تقتنيه من آلة في البار ثم تسكب عليه كأسًا من الماء وتحرّك مزيجه حتى يتخثر ثم تضعه في الثلاجة لمدة عشر ساعات بعدها يصبح رجلاً صغيرًا تضعه إلى جوارها لتحظى منه بلمسة أو قبلة أو ما هو أكثر من ذلك شرط "أن تعرف المرأة كيف تحرّك غرائز مخلوقها".
تنطوي قصة "باص بوجه قط سمين" على مضمون كابوسي يتداخل فيه الواقع بالخيال، وبطل القصة هو موظف حكومي أُعطيت له صورة الرئيس حين شارك في مسيرة لتأييد إحدى قراراته حتى تحولت الصورة إلى لعنة أبدية لا يستطيع إنزالها أو التخلّص منها إلى أن جاء رجل عجوز وأخبره بأنّ كل شيء قد تغيّر. في موقف الباص يلتقي برجل عجوز آخر يشبه الأول ولا يملّ من الاصغاء وسماع التفاصيل فيروي له حكايته الغريبة المبهمة ويخبره العجوز بأن الباص رقم صفر سيأتي بعد قليل وقد دُمغَ بالرقم صفر "لأنه لا يذهب إلى أي مكان، يشبه آلة تنظيف تخرج في الليل لمسح أخطاء الماضي". أما النهاية المدروسة فتتجسد في الأسطر الأخيرة من هذه القصة الكابوسية التي أبدع سعد هادي في صياغة حدثها الختامي الذي يتمثل في انطفاء أضواء الباص، وإحساس الراوي بالهواء الثقيل المشبّع برائحة المطهِّر الطبي حين يقول:"رأيت نفسي بعد لحظات أدور وسط أسطوانة مسنّنة تتلاحق فيها وجوه أناس آخرين، ربما كانوا صورًا أو خيالات مجرّدة أو لعلهم كانوا من التائهين بين الأزمنة والأمكنة مثلي".
تتكرر تقنيه الشبيه في قصة "حديقة شيرازي البعيدة"، فالحوار الذي يدور بين الجندي الذي انتقلت وحدته من "رأس البيشة" والجندي الذي قدِمَ من تلال "الشيب" يكشف عن وجود هذا الشبه الكبير حيث يمضي الأخير باستذكاراته قائلاً:"كان معنا جندي غريب الأطوار. . . قُتل للأسف في ليلة الهجوم تلك . . .يواصل القراءة في ضوء شمعة ويردّد أشعارًا . . . كان يشبهك تمامًا كأنه أنت".
في قصة "إيرينا" نقف أمام شخصيتين تحملان الاسم ذاته إحداهما قادمة من الفردوس وأخرى منبثقة من أعماق الجحيم. وحينما توارت الأولى أصبح كحوليًا وبدأ يهدد بالانتحار إلى أن جاءت امرأة وجلست بجواره، فتبيّن أن اسمها إيرينا وهي روسية أيضًا. وبعد مدة قصيرة ترجّلت من السيارة امرأة ضخمة فأخبرها الساقي:"لقد أَعادَ زوجك يا لاريسا قصة الملائكة من جديد ولكنه جعل اسم المرأة التي يعشقها هذه المرة إيرينا، أتعرفينها؟" حين تعود هذه المرأة الضخمة تشرب الكأس المتروكة على المائدة وتتجشأ ثم "تبدأ بسرد حكاية ما عن شياطين ورجال بلا أسماء وذكريات ملتبسة من ماضٍ بعيد".
تتحول الكتب في قصة "حياة مُستعمَلة" إلى قنافذ، وفراشات هلامية، وسكاكين، وأكواب، وملاعق لكن هذا المشهد العجائبي سرعان ما ينتهي حين ترفعه إحدى الأيادي وتُلقي به من الباب المفتوح بينما يستمر السائق بمواصلة الرحلة إلى غايتها المنشودة.
تصل الفانتازيا إلى ذروتها في قصة "سواد" حيث يسرد الراوي حكاية درويش الذي يكتب قصائد رثاء للأشخاص الذين كانوا يقيمون في هذه العمارة ورحلوا أو فارقوا الحياة. كان درويش يتواطأ مع الراوي، ويتلذّذ بمشاركته إياه في أسراره، ويتيح له النظر من الكوّة إلى داخل الغرفة التي تجري فيها أحداثًا مروِّعة من القتل والحرق والإعدام لكننا سنكتشف تباعًا عدم وجود هذه الكوّة ولم يكن الراوي يشاهد سوى خيالات درويش وأحلامه وكوابيسه وأنّ الإنسان بالنتيجة ليس سوى آلة لصنع الأحلام.
سبق لسعد هادي أن أنجز مجموعتين قصصيتين وهما "طبيعة صامتة" 1990، و "الأسلاف في مكان ما" 2004، كما أصدر أربع روايات بين عامي 2005 و 2014 وهي "ليلى والقرد"، "تجريد شخصي"، "عصافير المومس العرجاء" و "سلاطين الرماد".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟