الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آباء وأمهات

حامد تركي هيكل

2019 / 6 / 22
الادب والفن



عندما كنا صغارا تعرفنا بشغف وحب على رجل يقود دراجة هوائية ، كان يطوف على بيوت قريتنا أيام الصيف الحارة ليبيع المثلجات ، كان أسمه أبو الليدي* . يتجول ساعة من نهار ثم يختفي ، ولكنه لم يكن أبدا ليختفي من مخيلتنا . ننتظره ونحب أن نسمع خرخشة عجلاته وصوته وهو ينادي ... ليدي ...ليدي.... بَرِّد... بَرِّد... بعد مضي كل تلك المدة الطويلة أدركتُ أنني لا أتذكر وجهه، وعرفت الآن فقط أننا لم نكن نركز على وجهه. فمن يهتم بوجه الرجل ويترك متعة النظر الى ذلك الصندوق الجميل الملفوف بالخيش المبلل بالماء والمربوط باحكام بمقدمة الدراجة الهوائية. في ذلك الصندوق يكمن السحر كله ، واللذة كلها، عيدان خشبية ينغرز كل منها بقطعة من الثلج الأصفر والأحمر والأخضر ، ثلج حلو لذيذ .
أما والدي فكان يكره أبو الليدي بشدة ، وينظر اليه شزرا. كان يقول عنه ( هذا ليس أبو الليدي ، هذا أبو الأمن) . عرفت فيما بعد ان والدي كان واثقا أن الحكومة كانت ترسل هذا الرجل ليتجسس على الناس ، ويجمع المعلومات عنهم .
في الوقت نفسه كان في قريتنا امرأة تطوف عصرا ، عصرا فقط ، وهي تحمل على رأسها قدرا لامعا، قدرا يحتوي على حمص مطبوخ ومملح . كان اسمها أم اللبلبي **. لم نكن ندرك يومها كيف يكون الرجل صاحب الدراجة أباً للمثلجات ، والمرأة أماً للبلبي ثم يجولان على البيوت ليبيعانهما للأطفال. ولاحقا تعرفنا على أبي الكهرباء الذي كان يطرق الأبواب مرات متباعدة ليتفحص مقياس الكهرباء ويذهب. ثم سطع نجم أبي المولدة ولازال.
اليوم ، ثمة آباء وأمهات كثر. ففي مؤسساتنا الحكومية هناك أبو الحسابات وأم الرواتب. وفي جامعاتنا أيضا هناك أبو الترقيات وأم التسجيل الى جانب آباء آخرين وأمهات أخريات.
لا بأس اذن ، فهي مجرد اختصارات ، وبدائل لمفردات كثيرة ، فأبو الليدي هو بائع الليدي وأبو الذاتية هو الموظف المسئول عن الملفات . هي ليست علاقة دموية وليست علاقة دائمية . فربما يكلف أبو المتابعة بوظيفة أخرى غدا فيصير أبو التدقيق وهكذا. وهي لا تشير الى ملكية من نوع ما بل هي مجرد مصادفة في أن تكون مكلفا بعمل ما ، أو مهتما بموضوع ما ، فغيرك كثيرون مهتمون بالموضوع ذاته. ومن المنطقي أن يسعد المرء حين يعرف أن أناساً كثيرين يشاركونه الأهتمام عينه. فربما ينضم أليهم بنقابة ، أو يبادلهم الآراء ويطلب منهم النصح . فالقضية التي يشتغل عليها ليست من اختراعه ، وهي لاشك ستبقى محط أنظار آخرين حين يتركها هو .، هكذا تنشأ النقابات ، وينتظم الأفراد المعنيون بقضية مشتركة بمجموعات.
الأمر الغريب ان لدي صديق ضمن مجموعة في أحدى وسائل التواصل الاجتماعي وهو يعمل مسئولا عن متابعة الشروط الصحية للمطاعم ، نطلق عليه أبو الصحة، لا يقبل أية مداخلة من أي صديق آخر تتعلق بالصحة أو بالطعام ، فهو يعتبر هذه المواضيع من اختصاصه ، وهو يعتقد أنه هو وحده العارف بشؤونها ، المطلع على خفاياها ، وكلنا جاهلون بها، وبالتالي فلا يحق لنا الحديث عنها من قريب أو بعيد.
ولديّ زميلٌ في الجامعة مكلفٌ بتدريس مادة الفلسفة ، كنيته أبو الفلسفة .وهو أيضا لا يتقبل من أيّ أحدٍ أن يتطرق لأيّ موضوع له علاقة بالفلسفة . فالفلسفة ساحته وملعبه هو وحده بلا منازع.
ترى هل تحولت خفة دم أهلنا القدماء حين جعلوا البائع والصاحب والمالك والقائم بأمر ما أبا لذلك الأمر أو أماً له ، هل تحولت الى مرض عصري ؟ فتحولت التخصصات الى احتكارات وتحولت المهام الى حيزيات وتحولت الواجبات الى اقطاعات؟ أم أن البطركية فرضت نفسها على لغتنا وتفكيرنا ، واقتنصتنا بشباكها .
أعتقد جازما أن أبو الليدي وأم اللبلبي يرحمهما الله كانا أكثر انفتاحا وتفهما لعلاقتهما بما يبيعان أكثر من أصدقاءي الحاليين .
* ماركةleady stick من ماركات المثلجات الشهيرة في ذلك الزمان
** اللبلبي هو الحمص المسلوق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي