الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملامح أزمة الدولة الأمة في الفكر القومي العربي

رضا لاغة

2019 / 5 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


هناك محاولات تسعى لتقديم تعريف أو تشخيص معيّن لماهية الأزمة. وهي محاولات تشترك في الفكرة العامّة القائلة بأن الازمة "لحظة حرجة وحاسمة" تنذر بعواقب تهدّد استقرار الدولة، وبعبارة أخرى إن ماهية الأزمة في الدولة ـــ الأمّة، ترتبط بتوتّر التناقضات القائمة فيها بسبب خلل آليّة العمل الضرورية في مكوّناتها الجوهرية. أي أنّ مفهوم أزمة الدولة ــ الأمّة يحيل قبل كل شيء إلى أزمة فاعيتها الذاتية في مواجهة التحدّيات الرّاهنة. وعندما نطبّق ذلك على الدول العربية الحديثة، فإنّنا نلاحظ أن الأزمة التي تعانيها الدولة العربية الحديثة ليست حديثة العهد. وبقطع النظر عن المسائل النظرية المتّصلة بخصائص الدولة العربية الحديثة، يمكننا أن نعتبر لحظة التكوّن والنشوء هي بحدّ ذاتها لحظة بداية الأزمة. إذ أن الاستعمار، باعتباره القوّة التي رسمت حدود الدولة ـــ الأمّة ( اتفاقية سايكس بيكو)، ظلّ ينظر لها باعتبارها ثمرة هجينة تمثّل في شكلها أو مظهرها الخارجي سيادة الثقافة السياسية الأوروبية الحديثة. وهو ما يعني أنّ السبب الأساسي للأزمة العربية يعود إلى التناقض بين شكل الدولة العربية (الذي هو من صنع الاستعمار)، وبين محتواها ومضمونها المحلّي. و رغم التباين بين هذه الرؤية مع التوجّه الذي يعتبر الدول العربية تتمتّع بشرعية مسلّم بها في المجتمع القائمة فيه بمعزل عن الاستعمار؛ تظلّ الأزمة التي تعانيها الدول العربية الحديثة هي نتيجة طبيعية لتفاقم المشكلات التي ورثتها عن مرحلة ما قبل الاستقلال من جهة، وتزايد حدّة المشكلات التي نجمت عن التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي حدثت في مرحلة ما بعد استقلالها من جهة أخرى.
مما سبق يتّضح بأنَّ الآراء المختلفة بصدد طبيعة وتاريخ الأزمة البنيوية في الدولة العربية الحديثة، تشترك في الإشارة والاتّفاق على تقرير عجزها الفعلي عن صياغة وتنفيذ سياسة واقعية وعقلانية وفعّالة لتذليل أزماتها. وهي أزمات ازدادت حدّتها وتأثيرها المتنوّع على خلفية الضّعف الهيكلي للدولة ومؤسّساتها.
أولاً: ضعف مصادر الشرعية وإشكالاتها السياسية
تعدُّ أزمة الشرعية من أهمّ وأعمق وأخطر الأزمات التي تعاني منها الدولة العربية. وليس اعتباطاً أن تنمو وتتراكم مختلف نماذج الولاء الفردي والاجتماعي لكيانات ما قبل الدولة، مثل الانتماء الجهوي والطائفي والقبلي والديني. فهي مظاهر تشير من الناحية العامّة إلى وجود خلل في شرعية الدولة العربية الحديثة. وهو واقع جعل البعض يتكلّم عن أنَّ هذه الأزمة تشمل كلاّ من النظام السياسي والدولة في آنٍ واحدٍ. وهي أزمة تجد تعبيرها في نموّ مختلف مظاهر الاحتجاج تجاهها من السلمي إلى العنيف.
ثانياً: ضعف البناء المؤسّسي للدولة
تستمدّ مظاهر ضعف الشرعية أصولها من الضّعف التاريخي الذي لازم ظهور الدولة العربية الحديثة. كما أنّنا نقف أمام عجز الدولة العربية الحديثة التي لم تستطع استكمال مقوماتها بالمعنى الحديث، سواء فيما يتعلّق ببنائها المؤسسي الديمقراطي، أو باستقلالها الذاتي عن شخص الحاكم، أيّاً كانت صفته وطريقة وصوله إلى السلطة. وهو الأمر الذي لعب دوراً هامّا في عرقلة استقرار مفهومها كدولة في الوعي الاجتماعي، وثباته في الوعي السياسي، وقانونيّته في الوعي الحقوقي. وبالتالي عجز الدولة عن إرساء أسس العلاقة الطبيعية مع المجتمع على أرضية الشرعية والقانون. وقد ترتّب على ذلك استفحال عجزها عن اتّخاذ وتنفيذ السياسات السليمة لمواجهة المشكلات الداخلية والتحدّيات الخارجية. أمّا النتيجة فهي ضعف أو عدم قدرتها على تحقيق الاستقلال الوطني الفعلي والدّفاع عنه، ومن ثمّ الحد من تبعيّتها للعالم الخارجي. وإضافةً إلى ذلك فشلها في تحقيق إجماع وطني واجتماعي وسياسي بما في ذلك على القضايا العامة والكبرى. بعبارةٍ أخرى إنَّ المفارقة الكبيرة التي تظهر بين تضخّم أجهزة الدولة العربية الحديثة من جهة، وضعف أدائها في مختلف ميادين الحياة العامة من جهة أخرى، تعكس حالة الاغتراب الفعلي بين شكل الدولة ومضمونها. وهو اغتراب نعثر عليه في تدنّي وضعف إنجازاتها، وبالأخص فيما يتعلق بقضايا العدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية والتنمية الاقتصادية والتقدم العلمي والاستقلال الوطني والوحدة. وهي النتيجة التي نعثر عليها في ضعف شرعيتها أمام مجتمعها المحلّي والدولي.
هكذا نخلص إلى خلل تمثيلية الدولة ــــــ الأمّة بمختلف أجهزتها وممارساتها، فهي تمثيلية تستند إلى توجّه إيديولوجي يظهر كسياسة منظّمة تعمل على تدمير مكوّنات المجتمع المدني. إنَّ عدم وجود علاقة سليمة وصحيحة تربط الدولة بالمجتمع، أدّى إلى غلبة الطابع المركزي للدولة في المجال السياسي، وبالتالي تدنّي إن لم نقل غياب المشاركة السياسية للمجتمع بهذا الصدد. وهو ما دفع بالعديد من التيارات السياسية والاجتماعية إلى اللّجوء إلى الاحتجاج والعنف السياسي كوسيلة للتعبير عن مطالبها. وهي وسائل وأساليب وردود فعل تعكس الوجه الأخر لسياسية الدولة تجاه المجتمع. إذ أنَّ أغلب ممارسات العنف من جانب القوى المناهضة للسلطة، هو الوجه الأخر للممارسة العنيفة والكبت الذي تمارسه الدولة ضدّ المجتمع وقواه السياسية والمدنية. وهو الأمر الذي انعكس لاحقاً في عجز الدولة على المحافظة على وحدة مجتمعها وتماسكه، كما تجسد بصورة نموذجية في ليبيا و سوريا و اليمن...
ممّا سبق يمكن القول بأنَّ الأزمة البنيوية الشّاملة التي لازمت النظام السياسي في الدول العربية الحديثة قد بلغت ذروتها ضمن ما بات يعرف بـــ" الربيع العربي". إذ تحوّلت إلى أحد المصادر المؤثّرة في استثارة العنف الداخلي والخارجي. بعبارة أخرى، إن تصدير العنف للخارج، الذي أخذ يتجسّد بمختلف مظاهر الإرهاب ولا عقلانية الحركات الأصولية المتطرّفة، ليس إلاّ الوجه الآخر لمظاهر هذه الأزمة. ممّا يجعل من دراسة وتحليل هذا المتغيّر السياسي وطبيعة الإشكاليات التي يواجهها في ظلّ العلاقات الدولية الجديدة قضيّة علمية وعمليّة غاية في الأهمّية.
في هذا الإطار يشكّل كتاب كل من عبد العروي وعلي البلهوان مادة خصبة تساعدنا في فهم الايدولوجيا العربية وأزمة التّحديث. ألا نعيش اليوم طوبويّات أخرى لا تقلّ عن طوبويّة الخلافة الاسلامية مثل طوبى الدولة الوطنية والدولة القومية؟
ما الفرق بين طوبويّات الأمس واليوم؟
إن هذا هو الذي يتوجّب أن يقلقنا بشكل كبير ؛وهو الاشكال الغائب في طرح هابرماس أو إن شئنا الدقة ما ظنّ أنه حسم لصالح المواطنة العالمية. و رغم أنّه قد يبدو للبعض أن التّمحيص في مسألة العلاقة بين هذه التيّارات الوطنية و القومية والاسلامية غير ذي معنى نظرا لحالة الاستقطاب الرّاهنة لصالح التّيارات الاسلامية.فإننا نشير هنا إلى أنّ ذلك لا يعني تحديدا فقدان مشروعيّة الطّرح القومي أو الوطني. وبصرف النّظر عما إذا كانت الجغرافيا تسعف بتأسيس فكرة الدولة القومية الموحّدة كبديل عن الدول القطرية،يمكن أن تتّخذ المناقشة بعدا أعمق ينصرف إلى شكل البناء الوحدوي: دولة مركزية، اتحادية (كونفدرالية، أو فيدرالية)... إلخ.
وفي المقابل تغيب أو تكاد أسئلة أخرى لعلّ أهمّها المضمون السياسي والاجتماعي للدولة القومية. فأدبيات الفكر القومي الكلاسيكية لم تسائل السلطة و الدولة من الداخل، ولم تفحص عن أعطابها ومواطن الخلل فيها، ولا الآليات المضادة التي تدفع نحو تآكلها. إن الفكر القومي لم يضع الدولة في الميزان، فهي مجرّد معطى جاهز وواقعة لا ريب فيها! القضية الأم هي الوحدة، وهذه ينبغي أن تقوم بأي شكل وبدون شروط: ربما بالانقلاب العسكري، بالتوحيد القسري، باللاتكافؤ بين أطرافها، بأي شيء!
إن التحدّيات التي يواجهها الفكر القومي اليوم هي مستقبل الدولة ــ الأمّة. فبقدر ما نسجل تطلّعا قوميا نحو الوحدة العربية الشاملة، بقدر ما ظلّت آليات التنفيذ وسبل تحقّقها غير واضحة. إضافة إلى أن الايديولوجيا القومية اعتبرت الدول القطرية عائقا في وجه تحقيق الوحدة المنشودة، فطعنت في شرعيّتها في الأساس. إن الفكر القومي يجب أن يتخلّى عن الطرح التقليدي الذي يقفز إلى بديل الوحدة كحلّ لكلّ المشكلات التي يتخبّط فيها العالم العربي، في حين أنّ بناء الوحدة في حدّ ذاته يقتضي حلّ مشكلات تحول دون ذلك، منها غياب الارادة السياسية للبناء التدريجي لكيان عربي موحّد رغم الشعارات الحماسية التي تتردّد في المناسبات.وهو مشكل يعيدنا مجددا إلى قضية الأسلوب: بأي وسائل و أية آليات يمكن للطليعة العربية أن تؤسس دولة الوحدة؟
لا ريب إذن أن أهمّ مشكلة نظرية تعترض التفكير الوحدوي، هي مشكلة الدولة القطرية.
إن الفكر القومي التقليدي أدان الدولة القطرية في حدّ ذاتها دون الاهتمام بضرورة الاصلاح الديمقراطي لهذه الدولة. فلم يكن يدخل في اهتمامه دمقرطة الدولة القطرية، في حين أن الطريق الصحيح يظل رهانا ينجز بين الكوادر القومية المناضلة ضمن دول قطرية ديمقراطية لأنّه سيكون باختيار مواطنين أحرار. معنى ذلك إن تناول الدولة الإقليمية بما هي دولة وطنية، يجلب الخلل و الفوضى لتاريخ الفكر القومي؛ لأنها تستعيد أطوار تلك المحاكمة التي أفضت إلى إدانة الإقليمية و ما يعنيه ذلك من رفض للتجزئة. بلا شكّ إنّ إدانة الدولة القطرية أدّى إلى معادات توجّهاتها وفق تصوّر يضع الوحدة كأولوية مقابل تأجيل هموم التنمية مثلا. وهو موقف يستبطن فكرة أنّ التنمية لا يمكن أن تحدث داخل الدولة القطرية. أليست الدولة القطرية مدعوّة إلى أن تتصدّى لحلّ مشاكل التنمية في مجتمعها بوصفها مسئولة أمام شعبها الطامح للأفضل؟ أناهنا لا أناقش هنا الموقف الذي يقول إن التنمية الحقيقية لا تتحقّق في شكلها الأمثل إلاّ حين تستجيب لحتمية التّكامل العربي، و إنّما أطرح التنمية كمشغل أساسي للدولة القطرية، كمنطلق لإنجاح الإنتقال الديمقراطي على نحو ما حدث في التجربة التونسية.
تبدو هذه الملاحظة ذات تأثير حاسم، لأن الإقرار بإمكانية وجود تماثل بين الدولة الوطنية و الدولة القطرية يخلخل الأحكام المسبقة والإيحاءات الإيديولوجية والمعيارية. فنحن ننتقل من نظرة تبخيسية تحيّز الدولة القطرية كنقيض للوجود القومي واعتداء على وحدته لنكون بعكس ذلك على استعداد لمنحها ما يضمن لها قدرا من المشروعية.
من المؤكّد أن مثل هذا التماثل لا يجري التفكير فيه في كلّيته، وإنما يكتشف بالرجوع إلى التوجّه السياسي والإقتصادي والثقافي للدولة القطرية. بمعنى آخر ليس هناك تمثّل صنمي للدولة القطرية، إذ هي لا تجد ضمانتها الخاصة في ذاتها وإنّما فيما تطرحه من مضامين لكسر عزلتها وتبيئة وجودها مع عمقها القومي. عندئذ يتّضح لنا بالطريقة نفسها، أن وجودنا الهووي هو وجود مركب. و بالتالي نفهم الوطنية في سياق قطري وقومي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -عفوا أوروبا-.. سيارة الأحلام أصبحت صينية!! • فرانس 24


.. فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص




.. رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس


.. انقلاب سيارة وزير الأمن القومي إيتمار #بن_غفير في حادث مروري




.. مولدوفا: عين بوتين علينا بعد أوكرانيا. فهل تفتح روسيا جبهة أ