الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العسكريون والسلطة السياسية في الفضاء التاريخي للعالم العربي-الإسلامي

محمد عبد الشفيع عيسى

2019 / 6 / 1
السياسة والعلاقات الدولية


تقْدِمة
في إطار النموذج الأساسي للممارسة السياسية العربية المعاصرة لمرحلة ما بعد الاستقلال السياسي في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم بصفة عامة، برزت أربعة قوى فاعلة: النخب ذات الأصول العسكرية، و الجماعات المنتمية لتيار "الإسلام السياسي"، و "نخب السلطة" Power Elites التي جنحت نحو النهج الإيديولوجي ل "الليبرالية الجديدة" (الانفتاح الاقتصادي و "الاقتصاد الحر")-أو "أهل الحكم"، و أخيرا: الصفوات الثقافية والسياسية ذات الانتماء الليبرالي العام تحت لواء الدعوة إلى الحريات المدنية والسياسية. هذا هو "مربع السلطة" الذي أخذت أضلاعه تتناوب أو تتداول السلطة بين أيديها على اختلاف الحقب الزمنية، دون تغير جوهري يذكر في مضمار النموذج التنموي و أنماط التبعية الخارجية إزاء القوى العالمية المهيمنة، وبالتحديد للغرب وأمريكا. ومن حول الأضلاع الأربعة ضلعان آخران يجعلان من المربع مايشبه "المكعب" سداسيّ الأضلاع، ونقصد هنا اليسار أو التيار الوطني-القومي التقدمي، من جهة أولى والجماهير الشعبية، من الجهة الأخرى. وليس لهما وجود فاعل في الحياة السياسية التي تحتكرها أطراف المربع السابق، رغم اختلافها بل وتنازعها بمنطق التناقض العدائي أو غير العدائي بين الفينة والأخرى.
فكيف حدث ذلك؟ هذا ما سوف نحاول المجادلة من حوله هنا، بدءّ بالدور السياسي للنخب العسكرية في الفضاء التاريخي للعالم العربي-الإسلامي. فما الظرف التاريخي الذي برز معه الدور الحاكم للعسكريين في تاريخنا القريب والبعيد؟

ظرف الزمان والمكان
في البداية، لقد حملت الرسالة الإسلامية بذور تغيير جوهري في بنية الحياة الاجتماعية و السياسية و الثقافية في شبه الجزيرة العربية وما حولها. و قضت موافقات الزمان أن يتحقق صعود عالم الإسلام منذ مطلع القرن السابع الميلادي وعلى مدى أربعة أو ستة قرون متتابعة، في الحد الأدنى ( هي حقبة الازدهار الحضاري حتى القرن الحادي عشر أو القرن الثالث عشر تقريبا في تقدير آخر) و عشرة قرون في الحدّ الأعلى (إن أضفنا حقبة المراوحة بين الازدهار والأفول حتى القرن السادس عشر مشتملة على رحلة الصعود العثماني). و أعقب ذلك دخول العالم العربي-الإسلامي في مرحلة الأفول والركود الحضاري، وخاصة اعتبارا من القرن السابع عشر، مع انفتاح الأبواب أمام النفاذ والنفوذ الاستعماري الغربي حتى القرن العشرين. و قد ترافق الازدهار الحضاري العربي-الإسلامي ( و حقبة "المراوحة") مع دخول أوربا حقبة متطاولة من الركود الحضاري، طوال العصور الوسطى، وفق التحقيب الأوربي، على مدى ألف سنة تقريبا، من القرن السادس إلى القرن السادس عشر، بوجه عام.
ارتبط الازدهار الحضاري للكيان العربي -الإسلامي، بقيادة موجة ذات طابع "عالمي" للتطور الاقتصادي والاجتماعي الذي تصدّره التجار والحرفيون والمزارعون، مع انبثاق رقعة اقتصادية واجتماعية مشتركة قائمة على المبادلات السلعية النقدية، بما يتفق مع روح العصر" حينئذ، شاملة شطرا واسعا من القارتين الإفريقية والآسيوية. وكانت رحلات الحج و المتاجرة، مثلا، على طرق القوافل في القارة الإفريقية وسيطا هائلا لقيام حياة اقتصادية مشتركة وفق ما سمحت به الظروف. كما كانت حضارة الأندلس ( منذ عبور جبل طارق عام 711 حتى سقوط غرناطه عام 1492) مثالا على التطور النسبي العالي في مستويات الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية، انطلاقا من الرقي المادي والروحي معا. كما كانت دمشق و بغداد وقرطبة في العصرين الأموي والعباسي هي عواصم الحضارة البازغة في العصر الوسيط، أعقبتها القاهرة في العصر الفاطمي وما تلاه، إلى جانب المدن المغربية الزاهرة من طراز القيروان وفاس. ومثّل عالم العرب والإسلام واسطة العقد في المبادلات الكوكبية ضمن "التجارة البعيدة" بين أوربا و آسيا القصيّة، خاصة الهند.
وفي جميع الأحوال كانت القوى الاجتماعية الحاملة للتغير الحضاري، في حقبة الازدهار، هي ما ذكرنا، يدعمها شلال متدفق من النتاج الفكري القائم على مزيج من الإبداع الشعري والفقهي وفي علم الكلام والفلسفة، و الرياضيات والكيمياء والفلك وشيء من البصريات والطبابة. أما المحاربون "الفاتحون"، أو العسكريون بلغتنا، فكانوا مجرد قوة اجتماعية تتقدم الصفوف لفتح المجال أمام زحف بناة العالم الحضاري الجديد، او يقفون في الخلف للحماية، مع الاعتراف بتجاوزات قليلة أو كثيرة يرصدها المؤرخون.
ولكن ما أن خبَت شعلة الازدهار بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، حتى انتقل العالم العربي-الإسلامي من الهجوم الإيجابي إلى الدفاع، فبرز هنا دور العسكريين حملة السلاح في مقارعة التهديدات الخارجية والداخلية للكيانات السياسية. حدث ذلك مروراً من حملات الفرنجة- "الصليبيين"، منذ مطلع القرن الحادى عشر، حين وقعت الحملة الأولى بين 1096 و1099 ، إلى غزوة التتار لعاصمة الخلافة بغداد (1258) وخلالهما وبعدهما موقعة "حطين" ضد الفرنجة بقيادة صلاح الدين الأيوبى ( عام 1187 ) وموقعة "عين جالوت" بقيادة قطز والظاهر بيبرس ضد التتار ( 1260 ). و نذكر مواجهة حملات "حرب الاسترداد" الأوربية ضد الوجود العربى – الإسلامى فى الأندلس ، وما صاحبها من أدوار حربية كبرى لقادة مغاربة من طراز يوسف بن تاشفين (1083-1143 ) من دولة "المرابطين" فى المغرب، وابن عبد المؤمن (1163-1184) من دولة "الموحدين . ثم ما لبث العالم العربى – الإسلامى أن دخل حقبة من الأفول التاريخي، و تحوّل من مواقع الهجوم الحضارى إلى موقع "الدفاع عن الوجود".
من ثم بدأ يبرز الدور الكبير للقادة العسكريين الكبار أو العظام. و كان لهؤلاء القادة "السياسيين – العسكريين" دور أىّ دور فى الحفاظ على الدور العالمى للعالم العربى – الإسلامى فى التجارة العالمية إلى حد ممارسة قدر عال من السيادة على الملاحة البحرية – التجارية فى المحيط الهندى. ولم يكن الدور الخاص للساسة العسكريين جديداً، فقد أخذ فى البروز منذ بدأ انفراط العقد المحكم للدولة العباسية، وبدء مما يسمى بالعصر العباسى الثانى . فقد تحلقت حول السلطة المركزية فى بغداد سلطات "إقليمية" أو "جهوية" مارست نوعاً من الوصاية على المركز، كان بعضها ذا طابع شيعى(البويهيون) وبعضها الآخر ذا طابع سنّي (السلاجقة) .. وقامت دول إقليمية، أو جهوية، كبيرة نسبياً بعيدة عن المركز نسبياً وخاصة الدولة الطولونية والأخشيدية فى مصر (والشام) وفى جوارها أو أحضانها سلطات فرعية مثل دولة بني حمدان ( 926-1003). و أخذ الخرق يتسع على الراتق، حتى ظهور "الدولة الفاطمية" قادمة فى أصولها المشرقية لتؤسس مدينة المهدية في ولاية "إفريقية" في 912-913، ثم تنتقل إلى مصر وتقوم بتأسيس القاهرة عام 969. و أخذ يشتد الصراع على النفوذ بين الدولة العباسية فى المشرق، والدولة الفاطمية فى المغرب، و تعمّقت ظاهرة تجزّؤ السلطة. ومع ذلك التجزؤ تأتى الخشية من الجوار القريب والبعيد على الممسك بصولجان الحكم، فيكون إضفاء الصبغة الحربية أو العسكرية على عملية الحكم أمراً مفهوما
هكذا إذن عمّ التجزؤ فى العصر العباسى الثانى و الفاطمى، ثم الأيوبى والمملوكى فى مصر والمشرق (وما يناظرهما فى المغرب) . وتشاء جدليات التاريخ الاجتماعية أن يلعب (التجزؤ المتعسكر)، إذا صح هذا التعبير، دوراً دفاعياً ظاهراً، ليس فقط فى مواجهة الأعداء المحليين لأصحاب السلطات المجزّأة، ولكن فى مواجهة الأعداء الخارجيين للعالم العربي – الإسلامي بمعناه العريض . وكان هذا واضحاً فى مقاومة حملات الفرنجة – المسماة بالصليبية – على فلسطين ومصر، ومقاومة التحرشات البحرية العسكرية للبرتغاليين والأسبان على شواطىء المغرب العربى بعد سقوط الأندلس في آخر معاقلها-غرناطه. و في جميع الحوال تحول العسكريون والمحاربون "المتفرغون" إلى قوة اجتماعية متبلورة إلى حد بعيد، تهيمن على السلطة في مناطق سيطرتها، أو تشارك فيها، من خلال قيادة نظام إنتاجي قائم على جمع المغانم، من خلال الإتاوات والضريبة، فيما أسماه سمير أمين "نمط الإنتاج الخراجي". وفي مراحل الركود الحضاري العميق-خلال العهد المملوكي المتأخر،المماليك البرجية، والعهد العثماني، شكّل العسكريون من ذلك الطراز قوة اجتماعية قائمة على تعميق الركود و "التخلف الحضاري" بالمقارنة مع أوربا الاخذة في التطور صعدا نحو عالم الصناعة، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، ولو من خلال استغلال الطبقة العاملة في بلادها، و استعمار عوالم ما وراء البحار بالقوة المجردة، وعلى قاعدة من تقسم العمل الدولي غير المتكافيء.



استخلاص ومقارنة
اتباعا لما سبق، يمكن القول إن المؤشرات التاريخية تدلنا على أنه للعناصر ذات الطابع العسكرى دور بارز فى لوحة التطور الاجتماعى والسياسى للبلدان العربية وخاصة منذ بداية العصر العثمانى فى البلدان العربية أوائل القرن السادس عشر، مترافقاً مع اكتمال سقوط الأندلس(غرناطه 1492) وتداعيات هذا الحدث التاريخي الكبير فى المغرب العربى، و كذا مع تحول طرق التجارة العالمية ( بين أوربا وآسيا) بعيدا عن الدور المباشر للمنطقة العربية-الإسلامية.
كانت بدايات القرن السادس عشر ، وفق ذلك، هى اللحظة التاريخية الحاسمة لانبثاق عصر النهضة الأوربي و ما تلاه من الإصلاح الدينى ثم الثورة الزراعية والصناعية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مترافقاً كل ذلك مع الاستعمار الأوربى لبلدان آسيا و إفريقيا وأمريكا اللاتينية .

هكذا كانت الظروف فى العالم العربى الإسلامى تتجه خلال الخمسمائة عاماً الأخيرة إلى الانغماس فى هوّة التخلف الاقتصادى النسبى، المقارن مع أوربا، وتتعرض لمؤثرات الاستعمار الغربى ، برغم (الحماية) العثمانية الواهنة . كانت التركيبة الاجتماعية بالذات تكرس هيمنة الشرائح المرتبطة بجباية الضرائب على النشاط الزراعى لمصلحة نخب سياسية محتمية بالقوة العسكرية ، وتحاول ما أمكنها الدفاع عن سلطانها فى أقاليمها المجزّأة ، مع أدوار لا يمكن إنكارها فى مجاهدة القوى المتربصة من الخارج أو ذات العداء التقليدى للعالم العربى – الإسلامي (التتار، بيزنطة ، الفرنجة من الجانب الأخر للمتوسط قبالة مصر والشام ، شبه جزيرة إيبيريا ومشروعها الساعى إلى التمدد بعد إسقاط الأندلس..).

في المقابل، على صعيد أوربا الغربية، كانت التركيبة الاجتماعية تجنح نحو التحول بإتجاه إقامة هياكل إنتاجية أكثر تطوراً ، عن طريق الصناعة والتقدم التكنولوجى المتواصل ، مع الانتقال بالنظام الرأسمالى من مرحلة الاستغلال المفرط للطبقة العاملة فى العصر الأول للثورة الزراعية والصناعية إلى إحداث نوع من التوازن الاجتماعى اعتباراً من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين .. وهو توازن رجراج على كل حال ، تتغير طبيعته بين فترة وأخرى ، دون أن يخلخل من قبضة النظام الرأسمالى في الداخل، ونزعته نحو الهيمنة على الخارج -العالم "غير الرأسمالى".

عودٌ على بدء
مع انضواء مجموع البلدان العربية – إلا قليلاً – تحت لواء الأتراك العثمانيين، في مطالع القرن السادس عشر، قام "السلطان" ببسط حمايته العسكرية مشفوعةً برداء الشرعية المستمدة من نقل (الخلافة) إلى الآستانه، بعد أن كان "الظاهر بيبرس" قد احتضن الخلافة في القاهرة بعد دخول التتار إلى بغداد، وبقي "الخليفة –الرمز" فيها من 1261 حى 1517. كان الوجود التركى مرتكزاً إلى حامية عسكرية، تتلوها فى مصر و الشام قوى عسكرية موالية للمركز العثمانى، وهي حالة المماليك الذين فقدوا السيطرة على الحكم وقبلوا بدور هامشى فى ظلال "السيد الجديد": الباب العالى العثمانى أو "السلطان".
مع ذبول السلطة العثمانية، فى إطار الصعود الأوربى والتنافس على تركة "الرجل المريض"، أخذت تبرز سلطات فرعية فى البلدان العربية فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، كما يتضح من حالة مصر والشام: على بك الكبير ( 1728-1773) ،و ظاهر العمر ( 1689-1775) ، الأمير بشير الشهابي في "جبل لبنان" و الذي عاصر محمد على وكان مناصرا له في مناوأة المركز العثماني حتى 1840 .. وفى جميع الحالات تقريباً ، كان العنصر الحربي، أو العسكري، ظاهراً ظهوراً شديداً . وتبرز هنا تجربة محمد على ، فقد كانت دولته، أو "امبراطوريته" الفرعية، نموذجاً واضحاً للقائد العسكرى – السياسي، الذى يبنى دولة كاملة، بالمعنى الواسع لكلمة "الدولة"، ويسخّر كل إمكانيات المجتمع الإنتاجية وقواه الحية من أجل بناء ما يطمح إليه من مشروع سياسى كبير . استند المشروع السياسى لمحمد علي، الذى جوهره عسكري، إلى تسلسل هرمى للقوة الاقتصادية الاجتماعية، التى تنبع من فم الأمير وبندقيته ( انظر إلى ما يسمى "مذبحة القلعة") ، و كان يوزع المصدر الرئيسي لثروة البلاد – الأرض الزراعية – بنظام الهبات وفق درجة الولاء، و وضعت جباية الضريبة الباهظة من الفلاحين كهدف أسمى للسياسة الاقتصادية.
اقتضى المشروع الإمبراطوري الفرعي لمحمد علي إنجاز بناء مادى ومعنوى ضخم، من قاعدة للصناعات النسجية والغذائية (لزوم ملابس ومأكل ومشرب الجنود) ومن صناعة للسفن الحربية (الترسانة) وجهاز إدارى ، ومدارس متعددة المستويات ، وبعثات إلى الخارج ، ومرافق صحية .. و كان هذا كله فى خدمة ذلك المشروع ذى العصب العسكرى بصفة أساسية. ولما وقع الاحتلال الأجنبى للبلدان العربية (أولها الجزائر عام 1830) ثم تونس (1881) ومصر (1882) كانت المقاومة لدخول القوات الغازية في عديد الحالات مقاومة عسكرية بصفة أساسية (الأمير عبد القادر الجزائرى – أحمد عرابي...).
و رغم التحول فى مصر من المقاومة المسلحة إلى الأساليب غير المباشرة للتعامل مع المحتل البريطانى بعد إخفاق (الثورة العرابية ) ثم إلى (الثورة الشعبية 1919) التى رافقتها أنشطة عسكرية بدرجة ما ، إلا أن حلم تكوين نخبة عسكرية وجيش وطنى بقي راسخاً فى الوجدان. و تجلّى ذلك إبّان السعى إلى استكمال الاستقلال السياسى لمصر بعد عقد معاهدة 1936 ، حين تم فتح الباب لدخول عناصر إجتماعية جديدة إلى سلك الضباط. ومن هذه الثغرة دخلت طلائع شابة من جيل جمال عبد الناصر الذى قاد ثورة 23 يولية 1952.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع