الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذَكَرُ العجل

ضيا اسكندر

2019 / 6 / 16
كتابات ساخرة


لم يكن سامر قد تجاوز العاشرة من عمره عندما كلّفه والده الذهاب إلى لحّام الحيّ لإحضار ذَكَرِ العجل، من أجل شيّه وإطعامه لأخته الصغيرة ذات السنوات الستّ المصابة بمرض «سلس البول». فقد اقترح شيخ الجامع على والد الفتاة بأن تناولها لذكر العجل سبع مرات مشويّاً كفيلٌ بإبرائها من مرضها.
ولمّا كان الأب عاملاً في المرفأ بصفة عتّال. ويقضي جلّ وقته متنقّلاً بين رصيف المرفأ والمستودعات، ولا يعود إلى بيته إلاّ عند غروب الشمس، فإنه يمتلك المبرر الكافي لإعفاء نفسه من مشقّة الذهاب إلى اللحّام، وتفادي الحرج الذي سيسبّبه طلب الحصول على مبتغاه. فقرّر تكليف ابنه البكر للقيام بهذه المهمّة بعد اتفاقه مع لحّام الحيّ.
عندما أوضح الأب لابنه تفاصيل المهمة والغاية منها، وأن البائع سيعطيه ذكر العجل مجّاناً، انخلعت رئتا سامر من هَوْلِ هذا الأمر وشعر بارتباكٍ شديد. لكنه صمتَ ملجوماً باستسلام. فهو لم يسبق له أن احتجّ أو اعترض أو تأفّف من أيّ أمرٍ يتلقّاه من والده. فقد كان خجولاً تربّى على طاعة الوالدين. ممنوعٌ عليه وعلى أخوته الخمسة إبداء أيّ رأي مخالف لرغبةِ ومشيئةِ معيلهم. وبحكم دوام والده الطويل والشّاقّ، فقد كان يصل إلى البيت منهكاً لا قدرة له على ملاطفة أبنائه ولا حتى على الابتسام. بل لنقل أنه كان قاسياً عليهم؛ إذ إنّ الحوار بينهم مقطوع تماماً. حتى أن الأولاد اعتادوا فور وصول والدهم أن يلوذوا بالصمت ويكبّلهم سكون موحش. ويبدؤون بالتهامس والتفاهم فيما بينهم بالإيماءات والإشارات.. يكتمون ضحكاتهم، وغضبهم، ولا يُفْضون بهمومهم وحرمانهم وتعتيرهم.. إلاّ لوالدتهم.
صبيحة اليوم التالي توجّه سامر إلى لحّام الحيّ وهو حائرٌ مسربلٌ بالهموم. تصطخبُ في أعماقه أسئلةٌ مقلقةٌ شتّى: «أيّة مهمّة لعينة كلّفني بها أبي؟ ماذا سأقول للبائع؟ وكيف سأذكر عبارة (ذكر العجل) له؟ وما هو ذنبي ليتمّ وضعي في موقفٍ حرجٍ كهذا؟ ألأنّي الأكبر بين أخوتي؟ أيُّ حظٍّ عاثر هذا يا ربّ!».
لدى بلوغه وجهته كانت آخر قطرة من لعابه قد جفّت تماماً. المحلّ فيه بعض الزبائن واللحّام منهمك بتقطيع اللحم وفرمه وبيعه. لم يتجرّأ سامر على الدخول. بقي يتسكّعُ خارج المحل مقهوراً إلى أن فرغ من الزبائن. فدخل متهيّباً بقدمين متلكّئتين وجسدٍ يرتعش، وبصوتٍ واهنٍ أقرب إلى المواء قال:
- عمّو أنا ابن أبو سامر..
- أهلين عمّو شو بتريد؟
- بابا قلّك منشان تعطيني.. تبع العجل!
ويبدو أن البائع قد نسي الاتفاق المبرم مع أبي سامر فاستوضح منه وهو يسنّ السكّين الكبيرة:
- قلّي شو بدّك عمّو، اوقيّة، اوقيتين.. خشنة، ناعمة، راس عصفور.. منشان شو بدكن ياها؟
أجاب بصوتٍ كالأنين:
- لأ عمّو، ما بدنا لحمة. بدنا..
- (بنفاد صبر) لا تلهّيني عمّو يرضى عليك.. قلّي شو بدّك، خلّصني عندي شغل؟
بحرجٍ شديد أشار سامر بيده إلى ذكر العجل المتدلّي، وقال له بعد أن تنحنح منظّفاً حنجرته وكأنه يُدْلي باعترافٍ مرير:
- بدنا هادا عمّو.. اللي وصّاك بابا عليه.
قطّب اللحّام جبينه في محاولة للتذكّر ثم قال بصوتٍ متدحرجٍ ثقيل:
- آه، هلّق تذكّرت. رُحْ عمّو غبْلك شي ساعة ساعتين وارجع. لسّا ما بعْنا شي تقريباً. حتى ما يظنّوا الزبائن أنه عم نبيع انتاية لا سمح الله.
كان جوابه كالصفعة. لأن سامرَ سيُعيد ذات الديباجة المقيتة على البائع مرةً ثانية. استدارَ مكتئباً خائباً كمتسوّلٍ مبتدئ. غير أنه توقّف بعد خطوات والتفت إلى الوراء وزفر من بين أسنانه شتيمة كبيرة على اللحام وقفل عائداً يندب حظّه.
فور وصوله إلى بيته عاتبَ والدته بغضبٍ شديد، من أنه يتمنى الموت على أن يعود مرة أخرى إلى اللحّام. وشرح لها ما دار بينهما، وكيف أنه كان في غاية الضيق والاضطراب وهو يطلب حاجته. ولما كانت أمّه من الوداعة والحنان، فقد استوعبت سورة غضبه وهدّأته مسترضيةً بأن ضمّته إلى صدرها وبدأت تعبث بشعره القصير. مخفّفةً احتداده بكلماتها الرقيقة بأنه أصبح رجلاً يمكن الاعتماد عليه؛ فهو أكبر أبنائها الصبيان، وأنه بتأمين ما نصح به الشيخ، سوف يريحهم جميعاً من معاناتهم جرّاء تبوّل شقيقته اليومي وتبليل ثيابها والفراش.
هدأ قليلاً متوعّداً أنه لن يكرّر زيارته إلى اللحّام بعد هذا اليوم مهما كانت عقوبته.
شقيقته «المجرمة» كانت تلعب بدمْيتها متشاغلةً عن الحوار الذي يمسّ أدقّ خصوصيتها. تتظاهر بأن الأمر لا يعنيها. تطلّع صوبها بعينين حاقدتين وهتف صائحا بتشفٍّ:
- كلّه منّك يا شخّاخة.
أسبلتْ شقيقته عينيها وزمّتْ شفتيها ثم غطّت وجهها بيديها وبدأت كتفاها تهتزّان بنشيج.
زجرته والدته مؤنّبةً بصوتٍ حادّ:
- سامر، إيّاك إزعاج أختك، ما ذنْبا المسكينة، هيك الله خلقها.. (وأضافت راجيةً) برضاي عليك يا ابني خلّي هاليوم يمرّ على خير.
برم وجهه متذمّراً ودخل حديقة الدار ليتفقّد صيصانه الثلاثة الذين كان قد اشتراهم عند بداية العطلة الصيفية. وجلس تحت شجرة النارنج وطفق يلعب معهم وغاصَ في عالمه الطفولي.
بعد مضيّ ما يقارب الساعتين وهو في الحديقة وقد نسي تماماً ما كان بصدده، سمع صوت والدته من المطبخ تذكّره بضرورة معاودة زيارة اللحّام.
انهالت عليه زوبعة التوتر مجدداً. انتفض منفعلاً وضرب شجرة النارنج بقبضته. وركل الأرض بكعب حذائه. ونفض ثيابه من غبار الحديقة بنزق. وانطلق إلى مقصده الجحيمي مبربراً.
لدى وصوله واجهة المحلّ وجد جارتهم (أمّ عبدو) تشتري. فتابع سيره خشية أن يذكره اللحام فيناديه ويعطيه ذكر العجل على مرأى من جارتهم الثرثارة فيُفتضح أمرهم. انزوى في ركنٍ يراقبها إلى أن خرجت. فسارع إلى اللحّام وهو يبتهل في سرّه أن يُوفّق هذه المرة في مهمته العسيرة.
ما إن رآه اللحام حتى قال له:
- شوف يا ابني.. ما فيني اعطيك ياه حتى خلّص بَيع اللحمة. متل مانك شايف، الذبيحة ما راح منّا شي يُذكر. خلص رُحْ عبَيتكُن وبس خلّص بَيع، أنا بنفسي بجبلْكم ياه عالبيت.
لم يصدّق أذنيه للوهلة الأولى. تردّد برهةً، وسرعان ما اجتاحه تيار سماوي من الأفراح كادت الدموع تطفر من عينيه، فقد انتهت مهمّته المعذِّبة إلى الأبد. وقال بصوتٍ يفيض امتناناً بعد أن تنهّد بارتياح:
- شكراً عمّو.. شكراً كتير.
لم تسعْه الفرحة، وبدأ يقفز راقصاً كمن خلص من مهلكةٍ وهو يتجه إلى البيت متوهجاً بالسعادة. وقرّر فور وصوله أنه سيعانق شقيقته الصغرى ويحملها ويطوف بها أرجاء البيت، فهي مسكينة لا ذنب لها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | الغناء في الأفراح.. حلال على الحوثيين.. حرام على ا


.. الفنان عبدالله رشاد: الحياة أصبحت سهلة بالنسبة للفنانين الشب




.. الفنان عبدالله رشاد يتحدث لصباح العربية عن دور السعودية وهيئ


.. أسباب نجاح أغنية -كان ودي نلتقي-.. الفنان الدكتور عبدالله رش




.. جزء من أغنية -أستاذ عشق وفلسفة-.. للفنان الدكتور عبدالله رشا