الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حلمي شعراوي.. الحضورُ الفكريُّ الفاعلُ في ثقافةِ التَّحرُّرِ الوطنيِّ

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2019 / 6 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


نُطالعُ في مذكراتِ الأستاذِ حلمي شعراوي خبيرِ الشئونِ الإفريقية، ورئيسِ مركزِ البحوثِ العربيةِ والإفريقية، الصادرةِ عامَ 2019، عن دارِ العينِ للنَّشرِ، بعنوانِ"حلمي شعراوي.. سيرة مِصرية إفريقية"، والتي حرَّرَتها د.ريم أبو الفضل المُدرِّسة بكليةِ الدراساتِ الشرقيةِ والإفريقيةِ بجامعةِ لندن، نُطالعُ فيهاأنموذجًا حيًّا لمثقَّفٍ نقديٍّ يعي تاريخية رسالتِهِ الثقافية، وصيرورتَها في المجتمع، بنزعتِهِ صوبَ الاستقلالِ الفكريِّ، وانفتاحِهِ على متغيِّراتِ عصرِهِ وآفاقه الجديدة، وتفاعلِهِ معها، وإعادةِ النَّظرِ في السياسيِّ من منظورٍ ثقافيٍّ أشملَ.من هنا؛ جاءَ إلحاحُ صاحبِ كتابِ "ثورة أنجولا الإفريقية" الدائمُ على حيويةِ الممارسةِ التي تُغني النَّظرية وتتجاوزُها دومًا. الأمرُ الذي قاده - في اعتقادي- إلى اكتشافِ كتاباتِ مفكِّرِنا العالميِّ د.سمير أمين، والحوارِ الموصولِ مع أفكارِهِ التي تؤصِّلُ العلاقة بين الإنتاجِ العلميِّ والممارسةِ السياسية.
وعلى هذا النحوِ، استطاع مؤلِّفُ كتابِ "علاقات حركاتِ التَّحرُّر الوطنيّ الإفريقية والعربية" بنفاذِ بصيرةٍ أنْ يلتفتَ إلى تغييبِ الثقافةِ العربيةِ عددًا من المفكِّرين المعروفين عالميًّا من طرازِ أنطونيو غرامشي وفرانز فانون وسمير أمين، عازيًا ذلك إلى طبيعةِ البنيةِ الفكريةِ السَّائدةِ في المِنْطقة العربيةِ ، وارتباطِ الطبقةِ الوسطى المؤسِّسةِ للحركةِ الشِّيوعيةِ العربيةِ بالمفاهيمِ السُّوفيتيةِ السِّتالينيةِ، وخضوعِها لتوجُّهاتِ الكومنترن ومواقفِهِ المُتشدِّدَةِ إزاءَ الآخرين حتى من الدائرةِ الماركسيةِ اللينينيةِ.وبذلك استطاع "مركزُ البحوثِ العربيةِ والإفريقيةِ" تحتَ رئاستِهِ أنْ يُفيدَ من مقالِ د.سمير أمين عنِ "البديلِ الوطنيِّ الشَّعبيِّ الديمقراطيِّ"، ونقدِ التَّجرِبةِ السُّوفيتيةِ والدولةِ الوطنيةِ، واعتبرَها نقطة انطلاقٍ لمناقشةِ قضيةِ التَّحالفاتِ السِّياسيةِ في مِصْرَ والمجتمعِ المدنيِّ والعملِ الأهليِّ، والتناولِ النقديِّ لموضوعاتٍ تتعلَّقُبالإمبرياليةِ والحركاتِ الاجتماعيةِ وأبعادِها في الوطنِ العربيِّ. مُتسلِّحًا طَوالَ الوقتِ باهتماماتِهِ وأبحاثِهِ في الفلكلور والثقافة الوطنيةِ والأنثروبولوجيا والفلسفةِ والتَّاريخِ والدِّراساتِ الإفريقية. وهو ما تجلَّى لنا بوضوحٍ أكبرَ في إسهاماتِهِ العديدةِ، والأدوارِ التي اضطلعَ بها : باحثًا في الشِّئون الإفريقيةِ برئاسةِ الجمهوريةِ 1960- 1974.وسكرتيرًا عامًّا مُساعدًا للجمعيةِ الإفريقيةِ 1960_1979. وأمين لجنةِ الدِّفاعِ عنِ الثَّقافةِ القوميةِ 1979_ 1995. ومسئولَ العلاقاتِ الثَّقافيةِ بوزارةِ الدولةِ لشئونِ السُّودانِ 1975_ 1979. وأستاذًا بجامعةِ جوبا 1981- 1982. وخبيرَ العلاقاتِ الثَّقافيةِ العربيةِ الإفريقيةِ – بالمنظمةِ العربيةِ للتَّربيةِ والثَّقافةِ والعلومِ – تونس 1982_ 1986. والرئيسَ الأسبقَ لجمعيةِ العلومِ السياسيةِ الإفريقيةِ. ومديرَ مركزِ البحوثِ العربيةِ والإفريقيةِ 1987- 2018، ثمَّ رئيسًا له.ممَّا أتاحَ له التعرُّفَ بجلاءٍ على مأزِقِ حركاتِ التَّحرُّرِ الوطنيِّ في العالمِ الثَّالثِ من خلالِ تقديمِهمُ الوطنيَّ على الاجتماعيِّ، والنَّظرِ إلى معسكرِ الاشتراكيين عمومًا في إطارِ الوطنيِّ وليس الاجتماعيّ، واهتمامِ اتِّجاهاتِ "التَّحديثِ" داخلَ المشروعِ الوطنيِّ تاريخيًّا بالغربِ بوصفِهِ أكثرَ فائدةً في هذا الاتِّجاهِ وَفْقَ نظريةِ "اللَّحاقِ" التي لم تكنْ بعيدةً عن التوجُّهِ السُّوفيتيِّ نفسِهِ. وأدركَ باكرًا طبيعة إسراعِ بعضِ قوى اليسارِ للمضيِّفي طريقِ ما يُسميه بتطويرِ المجتمعِ المدنيِّ، وتشجيعِ البرجوازيةِ المحليةِ بديلًا عن العملِ الثَّوريِّ، أو ما دعاهُ بالعملِ الدِّيمقراطيِّ. فشدَّدَ في هذا السِّياقِ على "الثوريِّ" بالمعنى التَّحويليِّ لقوى المجتمعِ الدِّيمقراطيةِ والحركاتِ الاجتماعيةِ الدِّيمقراطيةِ.متوقفًا عندَ أهميَّةِ "المراجعةِ الفكريةِ" الذي رأى أنها لا تعني التَّراجعَ، بل تعني التَّجديدَ باكتشافِ العناصرِ الجديدةِ للتَّحليلِ الاشتراكيِّ والعملِ الدِّيمقراطيِّ، وضرورةَ ارتباطِ التَّنويرِ بإعادةِ قراءةِ الثَّقافةِ الوطنيةِ نفسِها، فضلًا عن قضيتِهِ المركزيةِ القائمةِ على حيويةِ اكتشافِ البُعدِ الإفريقيِّ للعالمِ العربيِّ؛ لنتابعَ في ضوئهِ أبعادَ الحضورِ العربيِّ في العالمِ.
وبذلك تُقدِّمُ لنا مذكراتُ الأستاذِ حلمي شعراوي خارطة طريقٍ، ودليلَ عملٍ يُعيناننا على تلمُّسِ سُبلِ تعريبِ مناهضةِ العولمةِ، مُذكِّرًا دومًا بعالمِ الجنوبِ الذي يمتدُّ من الصين إلى فنزويلا بوصفِهِ الاحتياطيَّ الإستراتيجيَّ، والمجالَ الحيويَّ للعملِ الحكوميِّ والشَّعبيِّ على السَّواءِ، ومُحذّرًا من التوجُّهِ الإسرائيليِّ إلى إفريقيا في إطارِ العولمةِ الجديد؛ تعبيرًا عن إدراكِ النُّخبِ الثَّقافيةِ لمسئولياتِها التَّاريخيةِ. بَيْدَ أنه يُنبِّهُنا إلى أن كتابَهُ هذا "لم يقمْ على التَّوثيقِ الرَّسميِّ لظروفِ إبعادي فجأة أكثرَ من مرَّةٍ عن مواقعِ عملي في الشئونِ الإفريقيةِ وغيرِها؛ ومن ثَمَّ لم أجْرِ وراءَ نصوصٍ رسميةٍ باسمِ التَّوثيقِ، وفضَّلتُ الاعتمادَ على أحداثٍ عشتُها بنفسي، أو اطَّلعْتُ عليها وبعضُ شخوصِها مازالوا أحياءَ"، مُضيفًا : "ولم أجدْ حرجًا من هذا المنهجِ؛ لأني لا أنشدُ إلَّا الحقيقة عن عملٍ شاركتُ فيه بصدقٍ بين أفواجِ المناضلين في مِصْرَ وفي إفريقيا وخارجِها".. وهو ما يمنحُ شهادتَهُ صدقيتَها وواقعيتَها من خلالِ انخراطِهِ المتواصلِ في تَياراتٍمختلفةٍ تعملُ في حقلٍ تاريخيٍّ وفكريٍّ يُسهمُ في تشكيلِ المصيرِ العربيِّ المعاصرِ، وطرحِ المشكلاتِ على صعيدِ التفاعلِ بينَ الثَّقافاتِ والتجارِبِ التَّاريخيةِ. لكنه لا ينسى سحرَ الصُّدفةِ التي قادته مساءَ يومٍ من ربيعِ 1956 وعبيرَها، حين اصطحبه صديقٌ له من حارتِهِ - حارةِ الشَّيخِ سليم بالسَّيدةِ زينبَ- إلى "الرَّابطةِ الإفريقيةِ"في 5 شارعِ أحمد حشمت بالزَّمالك؛ ليجدا نفسَيْهما "وجهًا لوجهٍ مع الأستاذِ "محمد عبد العزيز إسحق" المشرفِ على هذا الصَّرحِ، والأبِ الرُّوحيِّ لمجموعةٍ من الشَّبابِ الأفارقةِ من روَّادِهِ". فقد ربطته فيما بعدُ "بنشاطٍ آخرَ؛ رأى فيه الأنثروبولوجيا تروي عن شعوبٍ حيَّةٍ من شبابٍ يتطلعُ لتغييرِها، خاصةً و"الأستاذ" إسحق، كان لا يقبلُ منهم فكرةَ تمجيدِ حالاتِ البداوةِ والتخلُّفِ على أنها الواقعُ الهادئُ الجميل...".وهو ما شاطرَ فيهِ الأستاذ إسحق؛ وحَدَا به إلى ترجمةِ ورقةٍحملها شابٌّ إفريقيٌّ كان من جُملةِ المتحلِّقين حوله، نشرتها مجلة "نيوزويك"بعنوانِ "القوميةِ السَّوداءِ"؛ مما استثارَه "من فكرةِ "قوميةٍ سوداءَ" في حشدٍ يقولُ بالقوميةِ الإفريقيةِ، وفي مِنْطقةِ القوميةِ العربيةِ..!". غيرَ أنَّهذا اللِّقاءَ دفعَ واضعَ كتابِ "إفريقيا من قرنٍ إلى قرن" فيما بعدُ إلى اختيارِ قسمِ الاجتماعِ إثرَ حصولِهِ على الثَّانويةِ العامَّةِ، لكنه صُدِمَ في أساتذتِهِ الذين لا يُولون اهتمامًا إلَّا "للكتابِ المُقرَّرِ،ووقوفِهم عند "الأنثروبولوجيا الكولونياليةِ"، فضلًا عن انشغالِ رئيسِ القسمِ "بأستاذٍ فرنسيٍّ واحدٍ هو إميل دوركايم" دون غيرِهِ من الأساتذةِ والعلماءِ، في الوقتِ الذي "برزَ فيهِ آخرون في تاريخِ العلمِ أو الأنثروبولوجيا أو غيرِها، وقدِ اتَّخذوا قرارَهم بأنْ يستجيبوا "لطلبِ النِّظامِ" بعدَ انتصارِهِ على قوى الأحزابِ جميعًا- فيما سُمِّيَ "بربطِ العلمِ بالمجتمعِ"-مستسلمين لسخريةِ "حضرةِ الصَّاغِ" وزيرِ التَّعليمِ وقتَها (يقصدُ الصاغ كمال الدين حسين أحدَ أعضاءِ مجلسِ قيادةِ الثَّورةِ- صف أوَّل)، من اهتمامِ أساتذةٍ محترمين بجناحِ الصَّرصارِ! فقرَّرَ أساتذتُنا أنَّ الخدمة الاجتماعية هي التوجُّهُ الأساسيُّ، وأنَّ شعارَ "الاتِّحاد والنِّظام والعمل" شعارَ الزَّعيم هو عنوانُ كتابِ البروفيسور رئيسِ القسمِ المقرَّرِ علينا.ومن هذا القبيلِ الكثيرُ...". عندئذٍ عرَفتِ البلادُ حالًا منالفوضى السياسيةِ والاجتماعيةِ غيرَ مسبوقةٍ، وضروبًا من الثُّنائياتِالتوفيقيةِ "وافد وموروث..أصالة ومعاصرة" والانغلاقِ على الذَّاتِخطيرة، وهيمنةِ الإيديولوجيتيْنِ الغيبيةِ والسُّلطويةِ، وباتَ النِّظامُ يشكو من خللٍ نَفسيّ لم يتورَّعْمعه عن تحطيمِ المِصريين روحًا وجسدًا، وخنقِ حريةِ الرأي والتَّعبيرِ فـ"أطاحَ بالعشراتِ من أفضلِ الأساتذةِ الجامعيين خارجَ الجامعةِ؛ لاعتراضِهم على بعضِ إجراءاتِ النِّظامِ ضدَّ الحرياتِ، أو على التدخُّلِ في شئونِ الجامعةِ التي سبقَ أنِ استقالَ رئيسُها أحمد لطفي السَّيد؛ حين واجهَ إلحاحَ الأزهرِ على فصلِ طه حسين...إلخ"، على حدِّ تعبيرِ صاحبِ كتابِ "الثَّقافة والمثقفون في إفريقيا".فانصرفَ عنِ قسمِ الاجتماعِ إلَّا فيما ندر، وأصبحَ يتردَّدُ على قسمِ الفلسفةِ التماسًا لعزاءٍ نفسيٍّ وعقليٍّ يُعوِّضُهُ عن "قسمٍ مدرسيٍّ لا جدوى منه"، وأضحى يحرصُ على حضورِ "بعضِ محاضراتٍ يُلقيها أساتذةٌ كبارٌ في تاريخِ الثَّقافةِ العربيةِ مثلَ طه حسين ومحمد مندور ومصطفى سويف...إلخ"، مُتطلّعًا إلى "قسمِ الاجتماعِ في جامعةِ عين شمس الذي عبرَ الخدمة الاجتماعية إلى مدرسةِ فرانكفورت أو مدرسةِ التَّبعيةِ، كما ينعمُ قسم الفلسفةِ هناكَ بمداخلاتِ عبد الرَّحمن بدوي عنِ الاعتزالِ والزَّندقةِ في الإسلامِ"، ووجدَ ضالتَهُ المنشودة في "مجموعاتٍ معرفيةٍ" تتكوَّنُ من أصدقاءَ يُبادلونه الاهتماماتِ والتوجُّهاتِ نفسَها، من طرازِ "عبدِ الحميدِ حوَّاس وعبدِ المُحسن طه بدر من قسمِ اللُّغةِ العربيةِ، أو وحيدِ النَّقاش من قسمِ اللُّغة الفرنسية، أو سيدِ سالم وأحمدَ الزُّنط وزملائهما من قسم التَّاريخ..."، وفي "بوفيهِ الآدابِ" الشَّهيرِ أو "كافتيريا كليةِ الآدابِ" حيثُ كان "يغشاها "فاتناتُ الآدابِ" اللاتي يلبسُ بعضُهن أحدثَ "الموضاتِ"، كما كانَيغشاها شبابُ الفكرِ الحديثِ وكُتَّابُ الشِّعرِ الحُرِّ... وكان يأتي إليها طلابُ الكلياتِ العمليةِ للفرجةِ (على البناتِ طبعًا)، وشعراءُ وأدباءُ معروفون مثل صلاح عبد الصَّبور وأحمد عبد المعطي حجازي والصَّادق محمودي...إلخ".وقد رسمَ لنا صاحبُ كتابِ "في ثقافةِ التَّحرُّر الوطنيّ" لوحةً فنيةً للقرنِ العشرين مترعةً بالأحداثِ والأفكارِ والرؤى المِفصليةِ التي شكَّلتْ معالمَهُ، وطبعتْ قسماتِهِ بطابَعِها؛ ممَّا كان له أكبرُ الأثرِ على تكوينِهِ الفكريِّ الإبستمولوجيِّ، ورؤيتِهِ للذاتِ وللعالمِ.. على نحوِ ما يسردُهُ لنا عن "معنى باندونج وتاريخِهِ في مِصرَ والعالمِ؛ حيثُ كان حدثًا تحويليًّا عميقَ الجذورِ في حياتِنا، وإنْ لم أشعرْ به وقتَها بهذا العمقِ، لكنّي طالما كتبتُ عنه بعدَ ذلك تعبيرًا عن تفكيري في هذا الحدثِ الهامِّ".. مُضيفًا : "وأقصدُ بالتَّذكيرِ بباندونج الإشارة إلى العناصرِ التي أثارتْ مشاعرَنا في الخمسينياتِ، وطبيعةِ النَّزوعِ الوطنيِّ في تأييدِ عبدِ النَّاصرِ على نطاقٍ واسعٍ في ذلك الوقتِ، خاصة وقد بدتِ اهتماماتُنا في الجامعةِ فردية لغيابِ التَّنظيماتِ السِّياسيةِ أو المدنيةِ، ولم تبقَ إلَّا مجموعاتٌ أدبية أو فنية يُشاركُ بعضُنا فيها، أو يكتفي بمتابعتِها؛ ولذا كان في نشأتِنا الفكريةِ بالاعتمادِ على "بوفيه الآدابِ"، والمنتدى الأدبيِّ للشِّعرِ والنَّقدِ في مدرجاتِ الآدابِ منفذ للتَّعارفِ، وتوسيعِ آفاقِ المناقشاتِ". غيرَ أنَّ ما لفتَ نظرَ واضعِ كتابِ "سمير أمين ابن بورسعيد، وفلسفة تحدي العولمة" هو الطابَعُ اللاديمقراطيُّ لنظام يوليو، ومصادرتُهُ المبادراتِ الشَّعبية والحرياتِ العامَّة؛ وإقصاؤه الجماهيرَ عنِ السِّياسةِ؛ ممَّا عرَّضَه وزميله سيدَ سالم (أستاذَ التَّاريخِ اليمنيِّ حاليًّا) للاعتقالِ في السِّجنِ الحربيِّ "أشهرِ مرافقِ التَّعذيبِ ساعتَها"؛ إثر وشايةٍ عن صداقتِهماإخوانيًّا شابًّا، قيلَ لأجهزةِ الأمنِ النَّاصريةِ إنه يختبئُ عندهما أحيانًا. كما لاحظ ما يُحيط بالجامعةِ المِصريةِ من "حواجزَ أمنيةٍ من كلِّ ناحيةٍ، وحرسِ الحواجزِ الذين يطلبون أوراقَ القبولِ بها بعد حصولِهِ على الثَّانويةِ العامَّةِ". وهوما رأى فيه بعضُ رفاقِهِ نوعًا من "لوازمِ السَّيطرةِ على البلادِ بعد أحداثِ المنشيةِ وتحفُّزِ الإخوانِ المسلمين للعداءِ"، بينما أكَّدَ بعضٌ آخرُعلى أنَّه"من شواهدِ الحكمِ العسكريِّ؛ لأن الجامعة ذاتَ الخمسين عامًا لم تشهدْ ذلك من قبلُ". وتوقَّفَ صاحبُ كتابِ "الفكر السياسيّ والاجتماعيّ في إفريقيا" عندَ مغزى بعضِ السياساتِ التي انتهجتها سلطةُ الدَّولةِ النَّاصريةِ؛ ومنها محاولتُها "ترضية الرأي العامِّ، بإتاحتِها كلياتِ الآدابِ والحقوقِ للقادمين من الثَّانوياتِ العلميِّ والرِّياضةِ؛ لأن الكلياتِ المناسبة لا تتسعُ لكلِّ خريجي الثَّانويةِ المتوفّرين بسببِ مجانيةِ التَّعليمِ العامِّ". وأضافَ : "أذكرُ ذلك وأنا أتصوَّرُ أن "سياسة مجاملةِ الرأي العامِّ"، أو قلْ كسبَه في مجالٍ خطيرٍ كالتَّعليمِ، هي التي سادتْ إزاءَ عدمِ توفيرِ ميزانياتٍ كافيةٍ، وانضباطِ العمليةِ التَّعليميةِ بحجةِ مجانيةِ التَّعليمِ دائمًا. وكان لكلِّ ذلك أثرُهُ المبكِّرُ على عمليةِ التَّعليمِ ذاتِها برغم أهميتِها الاجتماعيةِ".وهو ما يُفصحُ عن طبيعةِ الأزمةِ التي عرَفتها التَّحوُّلاتُ التي لازمتْ نموًّا رأسماليًّا تتولاه برجوازيةُ الدولة، ودفعِ الجماهيرِ إلى القبولِ باستلابِها الإيديولوجيِّ والسياسيِّ مقابلَ بعضِ الإصلاحاتِ الاجتماعيةِ الدَّاخليةِ، واستيعابِ تطلُّعاتِها في إطارِ النِّظامِ، بعدَ أن قامَ بعزلِها عن دائرةِ القراراتِ السَّياسيةِ الأساسيةِ. لكنَّ مؤلِّفَ كتابَ (تراث مخطوطات اللغات الإفريقية بالحرف العربيّ"عجمي")، رأى أن "الانشغالَ بقضايا الآدابِ والشِّعرِ والثَّقافةِ"، في هذا المُناخِ الملغومِ، أجدى من "أيِّ مشاركةٍ أخرى فيما سُمِّيَ بتطويرِ هيئةِ التَّحريرِ، إلى الاتِّحادِ القوميِّ؛ لاعتباراتٍ تخصُّ "مناهجَ التَّعبئةِ الشَّعبيةِ"، أو قلِ الأساليبَ الغوغائية حولَ الزعيمِ..!"، مؤكِّدًا "أنَّ القيادة لم تنشغلْ - والحقُّ يُقالُ- بتعبئةِ شبابِ الجامعةِ؛ لتخوُّفِها من آثارِ أحزابِ اليمين واليسارِ على الفضاءِ الطُّلابيِّ، خاصَّة بعدَ مظاهراتِ 1954".وقد شهدتِ البلادُ في هذه الفترةِ العصيبةِ ما سُمِّيَ بـ "لجان التَّطهيرِ" التي كانتْ ترفعُ التَّقاريرَ إلى "مجلسِ قيادةِ الثَّورةِ" لفصلِ الأساتذةِ الجامعيين الذين طالبوا بالديمقراطيةِ، وعودةِ الجيشِ إلى ثكناتِهِ؛ من خلال توقيعِهم على بيان 5 و25 مارس عام 1954، وصدرَ القانونُ رقم 128 لسنة 1953 للحدِّ من حريةِ الجامعةِ، والقانونُ رقم 152 لسنةِ 1954 لتأديبِ أعضاءِ هيئةِ التَّدريسِ بقراراتٍ غيرِ قابلةٍ للطعنِ، والقانونُ رقم 508 لسنةِ 1954الذي كفلَ للعسكريتاريا الهيمنة على الجامعةِ والتَّحكُّمَ في مقاديرِها، وتعيين ضابطٍ سكرتيرًا عامًّا للجامعةِ، وأنشئَ مكتبُ أمنٍ لكلِّ كليةٍ، ولم تعدْ للجامعةِ المِصريةِ استقلالية ما تعتدُّ بها. وقد كان هذا لا شكَّ جزءًا لا يتجزأ من حرصِ النِّظامِ على شلِّ حركةِ الجماهيرِ المستقلَّةِ، وإبقاءِ المبادرةِ السِّياسيةِ حكرًا عليهِ. عندئذٍ لم يستطعِ الأستاذُ حلمي شعراوي أنْ يشقَّ طريقه إلى هيئةِ التَّدريسِ بالجامعةِ، ولا التَّواؤمَ مع "نظم الكليةِ من السَّنةِ الثَّانيةِ"؛ فانطلقَ إلى "عالمِ الثَّقافةِ العامَّةِ"، والبحثِ المعمَّقِ المتخصِّصِ في الفلكلورِ والدِّراساتِ الإفريقيَّةِ. وربطته علاقاتٌ ببعضِ كبارِ الصحفيين من طرازِ المرحومِ "عبد المُنْعِم الصَّاوي" الذي "كان يُشجِّعُ الاهتمامَ بـ"ثقافةِ الشَّعبِ"، ونشرَ رسالته إليه يومًا وهو بعدُ طالبٌ في صحيفةِ الشَّعبِ ". والتحقَ بكليةِ الألسنِ لدراسةِ اللُّغةِ والأدبِ الإنجليزييْن.والتقى بطلابٍ عربٍ يدرسون في الجامعاتِ المِصريَّة؛ بعضُهم ينتمي إلى حركة القوميين العربِ؛ والبعضُ الآخرُ إلى حزبِ البعثِ الذي أسَّسَه ميشيل عفلق عام 1942. وعاشَ تفاصيلَ الحياةِ السَّياسيَّةِ ومُناخاتِها بكلِّ ما تحفلانِ به من تجارِبَ ورؤًى ومشروعاتٍ. غيرَ أنَّه "دُهشَ من السُّلطةِ في مِصْرَ التي تستفيدُ زعامتُها كثيرًا من تردُّدِ النَّغمةِ القوميَّةِ"، ثمَّ "تُحرِّمالانتظامَ في البعثِ، كما حرَّمته في الحركةِ الشَّيوعيَّةِ، برغمِ العلاقةِ بالمعسكرِ الشُّيوعيّ". وهو ما رأى فيه المؤلّفُ أن "مشكلة عبدِ النَّاصرِ نفسِهِ ليستْ مشكلةً مع الأفكارِ، بقدرِ ما هي مع "التَّنظيمِ" الذي يضمُّ حاملي الأفكارِ". وهو ما يعكسُ نهجَ عبدِ النَّاصرِ الانفراديَّ بالسُّلطةِ، وعسكرةَ النَّظامِ، والقمعَ السياسيَّ والإيديولوجيَّ لقوى المعارضةِ كافَّة. حتى إنَّه عندَ تشكيلِ الاتحادِ القوميِّ عام 1957، اقتبسَ عبدُ النَّاصرِ لائحتَه من تنظيمِ سالازار دكتاتورِ البرتغال، وكان تنظيمًا غيرَ ديمقراطيٍّ في مضمونِهِ؛ حيثُ لم يكنْ يُسمحُ لأحدٍ بالترشيحِ لمجلس الأمَّةِ إلَّا بعدَ موافقةِ الاتحادِ القوميِّ، وهو عينُ ما فعله الاتحادُ الاشتراكيُّ من بعدِهِ وأكثر. ووجدَ الأستاذُ حلمي شعراوي في المقاهي التي يرتادُها كبارُالكُتَّابِ والنُّقادِ ولقاءاتِها الثَّقافيَّةِ مثل قهوتي عبد الله وسان سوسي في الجيزةِ، ومقهييْ ريش وزهرة البستان في وسط ِالبلد، والحريَّة والبرابرة في بابِ اللُّوق، ومقهى صفيَّة حلمي في ميدانِ الأوبرا القديمةِ، وإنديانا في الدُّقي وسواها، وجدَ فيها (المنافذَ الحقيقيَّة للتفكيرِ، وبعضَ الإحساسِ بأنَّكَ لستَ في قبضةِ المؤسساتِ الصَّحفيَّةِ الخاضعةِ تمامًا للرقابةِ، وإنْ كانتِ المقاهي لم تخلُ من رقابةٍ أخرى..."البصَّاصين"و"العسَّاسين"). وهو ما يُذكّرُنا بتاريخٍ عريضٍ لمقاهٍ لعبتْ أدوارًا ثقافيَّةً وسياسيَّةً مشهودةً في مِصرَ، على نحوِ ما لمسناهُ في "مقهى أفندية" و"مقهى متاتيا"و"مقهى الفيشاوي" و"مقهى إيزائيفتش"وغيرِها، حتى إن مؤرِّخَنا الكبيرَ "عبدَ الرَّحمن الرَّافعي" يذكرُ في كتابِهِ "تاريخِ مِصرَ القوميِّ 1914- 1921" أنَّ "المقهى كانَ مكانَ تجمُّعِ الأفنديةِ، أي الطّبقةِ الوسطى التي بدأتْ في الظُّهورِ، وكانتْ خطةُ الثَّورةِ، بل بعضُ التَّحرُّكاتِ السياسيَّةِ تتردَّدُ بينَ روادِها". وهو ما أكَّده الأستاذُ حلمي شعراوي بقولِهِ:"في هذه المقاهي حضرتُ كثيرًا من المناقشاتِ التي كانت تنقلُ شابًّا مثلي من حارةِ الشيخِ سليم، أو حتى من بوفيهِ كليَّةِ الآدابِوندواتِها إلى العالمِ الأوسعِ وخاصَّةً منذ أخذتُ فورَ التخرُّجِ، الخروجَ إلى هذا العالمِ الذي عاشَ بينَ 1957و1960، القضايا الكبيرةِ التي قد يتذكرُها القارئُ". وبذلك استطاعَ الكاتبُ أن يُقدِّمَ لنا صورةً دقيقةً للمجتمعِ المِصريِّ بعلاقاتِهِ وخياراتِهِ ومنحنياتِ تطوُّرِهِ وحيواتِ شخوصِهِ وسيرورتِه العامَّةِ؛ ممَّا يصنعُ لنا ذاكرةً وتاريخًا يفتحان الحاضرَ على أسئلتِهِ المعلَّقة، وشروطِهِ الكابحةِ لتقدُّمِهِ. غيرَأنَّ اهتماماتِ الأستاذِ حلمي شعراوي أولتِ التَّعليمَ عناية خاصًّةبتأثيرٍ من كتابِ"مستقبلِ الثَّقافةِ في مِصرَ" لعميدِالأدبِ العربيِّ د.طه حسين، وما أثاره من حواراتٍ وانحيازاتٍ، لا سيما في قسمِهِ الأوَّلِحول موقع مِصرَ من الحضارتيْنِ المِصريةِ القديمةِ واليونانيَّةِ، مُركِّزًا على جزئهِ الثَّاني الذي يقومُ على"صياغةِ نظامٍ للتَّعليمِ يكفلُ بناءَ الشَّخصيةِ المِصريَّةِ الوطنيَّةِ المُوحَّدةِ"، وفصلِ الدِّينِ عنِ السِّياسةِ على غرارِ ما نادى به طه حسين حينَ طالبَ بجعلِ الأزهرِ جامعةً علميَّةً وليسَ مشيخةً. ثُمَّ توالتْ كتاباتُهُ في موضوعِهِ الأثيرِ"الفلكلور" بمفهومِ التُّراثِ الشَّعبيِّ؛ حيثُ كان "يَلقى عناية الحكَّامِ والمثقفين في هذه الفترةِ لبناءِ شعبيةِ الثَّورةِ، وبما يُرضي أيضًا الطّبقة الوسطى، ويُحرِّكُ مشاعرَ الطَّبقاتِ الشّعبيَّةِ" على حدِّ تعبيرِهِ. فكتبَ عنِ"الفلكلور انعكاسات إنسانيَّة" في مجلةِ "الأدب" التي كانَ يُشرفُ عليها العَالمُ الجليلُ "أمين الخولي" أحدُ روَّادِ التَّنويرِ العربيِّ وزوجُهُ "د.بنت الشَّاطئ"، وكتبَ عنِ"الفنِّ الشَّعبيِّ" في مجلةِ"الشَّهرِ"، ولقيَ تشجيعًا كبيرًا من أستاذهِ د.عبدِ الحميد يونس، حتَّى إنَّه عرضَ عليهِ مراجعتَهُ لترجمتِهِ الأوَّليَّةِ لكتابِ يوري سوكولوف "الفلكلور، قضاياه وتاريخه"؛ فواظبَ صباحَ كلِّ جمعةٍعلى زيارتِهِفي منزلِهِ وفاءً بهذا الغرضِ.كما اتَّصلَ بالأستاذِ أحمد رشدي صالح صاحب كتابي"الأدب الشَّعبيّ"و"فنون الأدبِ الشَّعبيّ"؛ بعدَ حديثِ د.يونس معه عن مشروعِهما في تأسيسِ معهدٍ للفنونِ الشَّعبيَّةِ؛ ليكون"بداية أكاديميةٍ جيِّدةٍ يعملُ فيها أكاديميون لا موظفون". فأسندَ إليه رشدي صالح مهمَّة بناءِ مكتبةٍ للمعهدِ"، والتَّجوالِ في القرى والصحراءِوبعضِ تجمُّعاتِ المدنِ مثل الموالدِ لتسجيلِ المواويلِ والحكاياتِ الشَّعبيةِ والمجروداتِ"الفنِّ الغنائيِّ الصحراويِّ الشَّهيرِ، وفيما يُشبهُ بديلَ الموالِ لدى أعرابِ الفيومِ أو البدوِ أو قبيلةِ أولادِ عليٍّ". وهنا يُلاحظُ حلمي شعراوي عبرَ قراءتِهِ كتابَ سوكولوف "كيفَ أنَّ الاهتمامَ بعروضِ الفلكلور أو الفنونِ الشَّعبيَّةِ عمومًا، ارتبطَ- معَ تطوُّرِ القومياتِ- برغبةِ البرجوازيَّةِ في "الفرجةِ"على فنونِ الطَّبقاتِ الشَّعبيَّةِ، أو الصعودِ بها معَ نغمةِ تطويرِ الفنونِ الشَّعبيَّةِ إلى مستواها"، ويُضيفُ:"وأدَّى ذلك إلى تقديمِ الفنونِ الشَّعبيَّةِ في مِصرَ بأكثرَ من صورةٍ؛ إمَّا شعبيَّة شعبويَّة على يدِ فنانٍ وكاتبٍ مثل زكريا الحجاوي الذي جمعَ بعضَ الفنانين المحترفين من بعضِ نواحٍ ريفيَّةٍ أو حضريَّةٍ، وهم أقربُ إلى فرقِ الموالدِ، ويصعدُ بهم على مسارحَ كبرى للدولةِ اشتُهِرَ منهم"خضرة"و"أبو دراع"وغيرهما. وإمَّا فرقة أقرب لمزاجِ البرجوازيَّةِ مثل "فرقة رضا" نجمها راقص باليه سابق"محمود رضا"، وراقصة باليه أيضًا"فريدة فهمي"، لكن الأهمّ أنَّها ابنة أستاذٍ كبيرٍ بكلية الهندسة هاوٍ للفنون، وتُقدِّمُ استعراضاتِها الأنيقة والأكثرَ حداثة في احتفالاتٍ رئاسيَّةٍ أو احتفاءً برئيسٍ زائرٍ، وشجَّعَ ذلك بالطبعِ "غوازي"الموالدِ ليصبحوا أقربَ للفنانين الشَّعبيين". كما لاحظَ المؤلِّفُ بحقٍّ أن الأفكارَ المطروحة إبَّان العهدِ النَّاصريِّأو عهدِ "البرجوازيَّةِ البيروقراطيَّةِ" عن"استثمارِ التُّراثِ الشعبيِّ"(الفلكلور) في التَّنميةِ،وأخذِ الإيجابيِّ منه لتشجيعِ النَّاسِ على الجِدِّ والعملِ...إلخ، وضمنيًّا لتأييدِ"النّظام" في عملِهِ الوطنيِّ! كان براجماتية غيرَ مناسبةٍ لن تضمن العملَ العلميَّ في هذا المجالِ.الأمرُ الذي أكَّدَ صحة تحليلهِ لماهيَّةِ هذه"البرجوازيَّةِ البيروقراطيَّةِ"، وطبيعةِ مصالحِها الأنانيةِ ضيِّقةِ الأفقِ، بأنَّها"لن تُتيحَ نهوضًا حقيقيًّا بالتُّراثِ الشَّعبيِّ أو ثقافةِ الشَّعب، وستعوقُ خطواتِ ذلك دائمًا". حتى إنَّ ترجمته كتابَ يوري سوكولوف"الفلكلور، قضاياه وتاريخه" لم يُسمحْ بنشرِهِ إلَّا في عام 1969 في الهيئةِ المِصريَّةِ العامَّةِ للكتابِ؛ بفضلِ موقفٍ شجاعٍ لأكاديميَّةٍ مرموقةٍ كانتْ تلميذة نجيبة لأستاذِها طه حسين؛ ألا وهي د.سهير القلماوي" التي لم تخفْ من ماركسيةِ الكتاب"، ولم تتخذْ موقفًا مكارثيًّا منه كما فعلَ آخرون بعضهم-للأسفِ- يساريون خافوا قبضة النِّظامِ البوليسيَّةِ الغليظةِ. وقد عانى الأستاذ حلمي شعراوي معاناة حقيقيَّة في العثورِ على عملٍ من دونِ وساطاتٍ ولا مسابقاتٍ؛ حيثُ كانتِ الوظائفُ"تتطلبُ معارفَ خاصَّة من ضباطِ الجيشِ الذين يتولوْنَ المؤسساتِ الكبرى"، ويُضيفُ قائلًا:"وكانتِ الصحفُ مثل"الجمهوريَّة"يعتليها أنور السَّادات، و"الشَّعب"مع صلاح سالم، و"التَّحرير"مع أحمد حمروش"، وهي في النِّهايةِ وطنيَّة، ونقولُ"ثوريَّة" أفضلُ من أهلِ الوسطِ في صحيفةٍ مثل"الأهرام"، أو ما كان من صحيفةِ "المِصريّ" الوفديَّة، والتي غادرها صاحبُها أحمد أبو الفتح ليؤسِّسَ إذاعة في جنيفَ أو النِّمسا ضدَّ"الكولونيل ناصر" بالتَّعاونِ مع الإخوانِ، والمخابراتِ الأمريكيَّةِ". وهنا يُشيرُ الكاتبُ إلى ملمحٍ رئيسٍ وسَمَ هذه المرحلة بميسمِهِ حيثُ "ُوُضِعَ مفهومُ المعارضةِ منذ تلك الفترةِ في قالبِ "الشّبهةِ" و"العمالةِ"، ولم تُقدَّمْ أيُّ صورةٍ لها غيرَ ذلك، إلَّا بعدَ انتباهِ عبدِ النَّاصرِ نفسِهِ مع السِّتينيَّاتِ لمحاولاتِ التّوفيقِ مع المختلفين معه، أو ما سُميَ جمعُ الشّملِ (باستثناءِ الشِّيوعيَّةِ لفترةٍ) في الاتِّحادِ الاشتراكيِّ في بدايةِ السِّتينيَّاتِ". وهنا نختلفُ مع الكاتبِ صاحبِ السِّيرةِ. ألم يقلْ عبدُ النَّاصرِ "للاشتراكيين الميثاقيين" من اليسارِ الرسميِّ ممن عملوا في مجلةِ"الطَّليعةِ" في نهايةِ السِّتينيَّاتِ: لقد تركتكم تُبشِّرون بالاشتراكيَّةِ كما كان القديسُ بطرس يُبشِّرُ بالمسيحيَّةِ، أمَّا أن تصلوا إلى السُّلطةِ على أكتافِ الجماهيرِ فهذا ما لا أسمح به؟- راجع كتابَ:التَّنظيم الحزبيّ في مِصرَ للأستاذِ محمد سيد أحمد، الصادرَ عن دارِ المستقبلِ العربيِّ. لكنَّ الرجلَ لم ييأسْ، وواصلَ طريقه؛ فحافظَ على عضويتِهِ النَّشيطةِ في جمعيةِ السِّينما مع هاشم النَّحَّاس وأحمد راشد ويعقوب وعبد الحميد سعيد ويوسف شريف رزق الله وسعيد عبد المحسن. وترجمَ نصًّا لكارل مانهايم عنِ"المثقفِ والالتزامِ" من كتابِهِ"اليوتوبيا والإيديولوجيا"، نشرَهُ بمجلةِ"الآدابِ"البيروتيَّةِ. وكتبَ مقالًا عنِ"القيمِ النَّقديَّةِ في الأدبِ الشَّعبيّ". وتقدَّمَ بمشروعٍ للماجستيرِ عن "سوسيولوجيا المعرفةِ، وخصوصًا عندَ كارل مانهايم"، بعدَ انتهائهِ من السَّنةِ التَّحضيريَّةِ للماجستيرِ؛ فسخرَ منه رئيسُ قسمِ الاجتماعِ، مُشكِّكًا في إمكانِ معرفتِهِ بهذا الموضوعِ، ناصحًا إياه بالذَّهابِ إلى قسمِ الفلسفةِ؛ بزعمِ أنَّ قسمَ الاجتماعِ مهتمٌّ بالعملِ الميدانيِّ "لخدمةِ الثَّورةِ"، وأنَّ من الأفضلِ له أن يدرُسَ معه"ملاجئَ الجانحين". فاقترحَ عليهِ مشروعًا بحثيًّا بديلًا عن"مُكوِّنِ الحركةِ الوطنيَّةِ في نيجيريا"؛ نظرًا إلى "نفوذِ الزَّعامةِ الوطنيَّةِ مثل"ناميدي أزيكوي" على مطمحِ "تكوينِ الأمَّةِ" على الرَّغمِ من القَبليَّةِ والطَّائفيَّةِ". فسخرَ منه مُجدَّدًا، لافتًا نظرَهُ إلى أن مكانَه بالمعهد الإفريقيِّ، وليس بقسمِهِ المُكرَّسِ للخدمةِ الاجتماعيَّةِ.وقد سردَ لنا د.محمد أبو الغار في دراستِهِ المهمَّةِ"إهدارِ استقلالِ الجامعاتِ" صورًا ومشاهدَ مزرية للتحكُّمِ الأمنيِّفي الجامعات، وكيفَ كان يجري فصلُ الأساتذةِ لمجرَّدِ الدسِّ والوشاياتِ؛ فآثرَ البعضُ مسايرة التَّيارِ وركوبَ الموجةِ حتى لا يُزجَّ به في غياهبِ السِّجونِ والمعتقلاتِ؛ "فشكَّلَ في هذا الوقتِ بعضُ مدرسي كليَّةِ الآداب جمعية أسموها "المدرسين الأحرار" تيمنًا بالضُّباطِ الأحرارِ، وضمَّتْ من بينِ أعضائها عبد الحميد يونس وعبد المنعم عامر ومحمد محمود الصيَّاد ومحمد أنيس وآخرين، وكان لهذه الجمعيَّةِ نشاطٌ كبيرٌ لتأييدِ الثَّورةِ". لهذا عندما أسرَّ إلى الأستاذِ أحمد رشدي صالح بإشاراتِ السَّيدِ محمد فائق مستشارِ الرئيسِ عبدِ النَّاصرِ للشئونِ الإفريقيَّةِ، وأحدِ مؤسسي الرَّابطةِ الإفريقيَّةِ، بإمكانِ الإفادةِ منه ومن جهودِهِ البحثيَّةِ في هذا الحقلِ، أو أن يكون مشروعُ المعهدِ الأكاديميِّ جادًّا فيجدَ له مكانًا بين ظهرانيه، "تردَّدَ الرجل..وفي جديَّةٍ قالَ:يا ابني..لا أملَ مع هؤلاءِ النَّاسِ، وهذا الوزيرُ برغم جِديَّتِهِ وثقافتِهِ، ليستْ في بالِهِ مسألةُ الفلكلور أو الفنونِ الشَّعبيَّةِ...امضِ في طريقِك". ومضى حلمي شعراوي في طريقِهِ باحثًا عن تجرِبةٍ حيَّةٍ في الحياةِ يُترجمُ من خلالِها آفاقَ مشروعِهِ الخاصِّ في التُّراثِ الشّعبيِّ وتأسيسِ جمعيَّةٍ أهليَّةٍ للفلكلور كان قد شرع فيها بالجامعة مع د.عبد العزيز الأهواني؛ تأسيًا بتجاربَ مماثلةٍ في فنلندا وأيرلندا، بالإضافةِ إلى اهتماماتِهِ بالعملِ الإفريقيِّ من خلالِ الكتابةِ والتَّرجمةِ في مجلة"نهضة إفريقيا" التي تصدرُ عن "الرَّابطةِ الإفريقيَّةِ"، ويرأسُ تحريرَها عبدُ العزيز إسحق، ويُديرُها الشَّاعرُ عبده بدوي.وهو ما أتاحَ له أن يكون سكرتيرًا ثقافيًّا للرَّابطةِ من دونِ مُرتبٍ (حيثُ المُتطلّعون إلى المُرتبِ كُثْرٌ)؛ ومن ثَمَّ الاطلاع على بعضِ الصحفِ الإفريقيَّةِ التي كان يُهديها السيدُ محمد فائق للأستاذِ عبدِ العزيزِ إسحق، فيسلّمها له بدورِهِ؛ فأفادَ من جديدِها عن عالمِ المستعمراتِ البريطانيَّةِ في إفريقيا؛ مما أغرى محمد فايق أن يطلبَ منه تلخيصَ ما بها من معلوماتٍ مفيدةٍ له، وفي بعضِ الكتبِ التي لم يكن يتوفرُ له الوقتُ لمتابعتِها.وأن يثقَ به من بعدُ فيعيِّنَه في قسم التَّرجمةِ في مبنى مجلسِ الوزراءِ بشارعِ قصرِ العَينيّ لترجمةِ شرائطِ أخبارِ وكالاتِ الأنباءِ عن إفريقيا فحسبُ؛ استجابةً لتوصيةٍ من عبدِ العزيز إسحق بتسكينِهِ في وظيفةٍ ما في الرّابطةِ أو في إدارةِ رئاسةِ الجمهوريَّةِ بحكمِ عمله بها، وقربِهِ من عبدِ النّاصرِ شخصيًّا. ممَّا أهَّله (حلمي شعراوي) أن يكون مديرًا لبَعثةٍ إفريقيَّةٍ، أو مشرفًا على"بيتِ شرقِ إفريقيا"، وأن يقتربَ أكثرَ من زعاماتٍ وشخصيَّاتٍ إفريقيَّةٍ كبيرةٍ ومن الشَّبابِ الإفريقيِّ بخاصَّةٍ، وأن يُعيَّن بعد تردَّدٍ باحثًا برئاسةِ الجمهوريَّةِ في الشئونِ الإفريقيَّة، ثُمَّ رئيسًا لقسمِ شرقِ إفريقيا في الشئونِ الإفريقيَّةِ بالرئاسةِ، ومسئولًا عن شئونِ مكاتبِ حركاتِ التّحريرِ الإفريقيَّةِ بالتّنسيقِ مع محمد فايق ومكتبِهِ (وقد عانيتُ كثيرًا من تردُّدِهم في تعييني مع إحساسي لفترةٍ بأنهم ينتظرون ضابطًا شابًّا مناسبًا، وقد عُيِّن بالفعلِ، وصارَ سفيرًا بعد ذلك! بل أحسستُ بأفضليةِ الشَّاطرِ الفهلوي في الاتصالاتِ؛ لأنهم لا يبحثون عن "باحثٍ" جليسِ المكتبِ مثلي، أو لأني في وضعٍ اقتصاديٍّ أو عائليٍّ أقلَّ ممَّا يحتاجونه من أبناءِ العائلاتِ العسكريَّةِ أو الاجتماعيَّةِ)، مُضيفًا:(وكان ذلك شائعًا، كما وجدتُهُ بعدُ، وقدِ اشتكى لي منه مثقفون معينون، مُشيرين إلى النَّظرِ إليهم من هذه الزّاويةِ من قِبلِ بعضِ"أبناءِ يوليو"، لدرجةِ السُّخريةِ من أن زوجاتِهم تعملُ في الحكومةِ ولسن ستات بيوت وبنات عائلات. وقد نزلَ عليَّ ذلك القولُ كالصَّاعقةِ في بلدٍ يتحدَّثُ عن الثَّورةِ والعدالةِ الاجتماعيَّةِوحتى الاشتراكيَّة العربيَّة! بل شغلني أيضًا أنهم غيرُ سعداءَ بأفكاري "العَلمانيَّة" أو اليساريَّةِ وسط هؤلاءِ البيروقراطِ المحافظين.)..ويُتابعُ قائلًا:( وكنتُ أشعرُ بذلك عن بُعْدٍ من بعضِ مساعدي السيدِ محمد فايق، ولكن للإنصافِ لم أسمعْ منه شخصيًّا ما يُشيرُ إلى ذلك إلَّا من خلالِ سخريتِهِ مثلًا من ليبراليةِ عبدِ العزيز إسحق، أو من نوعِ النَّصيحةِ عندَ توجيهي للتَّعامُلِ في هذا الشَّأنِ أو ذاك..).. ممَّا أدَّى إلى محاصرتِهِ وإحالتِهِ إلى المعاشِ مبكرًا 74/1975؛ لسببٍ رئيسٍ مُفادُهُ معرفتُهُ باليساريين! وإفشالِ محاولتيْه الوطنيتيْنِ لتطويرِ معهدِ البحوثِ والدِّراساتِ الإفريقيَّةِ ومركزِ الفنونِ الشَّعبيَّةِ (الفلكلور)؛ من أجلِ "الدَّفعِ بنمطِ مراكزِ البحوثِ لتخريجِ متخصِّصين، وتفعيلِ دورِ الأساتذةِ، وإذ بي في الحالتيْنِ أواجَه بموقفِ أساتذةٍ عظامٍ ضدَّ الفكرةِ، ولصالحِ التَّحويلِ إلى"معهدٍ دراسيٍّ عالٍ" يتوفَّرُ بهِ عددٌ كبيرٌ من الطّلبةِ (قيلَ في سُخريةٍ إنها لتوزيعِ الكتبِ، والانتشار كموظفين)، وهي سخريةٌ ثقيلةٌ لا تُتيحُ لغيرِها الرَّواجَ".
وعلى هذا النحوِ، تتعدَّدُ الأدوارُ والمهامُّ التي نهضَ بها وينهضُ الأستاذُ حلمي شعراوي في إطارِ مشروعٍ سياسيٍّ ينزعُ إلى تغييرِ الواقعِ، وصيرورتِهِ إلى تاريخٍ ديناميٍّ يعي طبيعة المرحلةِ التي نحياها، ويُمسكُ بالحلقةِ الرئيسة في الصِّراعِ. لهذا يدعونا إلى التزوُّدِ بالفكرِ التَّاريخيِّ، وأن يتماهى مصيرُنا مع مصيرِ هذه الأمَّةِ؛ لنواجِه متآزرين هذ الظلامَ وقواه النيوليبرالية المتوحشة. لذا كان من الشَّجاعةِ بمكانٍ ليقولَ لنا بجلاءٍ: إننا- محمد فائق والمجموعة التي عملتْ في إطارِ الرَّابطةِ الإفريقيَّةِ- لم ننجحْ في أن نجعلَ الشَّأن الإفريقيَّ جزءًا من الثَّقافةِ العامَّةِ في المجتمعِ، أو من همومِ غيرِ الملتصقين بهِ مباشرة، وأظنُّ أنَّ ذلك الضَّعفَ التثقيفيَّ مازالَ بيتَ الدَّاءِ حتى الآن؛ وكأننا لسنا جزءًا من إفريقيا، وليستْ إفريقيا جزءًا منَّا. عازيًا بعضَ ما حدثَ إلى أنَّ: تصنيفَ المثقف في مصرَ؛إمَّا "ثقافاتي" وفْقَ ثروت عكاشة، وإمَّا "إعلامي" وفْقَ عبد القادر حاتم، حتى إنَّ الأخيرَ تحدَّى المسرحَ القوميَّ ومسرحَ الجيبِ ذوي السُّمعةِ الثَّقافيَّةِ العاليةِ، بقرارِ إنشاءِ عشرِ فرقٍ مسرحيَّةٍ لمسرحِ البالونِ في يومٍ واحدٍ لتقدِّمَ التَّافه من فنونِ المسرحِ والرّقصِ الشَّعبيِّ..إلخ..وهي الفرقُ الفنيَّة التي قدَّمَ معظمُها نصوصًا يخرجُ الممثلُ فيها ليسألَ بائسًا: إنتِ يا بني من موزمبيق؟ ولَّا باين عليك صومالي؟ وهنا كان التَّناقضُ بين الثَّقافةِ العامَّةِ الإعلاميَّةِ وبين الأهدافِ المنشودةِ. لهذا استمرَّتْ دراساتُهُ وجهودُهُ من خلال جمعياتِ العلومِ السياسيَّةِ؛ إفريقيَّة كانت أو عربيَّة، ومجالسِ العلومِ الاجتماعيَّةِ، ومسئوليتِهِ عن تنظيماتٍ عربيَّةٍ وإفريقيَّةٍ للثَّقافاتِ الضاربةِ في المِنطقتيْنِ، وتأسيسِهِ"مركزَ البحوثِ العربيَّةِ والإفريقيَّةِ"؛ لمعالجةِ قضايا الثَّقافاتِ الإفريقيَّةِ، ومواجهةِ محاولاتِ النَّفي الأنثروبولوجيِّ لها، وتأكيدِ مستوياتِ التَّفاعلِ فيما بينها، إقليميًّا وقاريًّا، وترسيخِ هُوياتِها الوطنيَّةِ في إطارِ عولمةِ الاستعمارِ مرَّة، وعولمةِ الهيمنةِ المركزيَّةِ الجديدةِ مرَّة أخرى، مُشدِّدًا على دورِ بلدانِ الجنوبِ في تحريرٍ حقيقيٍّ على مستوًى عالميٍّ، عبرَ تعميقٍ راديكاليٍّ لعلاقاتٍ راسخةٍ من وادي النيلِ، إلى حوضِ النيجرِ والكونغو. وليس هذا بغريبٍ على رجلٍ شارك بجديَّةٍ لافتةٍ في تأسيس"لجنة الدِّفاعِ عن الثَّقافةِ القوميَّةِ"، وكان أمينَها1979-1995لمجابهةِ المخطَّطاتِ الراميةِ إلى تطويعِ العقل العربيِّ لأهدافِ المشروعِ الصَّهيونيِّ الاستعماريِّ.. متسلّحًا دومًا بشعارِ حركاتِ التَّحريرِ في المستعمراتِ البرتغاليةِ (a lutte constant victoire certa) ، "النضالُ مستمرٌّ، والنصرُ أكيد".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس كولومبيا يعلن قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ويعتب


.. -أفريكا إنتليجنس-: صفقة مرتقبة تحصل بموجبها إيران على اليورا




.. ما التكتيكات التي تستخدمها فصائل المقاومة عند استهداف مواقع


.. بمناسبة عيد العمال.. مظاهرات في باريس تندد بما وصفوها حرب ال




.. الدكتور المصري حسام موافي يثير الجدل بقبلة على يد محمد أبو ا