الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شاعران في معطف واحد -- (في الأدب المقارن ) قصيدة المومس العمياء للسياب و قصيدة الشتاء للشاعر الايراني مهدي اخوان ثالث

كامل داود
باحث

(رويَ اêيçï المïèçل ئ الكêçè في الïيوçنيé)

2019 / 6 / 18
الادب والفن


يشكل الادب المقارن رافدا مهما من روافد الثقافة الانسانية الحية لما له من يد طولى في ادامة التواصل و تبادل التجارب بين الشعوب و الامم، لكننا نرى الامر مختلف في الثقافة العربية المعاصرة فأن هذا الجنس الادبي يكاد ان يكون مقتصرا على بعض المحاولات المتواضعة هنا او هناك بما يرسم صورة واضحة للتردي الممتد لعدة عقود في هذا المضمار .
وبقدر تعلق الامر بالأدب الفارسي فأن الدراسات المقارنة لم تتناوله بمستوى العراقة التي يتمتع بها بين الآداب العالمية الاخرى و بمستوى قربه من المزاج الثقافي العربي، ولعل مرد ذلك يعود الى تغلب العامل السياسي على العامل الثقافي في هذه المناطق التي عانت الكثير من ويلات القهر والاستبداد والحروب ولم يشفع في ذلك الجوار الجغرافي والتداخل التاريخي بين الشعوب وحضارتها .
ومن جانب اخر فأن الظروف العامة المتشابهة والتراكم الثقافي المشترك لا بد لها من التأثير على المنتج الثقافي بشكل او بآخر، ولا يمكن الافلات من العامل الموضوعي اطلاقا في حياة الشعوب والامم، فنظرة خاطفة على المخرجات الثقافية الفارسية و العراقية تؤكد ما نذهب اليه و يتضح ذلك في الادب بكل فروعه لكون الادب الصورة الصادقة للحياة و هو الاكثر مساسا بحياة الافراد والجماعات البشرية وهذه حقيقة يلمسها مثقفوا كل امة ، اما عبور الثقافة للحدود المتاخمة فيتطلب (جواز سفر) قوامه فنا آخرا هو فن الترجمة بكل معاييره الجمالية المعروفة وهذه مشكلة رديفة في الدراسات المقارنة .
لا نريد القول ان هنالك قطيعة تامة بين الادب الفارسي و العربي ولكن المتوفر من المعرفة والاطلاع ليس بمستوى حميمية الجوار الجغرافي والتاريخي ، صحيح ان الفردوسي او الخيام و سعدي وحافظ من القدامى و سبهري وفروخ وصادق هدايت من المحدثين ، ادباء تتداول اسماؤهم في الثقافة العربية ولكن شاعر بمستوى ( مهدي اخوان ثالث ) لا يعرف - وعند القليل من العرب - الا بقصيدته (زمستان ) الشتاء ، المنشورة على الانترنيت بترجمة ( علي ياسين عبيدات ) وهي من القصائد المشهورة في ايران وقد تكون هي القصيدة التي القت بين يديه صولجان الزعامة الادبية في فترة يشاطره فيها شعراء فحول مثل نيما يوشيج و سبهري وشهريار ، والغريب عند قراءة قصيدة الشتاء تحس انك تقرأ شعرا عربيا خالصا وتحديدا كأنها من قصائد بدر شاكر السياب ، ومن السهولة بمكان ان تجد المشتركات الادبية والجمالية بين قصيدة الشتاء والمومس العمياء لو استثنينا طول النفس الشعري في القصيدتين اللتين كتبتا في وقت متقارب حد التطابق ، فقد كتب السياب قصيدة المومس العمياء عام 1954 ونشر مهدي اخوان ثالث قصيدة الشتاء 1956 ، فأذا تشابهت المقدمات تشابهت النتائج كما يقول المناطقة ،الشاعران من جيل واحد فالسياب تولد 1926 و مهدي أخوان ثالث 1928 وكلاهما من الطبقة الوسطى ، بدئا تجربتهما باستعمال القوالب الشعرية الكلاسيكية ثم اتجها صوب القصيدة الحديثة كرائدين خاضا مغامرة التجديد الشعري بشجاعة ونجاح مبهر ، اشتغلا في ميدان التعليم ولهما نشاط سياسي متشابه اعتقلا بسببه عدة مرات وعاشا تجربة مرة في الهجرة التي اختلافا فيها حيث عاد مهدي اخوان ثالث ليدفن قرب الفردوسي( 1990 ) وعاد منها السياب محمولا على نعش الى مقبرة الحسن البصري ( 1964)
ان حياة الشاعرين تشي بإنغماسهما في حراك اجتماعي وسياسي الى مستوى نموذج غرامشي في صياغته لمفهوم المثقف العضوي، ولو اسلمنا ان القصيدتين ( المومس العمياء و الشتاء) تحدد اجوائهما مكونات نفسية واجتماعية، وان الإبهار يستدعي خبرة ودراية بالحياة وخيال يمتلك المقدرة على ضم عناصر مختلفة في لوحة واحدة شائقة و ممتعة، فلا غرابة ان نجد الصور الشعرية عندهما تقدم معنى انساني عام وان كانت بإطار ذاتي بل تنبهنا الى ما هو مختبأ وتدهشنا في الكشف عن المثير في الحدث اليومي الروتيني المفعم بالعوالم الموحشة و القفر الانساني المعتم .
لقد جاءت قصيدة السياب "المومس العمياء" على صورة ضحية مركبة ( جندرية سياسية ) ، لتبلور ازاحة لمأساة شعب ، فتاة قروية يقتل ابوها من قبل اقطاعي فتفقد معيلها في العيش وتستدرج للسقوط لجمالها ويتمها ،والسياب لا يريد في هذه القصيدة ان يستدر تعاطف القراء بقدر ، كشفه شقاء الانسان وعذاباته الازلية ،اراد ان يفضح الظلم و البناء الاجتماعي المتهالك ،التفاوت الكبير في توزيع الثروة والسلطة، هكذا يولد الشقاء ويتناسل بين الناس من هنا ينطلق السياب بفيضه الشعري يرسم مشهد الحياة العراقية البائسة مستدعيا نبضات الوجدان البشري بخصوبته ونفسه الشعري الطويل ،يستعير ظلام الليل ووحشته للدلالة على البؤس المهيمن على الواقع العراقي وتداعيات قمع الانتفاضات العراقية التي كانت اخرها انتفاضة 1952 وتنمر السلطة واشتداد قبضتها على انفاس الشعب العراقي :
الليل يُطبق مرّة أخرى، فتشربه المدينه
والعابرون، إلى القرارة.. مثل أغنية حزينه
وتفتحت، كأزاهر الدفلى، مصابيح الطريق،
كعيون "ميدوزا"، تحجّر كل قلب بالضغينة،
أي مدينة حزينة هذه ؟ واي حزن ثقيل ؟ يحاصرها الليل و يغلق عليها كل منافذ الافلات من عتمته والذاهبون الى القرارة " المبغى " مثل لحن مثقل بالحزن ، والمصابيح كئيبة خافتة كأنها ازهار شجرة الدفلة
وهي من " الأشجار سامة " مرة المذاق بجمال خادع ، او مثل عيون ميدوزا التي تحيل من ينظر اليها الى حجر( اسطورة اغريقية ) فكان الليل يحمل قساوة تجهض الرحمة في القلوب و قد تشربت به المدينة ونفوس المارة .
اذن هو واقع اجتماعي مرير صنعته عوامل القهر والطغيان وسوء توزيع الثروة والسلطة ،و هو لا يختلف كثيرا عن ما يعيشه جارهم الشرقي، فالفترة نفسها شهدت اخماد حركة مصدق الوطنية وافشال مشروع تأميم النفط الايراني والانقلاب الدموي الذي اعاد السلطة البهلوية بشراسة و استفحال جهاز السافاك المرعب في مطاردة واعتقال الوطنيين ، لقد صب مهدي اخوان ثالث تلك الاجواء السياسية المكفهرة بقصيدة الشتاء مستعيرا الشتاء الايراني القاسي بدلالة نفسية تفضي للكشف معاناة الانسان من النظام السياسي القمعي الذي ادخل المجتمع الايراني في لجة من اليأس والخوف وبدل الليل السيابي جاء الشتاء عند مهدي اخوان ثالث ليمسك بزمام الاستعارة عن ازمة الانسان المحبط و المقهور :
إنه الشتاء...
لا يرفعُ أحدُهم رأسه ليرُد التّحية و ليُلاقي الأحِبةْ
ولا يسعهُ أن ينظر إلا لِموضِع قدمهْ
فالطريقُ مُظلِمٌ و مُنزلق..
المدينة واحدة عند الشاعرين ، فأن يكن شتاء مهدي اخوان ثالث احالها طرق مظلمة زلقة فأن مدينة السياب ما هي الا خفاش اعمى، امتصت ظلمة الليل وتمكن منها واطبق عليها بالوجوم والحزن الثقيل، بهذا اللون المعتم وسم السياب ملحمته، واسهب بالاستعارات والصور الشعرية التي تنقل القارئ الى التعاطف الايجابي مع مومس عمياء شكلت صورة مصغرة للظلم والقهر الذي يرزح تحته العراق
عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينه،
والليل زاد لها عماها
وهي الاجواء النفسية التي رسمها السياب عينها عند "مهدي اخوان ثالث" بل اضاف عليها بعدا اخرا فهو شتاء قارس والطريق مظلم وزلق (والعابرون ) منشغلين بأنفسهم بل يتحاشون رد التحية عليه فهو بنظرهم يشكل خطرا فقد كان حديث العهد بالسجن وعيون السافاك تترصد:
لا يرُدون عليك التحية
الجو كئيب، الأبواب موصدة، الرؤوس مطئطئة، الايادي متوارية
الأنفاس كالغيم، والقلوب مُتعبةٌ و بائسة،
الأشجار هياكلٌ بلوريةٌ مرصوفة،
والأرض ميةُ القلبِ، وسقف السماء قريبٌ من الأرض،
والغبار يكلل الشمس والقمر..
إنه الشتاء...
فشتاء مهدي اخوان ثالث هو ليل السياب البهيم كغابة تجول فيها الضواري وتنعب الغربان فوق اشجارها الملتفة على الوحشة والخواء :
من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف
من أي وجر للذئاب؟
من أي عش في المقابر دفَّ أسفع كالغراب
اما عند "ثالث" فقد هيمنت اللامبالاة على الناس في المدينة واغدق عليهم الشتاء القاسي بقبح الجفاء فلا مصافحة ولا تحية حتى ، فوراء الاكمة ما وراءها :
إن مددت يدَّ التّرحابِ لأحدِهمْ
لأخرِج يده مِنْ مِعطّفِهِ مكْرّهاً
فالبردُ قارصٌ وفي منتهى الشِدَّةْ....
النفسُ الخارجُ من أعماق الصدر كسحابةٍ سوادء
يقفُ كجدارٍ قُبالةَ عينيك
النفسُ على هذا الحال، فماذا ترجو من قريب أو بعيد..!
الى هذا الحد بلغ التخوف من الرقيب ، ( العابرون ) يتملكهم الحذر من السقوط في منزلق الريبة واستجواب الشرطة السرية الذي قد يلقي بهم في بطون المعتقلات وان احسنا بهم الظن فهم مشغولون بمصالحهم و كسب عيشهم ونكاد نجد الصورة نفسها عند السياب ، رجال متعبون أخذ منهم الخوف مأخذا و انهكت الظنون انسانيتهم وافقدهم الشك بالآخرين طعم التواصل فغرقوا في خيال ذاتي للبحث عن المتع الرخيصة الواهمة عند ضحايا مثلهم :
والعابرون
الاضلع المتقوسات على المخاوف والظنون
و الاعين التعبى تفتش عن خيال في سواها
وتتضح معالم تلك الاستعارة المشتركة في هذا المقطع الذي ينقل به "ثالث " هواجسه عندما يحل ضيفا على صديقه (المسيحي ) عله يجد عنده ما يؤنس وحشته التي تشربت بها روحه الوثابة :
قنديل السماء حيٌ أم ميتٌ(منيرٌ أم مُنطفئ)؟
فهو ملتحفٌ بنعش الظلام الكبير و الداجي و المتشحُ بالموت.
يا نديمي!
أشعِل قنديل الشراب فالليل والنهار سيان..
يخاطب نديمه ان ليس هنالك ملاذ من هذا البؤس و الحزن الثقيل غير الارتماء بين احضان الكأس فالجميع ضحايا لسياسة الاختناق و تكميم الافواه الحرة ونهب خيرات الشعوب ، اما المومس العمياء فهي تشتري زيت الاضاءة في بلد يعوم على بحيرة من النفط من غير ان ترى نوره ولكن كي يراها ضحايا آخرون، يبحثون عن متنفس عابر لمآسيهم المزمنة فالظلم يعم الجميع، لكن السياب التقط منه الجانب الذي يبعث الشفقة في نفس القارئ، ولكنها ليست شفقة الاستكانة والخنوع ، وانما تلك التي تحرك الوعي ، وتترك التساؤلات الكبرى عن الحلول لإزاحة هذا الظلم :
ويح العراق! أكان عدلاً فيه إنك تدفعين
سهاد مقلتك الضريرة
ثمناً لملء يديك زيتاً من منابعه الغزيرة ؟
كي يثمر المصباح بالنور الذي لا تبصرين ؟ .
فالشاعران قد نجحا في توثيق معاناة شعبيهما، فقد كتب "مهدي اخوان ثالث" قصيدة الشتاء ( زمستان ) في ايران بعد الانقلاب الذي دبرته الدوائر الغربية ضد مصدق ( انقلاب 28 مرداد 1332) 1953م و وكتب السياب ملحمته المطولة " المومس العمياء " في العراق بعد اخماد انتفاضة 1952 ووقوع البلدين في دائرة الظلام القمعية و الهيمنة الغربية الاستعمارية، حيث تحطمت ارادة الشعبين امام جبروت الطغاة وتشكل حلف بغداد سئ الصيت عام 1957بزعامة بريطانيا وكان من مؤسسيه الاربعة ايران الشاهنشاهية والمملكة العراقية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من


.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري




.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب


.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس




.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد