الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأنسان- المدينة- التاريخ قراءة فى قصائد الشاعر كاظم اللآيذ( الطريق الى غرناطه)

أحمد السعد

2006 / 5 / 4
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


صدرت مؤخرا فى البصرة المجموعة الأولى للشاعر كاظم محمد اللايذ وتضم المجموعة ثمانية عشر قصيدة يكاد يجمعها هم واحد هو تأسيس الرابطة الوثيقة بين الأنسان والمكان والتاريخ . الأنسان الساعى نحو حياته المتهالك فوق شوارع المدينه يدب عليها منشغلا بهمومه اليومية بينما يزحف الخراب تحت قدميه ويبتلع ذكرياته وتاريخه فتنهار ساعة سورين وتموت اشجار النخيل بفعل الحروب والأهمال ، المدينة تهجرها الطيور ويجافيها الحلم فتغرق فى الخوف وتنام فى المجارير
المجموعة تضم قصائد متنوعة كتبت معظمها قبل سقوط الدكتاتورية لذلك تطبع قصائد المجموعة مسحة من السوداوية ،فمن (بستان جدى) الذى زحفت عليه المدينة وغدا نهبا للمتخمين وقتلت البنادق عصافيره – أشارة الى التأثير المدمر لحروب الطاغيه والتى جلبت الخراب الى البصرة فأتلفت بساتين النخيل العامره- الى ساعة سورين التى هدت عندما امتدت يد التغيير الى المدينة فأنمحت معالمها القديمة التى يجد الشاعر فيها رائحة البصرة وسيمائها ومناخاتها وتاريخها العريق .
الناس فى شعر اللايذ هم الوطن والتاريخ فالحسن البصرى وطالب النقيب والشيخ خزعل الكعبى مثلهم مثل سلمان غريب والرفيق فاضل تجليات لهذه المدينه المفعمه بالحياة والتى كان الموت يدب اليها بعد ان حولها الطاغية الى ساحة معركة وزحف اليها الأهمال والجدب فماتت بساتينها وأختفت طيورها وزهورها وألقها القديم وتحولت ساحاتها الى مزابل وشوارعها الى فوضى وأهلها الى مسوخ تجرى نحو موتها لاهثة (كأن عفاريت مجنونة من جحور الظلام تطاردها) ، الناس فى حركتها تمارس حيواتها بنهم حيوانى وتتناسل وسط الجدب وتنشد الى ايقاع خفى يشدها الى خارج الحياة وكأنها تمارس الموت فى الحياة حيث يتراءى لها (عالم فاضل مخملى الصفات ) ، والمتقاعد الذى يدب الى قبره حين تفقد الحياة بريقها ويحسب المسافة بينه وبين مصيره وسط ركام الذكريات ونثيث الأمانى الذى انقطع وحل محله الأستسلام والقنوط . الشاعر يرصد حركة هؤلاء الناس ويختزل فيهم تاريخ مدينه كانت يوما ما عريقة تنام على ضفة الشط حالمة وادعة فأذا بها الآن تموت ببطء بعد ان هدت معاول الزمن الفظ اجمل صروحها ، الشاعر يلتصق بالمدينة- التاريخ ، فالتاريخ بالنسبة اليه حاضر فى كل شىء ،حاضر فى الذكريات ، فى المعاناة ، حاضر فى (غرناطة) التى غابت عنها الشمس العربية ولم يبق منها سوى ( لا غالب الا الله) ، ذكريات الشاعر حين زار غرناطة سائحا غريبا اغتيل لديه الأحساس بأنتماء المكان اليه (كعربى ) وبأنتماءه هو الى المكان ( لنا فيها ارحام وبساتين) ، لكن بالنسبة الى سائق الشاحنة لم يكن الزوار سوى سائحين من بلاد البترول لا يحملون سوى حلما عربيا مقتولا على ارصفة (غرناطه) وعلى جدران (قصر الحمراء) فالمجد العربى غاب عن ارض غرناطه ولم يبق منه سوى (ترس منثلم وحسام مكسور)0
القصائد الأخرى فى المجموعة تلخص لتجربة الشاعرحيث يسجل فيها الشاعر اختلاجات نفسه التواقة الى الأنعتاق من أسر الأجواء الخانقة التى يعيشها وتعيشها مدينته ( معظم القصائد كتبت قبل سقوط النظام الدكتاتورى) ، ففى قصيدة ( ولكننى لم أمت) يعلن الشاعر هزيمة الدكتاتورية قبل سقوطها عسكريا ، الأنسان العراقى لم يمت رغم كل اللذين أجتمعوا على قتله – الشاعر هنا هو الوطن – الذى يريد الجميع خنق ارادته وأعادته الى ربقة الخضوع ولكنه صمد فى وجه موجات الغزو وخرج من تحت القصف الأمريكى باليورانيوم المنضب دون ان تتشوه مفاهيمه ويتحول اطفاله الى مسوخ ، لقد خرج من حصار هولاكو والمقوقس وكسرى دون أن يخسر انسانيته ووطنيته .
الأماكن عند الشاعر لها اهميتها فهى تشكل مفردات حياته ومشاهداته ووقائع يومياته ، (أم البروم ) و(نظران) و(نهير الليل) و(المعقل) أماكن طبع على ارضها اقدامه وطبعت فى نفسه سيلا من التذكارات والصور ، الصور تنهال فى لحظة التجلى لتبهر الشاعر بأنه يعيد اكتشاف هذه الأماكن بعد سنوات طويله فلم تعد مجرد اماكن وأسماء بل صارت رموزا لحياة كانت حافلة بالتواريخ والأحداث وحبلى بحيوات متجدده وولادات أكثر اشراقا وجمالا ورغم موتها الظاهر تنهض هذه الأماكن ثانية لتعيد خارطة المدينة القتيله وقطارها الهامد (مثلما جمل هرم ) فتعود ساعة سورين تدق لينهض (عباس) من رقدته ليفتح دكانه فى (سوق الهنود)0
فى قصيدة (لم يبق من الوقت ما يكفى الا لتقليب الصفحات ) نتكشف اسى الشاعر وهو اسى حقيقى لماض هو ليس شباب الشاعر الذى مضى بل شباب الحياة نفسها ، شباب المدينة وألقها وصخبها ومقاهيها وذكرياتها ، صخب الأصدقاء والحكايات ، تلك العذوبة التى اختفت ليحل محلها الوجوم والوجه المجعد والشيب ، الأصدقاء اختفوا وماتت اغانيهم (لليوم الموعود) حين كانت البصرة تضج بحملة الفكر ومقاهيها كانت منابر للشعراء والسياسيين والمفكرين يتحلقون حول بعضهم فى المقاهى والمنتديات يتبادلون الأفكار ويتحاورون وسط رائحة الشاى ودخان السكائر ، كانت حياة مفعمة بالبهجة وكانت الرفقة هى ملح الحياة ونسغها الصاعد فى الروح والجسد وها هى تخبو الآن حين يرحل الشباب والأصدقاء وتغلق المقاهى ابوابها ويفرض الحجر على الكلمة والرأى ولم يعد فى العمر متسع الا لتقليب الصفحات فالذكريات تنام بدعة والكتب لا تجد من يقرأها والباعة ينتصبون تماثيلا فى الساحات يبحثون فى الوجوه عن قراء فلا يجدون غير الشيوخ .
لكن الشاعر فى قصيدة (أعوام الزقوم) ينحوالشاعر منحى آخر ليدين الجريمة ، ويدين القتله بجيشهم واسلحتهم وتأريخهم الدموى الأسود 0 أنهم ورثة جميع القتله على طول التاريخ البشرى ، هم قتلة لوركا وسلفادور اليندى وجيفارا وباتريس لومومبا وبن بركة وعبد الكريم قاسم ،لكن قتلة قاسم كانوا عربا من مخزوم تربوا فى (باب الشيخ) و(البتاويين) رغم انهم ورثة اولئك الذين قتلوا الحسين وصلبوا المسيح ومثلوا بجثث الحلاج والسهروردى هم القتله
انفسهم فى كل وزمان ومكان ، ايديهم الملوثة بالدم مطبوعة على جدران المدن المستباحة حيث يمتهن الأنسان ويموت
بلا قيمة لكن الضحايا اقوى من قتلتها ، فقاسم ينهض –مثلما ينهض الشهداء المغدورين- (محاطا بالزنبق والنرجس والريحان) بينما ينغمر القتلة فى وحل التاريخ تطاردهم اللعنة ويبصق عليهم التاريخ والأجيال القادمة .
أما قصائد ( بثينة تحلم ) و (الأكليل) و(بعض مما يتركه الشيخ لتلاميذه) فهى تسجيل لوقائع حياة معلنه للشاعر فى رحلته عبر الزمن الضيق تاركا فى الزوايا بعضا من نفحات المحبة والفكر لدى من عايشوه وهى أنهيال الخزين الوجدانى لرجل عاش يحلم بمدينة فاضلة ومجتمع يتعاطى الحب والمعرفة والحكمة ويمارس الحياة بشغف وحنو هى رحلة الأعوام الطويله ومشاغلها وهزائمها وأنتصاراتها 0فى قصيدة (الأكليل) نتلمس فرحا طفوليا وشفافية رائعه ونجد سيلا من الحيوات تنساب من الشباك فتخترق روحه ملايين من الأصوات والصور تنساب بعذوبة وعفويه تتشكل فى هارمونية عذبة لتكون وجه ابنته (شمس)- التى تحمل اهداء القصيدة – ولا يفوت الشاعر ان يعرج على ضحايا المقابر الجماعية فى آخر قصيدة من المجموعة – كتبت بالشعر العمودى- يدعو الأمهات الى نثر اكاليل الزهر لمن حرموا من نعمة ان يشهدوا سقوط الطاغوت لأن يده الملطخة بدماءهم اغتالت اجسادهم وبعثرتهم دون قبور فى ارض العراق شمالا وجنوبا ووسطا حتى صار العراق كله مقبرة وفى نفس الوقت يعرض بوجدانية شفافة وشغف بالغ بأمرأة
ربما تكون اى ام من امهات الشهداء وربما تكون حب الشاعر او زوجته او ارض العراق التى سالت فوقها دماء الأبناء
وضجت من كثر ما شهدت موتا وتقتيلا وتتجلى صورة الشهيد او السجين السياسى المغيب فى سجون الطغاة فى نقرة السلمان وقصر النهاية الذين ضما آلاف الوطنيين والتقدميين ولم تستطع جدران السجنين الرهيبين وظلمانهما ان تغيب اصواتهم (لأن الفجر آت) وليل الطغاة مهما طال قصير0 القصيدة تزدحم بمشاهد وكأنها استعراض لمأساة وطن وشعب رزح تحت نير الطغاة ولكن عجلة التاريخ لا تعود القهقرى فلن يكون الوطن الا حرا ولن يكون ابناءه الا احرارا اما الطغاة فزائلون مثلما يمضى الليل ومثلما تنقشع الغيوم السوداء ليظهر القمر جليا لامعا يبهر العيون ويزرع التفاؤل والأمل فى النفوس0ما يميز شعر اللايذ بساطته وعفويته فهو لا يلجأ الى الرموز التى تثقل المعانى بل يتناولها ببساطتها ليعرضها بشفافية فالأفكار التى تحتويها المجموعة وتتمثلها قصائدها افكار الشارع ، افكار وأختلاجات الأنسان الذى يتلامس مع الحياة فتلسعه قسوتها ويستقرىء التاريخ فيشده مجد الآنسان ويبهره أنجازه غير ان هذا الأنجاز يتعثر وتتقاطع معه ارادة القوى المعاديه للأنسان فتصطرع القيم والمشاعر ما بين حزن على واقع مرير وأمل بولادة الغد الجديد الذى يجمل فى رحمه البشارة بأن انسانا جديدا على هذه الأرض المباركه سيولد من ملايين الجراح النازفه ومن ملايين الأحلام والأمنيات ليعيد لهذه المدينة-الوطن- الق الماضى وعنفوان المجد القديم 0








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منظومة الصحة في غزة الأكثر تضررا جراء إقفال المعابر ومعارك


.. حزب الله يدخل صواريخ جديدة في تصعيده مع إسرائيل




.. ما تداعيات استخدام الاحتلال الإسرائيلي الطائرات في قصف مخيم


.. عائلات جنود إسرائيليين: نحذر من وقوع أبنائنا بمصيدة موت في غ




.. أصوات من غزة| ظروف النزوح تزيد سوءا مع طول مدة الحرب وتكرر ا