الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل غاب ماركس بعد الإتحاد السوفيتي

حسن عبد الله بدر

2019 / 6 / 22
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


تحية لكارل ماركس في يوم مولده
في عام 1993، دُعي الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا لإلقاء محاضرة في جامعة كاليفورنيا والمشاركة في مؤتمر يناقش حالة «ما بعد ماركس» بعنوان «إلى أين ستذهب الماركسية؟». حينها كان قد وصل خطاب «النهايات» إلى مبتغاه، فالعديد من مفكري الغرب كتبوا بحماسة شديدة عن «نهاية الأيديولوجيا» و«نهاية ماركس والماركسية»، مبشرين بعهد جديد، معتبرين لحظة نهاية الحرب الباردة (في نهاية الثمانيات) وانتصار الليبرالية هي لحظة «نهاية التاريخ» بوصفها إعلانًا لهيمنة نموذج واحد على العالم أجمع هو النموذج الليبرالي.
ولكن أزمة عام 2008 التي إجتاحت أمريكا وأوربا والعالم بأسره كشفت حقيقة أن كارل ماركس لم يمت، كما بشّرت تلك الخطابات. ورغم رغبة أنصار المدرسة الليبرالية الجديدة بالتخلص منه باعتباره جزءًا من إرث الحرب الباردة. إلاّ أن حضوره بهذه الحيوية بعد أكثر من 135 عام على وفاته، ولجوء الكثير من المدارس الفكرية وحتى العديد من رجال الحكم إلى كتبه في محاولة لتفسير تلك الأزمة ووضع السياسات اللازمة لمواجهتها، واستمرار أفكاره كأساس أو إلهام لعدة مدارس فكرية تطرح أسئلة عما إذا كان ماركس قد غاب أصلاً، وما أساس عودته، وما دلالتها بالنسبة لمستقبل الفكر العالمي.
ففي عام 1999، وبعد عقد من انتهاء الحرب الباردة، أجرت هيئة الإذاعة البريطانية استطلاعاً طلبت فيه من مستمعيها تسمية أعظم مفكر في القرن العشرين. جاء كارل ماركس في المركز الأول بينما حل آينشتاين ونيوتن وداروين في المراكز الثاني والثالث والرابع على التوالي. وفي مقال نشرته مجلة ذي إيكونوميست البريطانية عام 2003 بعنوان "ماركس بعد الشيوعية"، تشير البحوث المجراة على موقع أمازون وغيرها من مواقع بيع الكتب إلى أن عدد الكتب المتوفرة والمتعلقة بماركس يفوق عدد الكتب المتعلقة بآدم سميث بما يتراوح بين خمسة وعشرة أضعاف. ومن المؤشرات التي تبرهن الحضور القوي لماركس بيع ما يقارب 100 ألف نسخة من "البيان الشيوعي" في بريطانيا وحدها1 بين عامي 1996-1997. ويخبرنا المؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم أنه عند البحث عن اسم كارل ماركس على جوجل في تشرين الأول 2008، ظهرَ لماركس أكثر من 32 مليون مرجع وهو واحد من أكبر الأرقام الخاصة بكبار المفكرين في العالم، حيث لم يتقدم عليه سوى داروين وآينشتاين، وكان الفارق كبيرًا جدًا بينه وبين آدم سميث.
لعل أحد أهم أسباب استمرار حضور ماركس حتى بعد غياب الاتحاد السوفياتي، هو قوة حضور «البيان الشيوعي« الذي ألفه ماركس وأنجلز عام 1847 بتكليف من «عصبة الشيوعين«. ويحضى هذا البيان، إلى جانب عمل ماركس الرئيسي "رأس المال"، بإهتمام كبير في الوقت الحاضر باعتياره وثيقة تاريخية أثبتت العولمة راهنية الأفكار الواردة فيها. إذ يُنظر إلى البيان باعتباره نصًا رئيسيًا لفهم العولمة الرأسمالية، مما منَحه قيمة كبيرة وشهرة لم تحظَ بهما معظم الأعمال الكلاسيكية في العالم. وقد ساعد في ذلك أيضًا صعود العديد من الحركات المناهضة للعولمة والتي تبنّت البيان كمرجعية نظرية لحركتها.
ولذا، إذا افترضنا أن ماركس كان حاضرًا طوال القرن 20 كله تقريباً لسبب رئيسي وبسيط، هو أن أكثر من ثلث البشرية كان يعيش تحت نظم حكم كانت تقول أنها تسير على نهجه وأفكاره، فإن الرجل حافظ على حضوره حتى بعد سقوط تلك النظم، وهذا دليل صادق على راهنية أفكار ماركس والبيان الشيوعي كوثيقة علمية يمكن أن تساعد على فهم وتفسير العولمة الرأسمالية.
إن تقديس أي نص من نصوص ماركس يتناقض جوهريًا مع فكره هو نفسه، وبخاصة تشديده على تاريخية كتاباته التي تحاكي واقعًا سياسيًا واجتماعيًا محددًا. فقد أكد هو وأنجلز، في مقدمتهما لطبعة عام 1872، أي بعد قرابة ربع قرن من كتابة البيان، على أن: "هذا البرنامج اليوم قد شاخَ في بعض نقاطه بتأثير التقدم الضخم الذي حدثَ في الصناعة الكبرى خلال الخمسة والعشرين عامًا الأخيرة"2. لكن هذا لا يمنعنا من أن نرى كيف أن العديد من أفكار البيان ما زالت على صلة بعالمنا المعاصر.
ففي الوقت الذي لم تتجاوز فيه الرأسمالية مرحلة الطفولة بعْد في أوائل ومنتصف القرن 19، كان بيان ماركس وانجلز يتحدث عن نزوع الرأسمالية نحو العالمية ورغبتها العارمة في تجاوز الدول والقوميات. إذ أشار البيان إلى رغبة البرجوازية باكتساح «الأرض بأسرها»3 لكي «تعشعش في كل مكان» مدفوعةً بحاجتها إلى أسواق جديدة تكتسب البرجوازية بها طابعًا عالمًيا4. وقد يكون هذا أقرب وصف لما نسميه اليوم الرأسمالية العابرة للقوميات أو المتعددة الجنسيات التي تديرها شركات عملاقة ذات رساميل ضخمة. وقد بيّن ماركس وانجلز كيف أن نشاط المشروعات الرأسمالية الصغيرة التي كانت تعمل في ظل المنافسة الحرة وقواعد السوق في المرحلة المبكرة من الرأسمالية يؤدي حتماً إلى تركيز رأس المال بيد مشروعات أقل عدداً وتتحول المشروعات التنافسية إلى مشروعات احتكارية. وحين تشير الدراسات والإحصاءات إلى تزايدٍ سريع في عدد المهن والوظائف المهددة بالاندثار بسبب الأتمتة والذكاء الصناعي، تعود إلى الأذهان مقولات ماركس التي تفيد بأن بقاء البرجوازية مرتبط بتثويرٍ مستمرٍ لأدوات الإنتاج، وأن هذا الانقلاب المتواصل في الإنتاج تصاحبه حالة تزعزع دائم في البنى الاجتماعية.
كما يتضمن البيان مساهمات وإشارات عامة أخرى حول الدولة، والقانون، والعائلة البرجوازية، والزواج الأحادي، واضطهاد النساء.
ولهذه المساهمات قيمة كبيرة لدى المفكرين والكُتاب ولدى عامة الناس على السواء. فإذ تشكل هذه المساهمات عدةً نظريةً قيمة للعديد من المفكرين والكُتاب في كل مكان ممن لم ينقطعوا عن دراستها والبناء عليها لكي يتسنى لها أن تكون أكثر صلة بالواقع والحياة، فإنها كانت وما تزال بمثابة الزاد الروحي للكثير أيضاً من عامة الناس ممن دخلَ في ثقافتهم ومعارفهم العامة العديد من المفاهيم والأقوال التي صاغها كارل ماركس مثل:
«التاريخ يكرر نفسه في صورة مأساة أوّلاً، ومهزلة ثانياً»؛
«يمكن قياس تقدم أي مجتمع بموقع المرأة فيه»؛
«الدين تنهيدة المخلوق المعذب، وقلب عالم لا قلب له، وروح شروط لا روح فيها. إنه أفيون الشعب»؛
«الثورات قاطرات التاريخ»؛
«أفكار الطبقة الحاكمة هي الأفكار الحاكمة في كلّ حقبة، أي أنّ الطبقة التي تشكل قوّة المجتمع المادية هي في الوقت نفسه قوّته الفكرية الحاكمة»؛
«حتى الآن قام الفلاسفة بتأويل أو تفسير العالم فقط، والمطلوب تغييره».
لا شك أن الرأسمالية في أيامنا هذه تختلف من نواح ِكثيرة عن تلك التي وصفها ماركس، وبخاصة في عمله الرئيسي "رأس المال".
ففي عهده لم تكن هناك أية قيود قانونية على قوى السوق: لم تكن هناك قيود على عدد ساعات العمل، لم تكن ايام راحة ولا قيود على عمل النساء والاطفال، لم يكن هناك تأمين ضد المرض والبطالة والشيخوخة؛ النقابات المهنية كانت محظورة حسب القانون؛ لم يكن للعمال حق انتخاب، الخدمات الاجتماعية لم تكن موجودة. وحين كتب ماركس «ليس هناك للعمال ما يخسرونه سوى قيودهم» فهذا وصف واقعي لظروف الحياة في حينه.
أما الواقع اليوم في دول الغرب الرأسمالية فهو واقع مختلف من تلك النواحي: فهناك قوانين تقيد ساعات العمل وتحدد أيام عطلة ويوجد تأمين صحي ومخصصات شيخوخة وتعويضات بطالة وتعويضات عن الفصل، يوجد تعليم إلزامي مجاني للجميع، وحق انتخاب عام وتوجد نقابات مهنية وأحزاب تنظم أجزاء واسعة من الطبقة العاملة.
ولكن، في الجانب المقابل، تزخر الرأسمالية بأمراضها العضوية والبنيوية المزمنة على نحو متفاقم. وفي مقدمتها ترد مشكلة البطالة وفيض الانتاج، من ناحية، ومشكلة التباين المستمر والمتزايد في توزيع الدخل القومي، من الناحية الأخرى: فهذه النظم تمتلك طاقات إنتاجية زراعية وصناعية وخدمية هائلة وذلك بفضل التطور الهائل في قواها المنتجة وما تملكه من موارد اقتصادية، وتقدم علمي وتكنولوجي، هذا فضلاً عن الأسباب التاريخية التي أتاحت لهذه النظم السيطرة على الكثير من فوائض الدول الأخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية سواء من خلال الاستعمار أو من خلال التجارة الخارجية. وتعّبر أرقام الناتج القومي في هذه الدول، والذي يًقدر بالترليونات من الدولارات، عن ضخامة الطاقات الانتاجية المبنية فيها. ولكن طريقة توزيع الدخل القومي التي بمقتضاها يذهب الجزء الكبير من هذه الدخل لغير العمال والفئات الاجتماعية الكبيرة عددياً والمؤثرة في مجال الانفاق والاستهلاك تجعل مقدار الطلب الكلي على السلع والخدمات أقل مما يمكن إنتاجه منها، وبالتالي الاقتصار على إنتاج ذلك المقدار من السلع والخدمات التي يمكن بيعها وتحقيق الأرباح منها، لا تلك التي يمكن إنتاجها لتلبية الحاجات الاجتماعية. وفي هذا ضياع لجزء من الطاقات الإنتاجية المادية المتاحة وكذلك وقوع جزء من القوى العاملة في أحضان البطالة. وهذا بالضبط ما قدمّه تحليل ماركس المبكر للاقتصاد الرأسمالي في أواسط القرن 19 حيث بيّن أن الرأسمالية عاجزة بطبيعتها عن ضمان العمل لكل القوى المتاحة، حين بيّن أن القدرات الانتاجية كبيرة ومتزايدة، ولكن القدرة على التصريف محدودة بسبب نمط توزيع الدخل في هذه النظم. وعلى هذا الأمر لا يوجد الآن أي اختلاف أو خلاف بين الإحصاءات التي تقدمها المنظمات الاقتصادية التابعة الأمم المتحدة، وإحصاءات الدول الرأسمالية نفهسا، وكذلك دراسات ومنتديات مفكريها واقتصادييها وصحافتها. فالاختلاف الوحيد بينها يدور فقط حول حجم البطالة وتأثيرها في كل بلد، ومقدار فجوة الدخل بين الطبقات العليا والفئات الأخرى في المجتمع.
وأحب أن أختتم مساهمتي هذه بقول مأثور للمفكر الفلسطيني وعالِم الاستشراق الراحل إداورد سعيد، حين سُئل عن رؤيته للماركسية اليوم: "ثمة حاجة ماسة لإحياء الماركسية كمسألة سياسية وأكاديمية ذات صلاحية في الأزمة الراهنة التي تعصف بالتربية والبيئة والقومية والدين وسواها من المسائل. هذا تحدٌ رئيسي كما أعتقد، وهو عندي سؤال مفتوح، وأجد نفسي معنياً به، ومشدوداً إليه على نحو.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين في باريس خلال عيد العمال.. وفلس


.. على خلفية احتجاجات داعمة لفلسطين.. مواجهات بين الشرطة وطلاب




.. الاحتجاجات ضد -القانون الروسي-.. بوريل ينتقد عنف الشرطة ضد ا


.. قصة مبنى هاميلتون التاريخي الذي سيطر عليه الطلبة المحتجون في




.. الشرطة تمنع متظاهرين من الوصول إلى تقسيم في تركيا.. ما القصة