الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكذب ووقع الحقيقة - 2004

عبد الناصر حنفي

2019 / 6 / 11
الادب والفن


(هذا المقال كتب في 2004 حول عرض "كدب × كدب × كدب" اخراج د.صالح سعد، وأقدمه الآن إلى ذكرى أعزاء القلب من شهداء محرقة بني سويف، وصديقي الجميل: الشهيد صالح سعد .. لن ننساكم!)
بداية ، سأتوقف عند تفصيلة في أحد مشاهد عرض " كدب × كدب × كدب" الذي قدمته فرقة السرادق ، حيث تقوم "المهرجة" بسرد حكاية مختلقة حول مساحة هائلة من الأرض التي استوت فوق جذع نخلة لأن البعض قام بتبادل رشق الأحجار ، وهنا يلتقط المهرجان الآخران تلك التفصيلة ويتحولان معا إلى ما يشبه "أطلس"الأسطوري حامل الكرة الأرضية ، بحيث أنهما سيظلان حتى نهاية المشهد يحاولان رفع هذه الأرض الجديدة التي يبدو أنها لا تستطيع البقاء بمفردها فوق النخلة !، والمهرجان لن يقتصدا في لفتنا إلى أنهما يبذلان كل ما يستطيعانه من جهد لاستمرار تلك الحكاية ،ذلك الاستمرار الذي يتوقف من وجهة نظرهما على بقاء هذه المساحة الخيالية مرفوعة ضد الجاذبية . ولكن أين الكذب هنا؟
إن هذا السؤال هام للغاية لأننا بصدد عرض يتخذ من الكذب تيمته الرئيسية، ولكنه يفعل ذلك دون أن يعطي نفسه الفرصة لتأمل ما هو الكذب، وهو ما أفضى به إلى الاقتصار على جمع والتقاط غير منظم لما يتم تداوله بوصفه كاذبا، بحيث أننا سنجد أنفسنا إزاء تداعيات حول الكذب لا تطمح سوى في طرح نفسها عبر العرض دون أن تنجح في استحضار الكذب أو تمييز ما هو كاذب.
وعبر هذا المنحى البسيط بقدر ما هو ساذج يوزع العرض نفسه على مجموعة من المشاهد أو بالأحرى الوحدات السردية التي تفتقر لما يضمها معا باستثناء هذا الوعاء الفضفاض وغير المحدد أي " الكذب" ، ففي البداية سيقوم مخرج العرض باستقطاع وقت مطول يروي فيه ذكرياته حول الكذب ( وهذا هو الملمح الشخصي الحميمي الوحيد على مدار العرض بأكمله ) ، حول حضوره في حياتنا وعدم قدرتنا على الإفلات منه مهما حاولنا ذلك ، وكيف كان حدثا كاذبا محفزا له على اختيار مهنته كمخرج ، واكتشافه لكذبه المتواري وهو يطلب الصدق بإصرار من ابنته ، إلا أن هذا التداخل المرتبك والمنعش بين ما هو معاش وبين التأمل فيه سيختفي بعد ذلك ليخلف وراءه محض حالات مرتبكة ، بحيث ينزلق العرض إلى تداول غير محسوب لحكاية خيالية من الفولكلور( مشهد حكاية الشاطر حسن والخواجة ) ، ثم لسخرية - لم تستطع التعبير عن نفسها جيدا – من الزيف الفني ( مشهد الفيلم الهندي) ، ثم لرصد التناقض بين ما يقال وما يعاش ( موعظة القس المسيحي عن وجوب عدم الخوف من الموت بينما هو يعاني فزعا هائلا منه ) ، ثم الكذب العاطفي ، أو الوقوع في حب من هو ( أو من هي ) غير جدير بذلك ، بمعنى القيام بفعل لا تتوفر شروطه ( مشهد قيس وهريرة ) ، ثم الكذب السياسي ( مشهد خطبة الملك ) .
وعلى هذا النحو يتمزق مسار العرض بين ما هو معاش، وما هو خيالي، وما هو زائف، وما هو متناقض، وما يفتقر لإمكانية التحقق (ولكنه يحدث!)، وما هو قهر سلطوي موشى بنفاق سياسي، مما يجعلنا نلاحظ أن العرض لا يتعامل مع "الكذب " بقدر ما يتعامل مع ما هو غير حقيقي، ليس بالمعنى المعرفي فحسب، ولكن أيضا طبقا لمنطلقات أخلاقية أحيانا، واستجابة لرغبة تحدد ما ينبغي أن يكون أحيانا أخرى.
وبغض النظر عن حالة التشتت في التعامل مع " ما هو غير حقيقي" والذي يؤدي بالعرض إلى الانزلاق اللامحسوب نحو " ما هو مرفوض " ،فثمة فارق كبير بين الكذب ، أو ما هو كاذب ، وبين " غير الحقيقي " ، فالكذب هو ما يدعي لنفسه " وقع الحقيقة " ويطالب بسلطتها ، وبالتالي فما يتضح في لحظة ما بوصفه كاذبا ، كان في لحظة سابقة مرشح لأن يكون حقيقيا ، وبمعنى آخر ، فما هو حقيقي لحظة من لحظات ما هو كاذب ، بينما ما هو كاذب يظل على الدوام بمثابة تهديد مستقبلي لما هو حقيقي ، فالحقيقة معرضة باستمرار لاختبار لا ينتهي يستهدف إحالتها إلى كذبة ، وبالتالي فإذا ما كانت الحقيقة هي بمثابة الماضي المنقضي للكذب ، فإن الكذب هو مستقبل الحقيقة ( إن كان لها مستقبل ) وفرصتها الوحيدة في التغير ، وبعبارة أكثر إيجازا فإن كل من الكذب والحقيقة يسعى دون ملل لاستبدال نفسه بالآخر .
وعبر هذا التحليل للعلاقات التبادلية المعقدة بين الكذب والحقيقة سيمكننا أن نخرج من دائرة مفهوم الكذب كل ما هو خيالي لأنه يمضي بموازاة الحقيقة ولا يكترث بها ، ولا يسعى لاستبدالها ، وكذلك يمكننا إخراج التناقض بوصفه صراع الحقيقة مع نفسها ، أما ما هو مرفوض أخلاقيا ، و ما هو غير مقبول سياسيا أو اجتماعيا فهو يتعلق بالرغبة أكثر مما يتعلق بثنائية الحقيقة /الكذب .
وعلى هذا النحو سيبدو أن العرض قد وقع في شبكة التيه وهو يتجول في الصدع القائم بين ما هو كاذب وما هو غير حقيقي ، وهذا التشتت لم يقتصر على الجانب الفلسفي أو المفاهيمي فحسب بل امتد إلى الجوانب التكوينية للعرض ، سواء على مستوى الإيقاع العام ، أو على مستوى بنية المشاهد ، فقد أوغل العرض بتيمته الأساسية إلى منطقة تفتقر إلى التحديد أصلا مما أدى إلى تفجر حالة من القلق البنائي الناتجة عن عدم وضوح نقطة الوصول التي يتوجه العرض ( أو المشهد) نحوها ، وقد فاقم من هذه الحالة اعتماد العرض على تقنية الارتجال .
و الارتجال المسرحي ليس مجرد الاستعاضة عن الخطة الصارمة للإخراج بحدث عارض أو عابر يتم منحه نفس ثقل تلك الخطة ، لنكون عندئذ أمام شيء استثنائي على نحو مزعج ، أي أمام ثقل مبالغ فيه لخطة غائبة تماما ، ثقل مجاني لا ينطوي إلا على الفراغ ، فعلى العكس من ذلك فإن الارتجال المسرحي بنفيه للنص المسبق يحتاج إلى وضوح التيمة التي ستعمل هنا بوصفها المبدأ المحدد والمكون لعلاقات المشاهد ببعضها البعض ، وكذلك بوصفها مبدأ استبعاد يقوم بحذف كل ما هو زائد وممل ومرتبك ، فالارتجال يبدأ بالتداعي ولكنه لا ينتهي به ، فعبر محك التيمة يتم الانفتاح على فضاء محدد من الممارسة الحرة ( للممثلين وكذلك للمخرج) القائمة على إمكانية الاستبدال المستمر لموتيفات وجمل مسرحية يمكن أن يحل كل منها محل الآخر ، بمعنى أن تحليل التيمة هنا ينبغي أن يفضي بنا إلى الانغماس في حركة تظل محافظة على اتجاهها مهما تغيرت التفصيلات ، وذلك على نحو يؤدي إلى التجول داخل هذا الفضاء المتاح واكتشافه وتوسيع مجاله وإثراءه بما هو شخصي وحميم ومعاش بالنسبة لفريق العرض ، بحيث أن الممثل سيعيد على الدوام اكتشاف استجاباته الجسدية والمعرفية داخل إطار الارتجال .
وسأضرب مثالا واحدا حول الافتقار إلى بوصلة التوجه في ممارسة الارتجال ، ففي مشهد " فيلم هندي" حيث يفترض أن نعاين ما هو زائف فنيا ، سيقتصر الأمر على محاكاة صوتية للغة الهندية مع محاكاة إيمائية لرقصة الثعبان الشهيرة !
وإلى جانب ذلك فإن حالة التيه تلك منعت العرض من التفكير في العلاقة التركيبية بين عناصره ، ففي مشهد افتتاحي ( مطول للغاية ) يقدم المهرجان أنفسهما لنا على خلفية موسيقية مرحة ، ولكن المشهد يطول لعدة دقائق بينما القطعة الموسيقية التي لم تتجاوز مدتها دقيقة واحدة تقريبا ترسم عدة دورات تتكرر عبر خفوت الصوت وتلاشيه ثم عودته مرة أخرى ، دون أن يكون لهذه الدورات الانقطاعية أي علاقة بالحركة المستمرة على الخشبة .
واستفحال هذا القلق البنائي أفضى إلى حالة من التوتر المفضوح لدى الممثلين والمخرج ، ولكن كل منهم قاومه بطريقته الخاصة ، فالممثلين قاوموا ما وفرته تقنية الارتجال من انفتاح مربك على تيمة ذات فضاء غامض وغير محدد عبر المزيد والمزيد من تكرار بعض الموتيفات والجمل الحركية ، فعلى سبيل المثال ، يقوم الممثلون باللعب مع مصادر الإضاءة بحيث يحاول كل منهم إنارة مكانه وإظلام أمكنة الآخرين ، وهي لعبة تتكرر على نحو رتيب عشرات المرات عبر مسار العرض بنفس التفاصيل والإيماءات الجسدية ، بحيث ستبدو تلك الأجساد وكأنها تطلب ما هو محفوظ وتطمئن إليه وترغب فيه ،كوسيلة للتأقلم مع توترها غير المفهوم من وجهة نظرها ، و لا يمكننا القول أنها أجساد تفتقر إلى الشعور بالحرية اللازمة للقيام بالارتجال ، فهي لم تطمح إليها ولم تطلبها أصلا .
أما المخرج فسيقاوم توتره عبر تصريحه المتكرر بالتنصل مما يقدم ( وهي جملة ترد باستمرار في أغلب عروض صالح سعد ) ، وكذلك عبر رهان بنائي كان يمكن أن يمنح العرض نقطة توجهه المفتقدة لو أحكم تنفيذه ، فمنذ البداية تتناثر الإشارات بأن ثمة عرض آخر ينبغي تقديمه ، ولكن هذا العرض يتم إعاقته وتأجيله بدخول المهرجة المفاجئ وصراعها مع المهرجين الآخرين ، وفي النهاية يتم تقديم ما هو مؤجل باستمرار ( خطبة الملك) عبر سخرية سياسية بسيطة ، ولكن المخرج الذي يصيبه الفزع من هذه السخرية يأمر بإطفاء الأنوار لينتهي العرض .
وهنا مكمن رهان صالح سعد ، والذي ينطوي على القول بأن كل ما نقوم به من نقد استعراضي لا يهدف إلا لتأجيل مواجهة ما هو سياسي ، وبغض النظر عن مدى حجية هذه الطرح ، فإن السؤال يبقى حول قدرة مقولة ما ، أي مقولة ، سياسية أو غير سياسية على إنقاذ عرض مسرحي .



عرض " كدب× كدب × كدب " قدمته فرقة السرادق بمهرجان المسرح المستقل الثالث ، على مسرح الهناجر يوم 16 – 8 – 2004 "من إخراج د. صالح سعد .
نشرت في جروب مسرحنا- ياهو في 17-8-2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا