الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اشتهاء العرب، واختراع الآخر

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2019 / 6 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


اشتهاء العرب ..واختراع الآخر
أسامة عرابي
ينتمي كتاب "اشتهاء العرب" الصادر بالإنجليزية في صيف 2007(ترجمة : إيهاب عبد الحميد ، دارالشروق،2013) لأستاذ السياسة والفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك ، د.جوزيف مسعد ، بعد "آثار الاستعمار: خلق الهوية الوطنية في الأردن ، والإصرار على السؤال الفلسطيني ، وديمومة المسألة الفلسطينية .. إلخ ، ينتمي إلى تيار أكاديمي يدمج في إهابه البحثي بين التاريخ والنظرية السياسية والنقد الأدبي والأنثروبولوجيا وتبيان طرائق استخدام التمثيل المتعددة في ممارسة الهيمنة والتسلط ، أي الجمع بين التأويل النصي والنقد الإيديولوجي الذي تأسى كثيرًا بريموند وليامز وأنطونيو جرامشي وميشيل فوكو ؛ مما ترك أثرًا بالغًا في حقل الدراسات الإنسانية والاجتماعية عبر ساحاته المختلفة :الأدبية والنسوية والإثنية والثقافية مؤسسًا لحقل معرفي جديد هو "نظرية الخطاب الكولونيالي" التي تطورت لاحقًا إلى "الدراسات ما بعد الكولونيالية". لهذا يولي هذا التيار الأكاديمي اهتمامًا كبيرًا بالتحليل التاريخي ، وبإعادة تشكل الفضاء الاجتماعي بما يتيح استيعاب النقلة التي أدت إلى تكثيف الروابط العالمية المتداخلة ، والوعي بماهية الديناميات التي تقود العمليات السياسية والاقتصادية ، وعدم التوازن في علاقات القوة بين الشمال والجنوب ، بله تمييزات القوة داخل الشمال العالمي ذاته . وبذلك استطاع د.جوزيف رصد التحولات التي راحت ترهص بميلاد عالم جديد ينهض على الضم والإلحاق والاستيعاب ، ورفض الآخر وعدم التعامل معه كندٍّ له ونظير ، على النحو الذي عبَّر عنه الشاعر الإنجليزي المعروف "راديارد كبلنج" (1865- 1963) الحائز جائزة نوبل في الآداب عام 1907 بقوله :الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا"؛ تعبيرًا عن المفارقة الكامنة بين السيطرة والخضوع لإرادة القوى الاستعمارية الغازية ، وبين الهوة الثقافية والحضارية القائمة بينهما ، ومانجم عنها من سيرورات صنعت تراتبية روَّجت لبعض الأساطير التي تمحورت حول روحانية الشرق وسحره وغرائبيته ، وعلمية الغرب وعقلانيته ورسالته التمدينية .
من هنا ؛ عني خطاب د.جوزيف مسعد بنقد نظريات الاستشراق ومصفوفته المعرفية التي تأسست عليها شبكته المفاهيمية ، في ارتباطها بهيمنة القوى الإمبريالية المطلقة على العالم التي قامت بإعادة تفكيكه وصياغته بما يحقق المرامي والأهداف الاستعمارية المرجوة منه .
وبذلك تحول الشرق إلى صورة نمطية مختزلة صيرته جسدًا قادرًا على الإغواء ، وبهجة عاطفية لها قدرة التمثيل واختراع الآخر عبر كينونته المغتصَبة وطابعها الإيروتيكي التبسيطي ، على النحو الذي يذكرنا بسؤال "الأمير الصغير" لأنطوان سان أكزوبري للزهرة التي صادفها أثناء تجواله في كوكب الأرض :أين الرجال؟ فتجيبه : الرجال .. لا يعرف المرء أبدًا أين يجدهم .. فالريح تذروهم .. ليس لديهم جذور وذلك يجعل حياتهم صعبة جدًّا "!
غير أن كتاب "اشتهاء العرب" ينتسب إلى الحقل النظري ذاته الذي انطلق منه د.إدوارد سعيد في كتابه ذائع الصيت "الاستشراق"الذي صدر في صيغته الأصلية الإنجليزية عام 1978، مفجرًا فيه المسكوت عنه على المستوى الفكري والتحليلي والإيديولوجي في قضايا الثقافة والحضارة والتاريخ والاستعمار والتحرر منه .. لهذا "امتازت كتابات إدوارد سعيد بالدقة في تناولها للربط بين نتاج المعرفة الأوربية ، لاسيما تلك المتعلقة بالإنتاج الأنثروبولوجي للمعرفة في القرن التاسع عشر ، وبين السلطة الاستعمارية والمشروع الإمبريالي" موضحًا" كيف أن المستشرقين وصفوا الشرق باعتباره "مؤنثًا" ؛ ثرواته خصبة ، ورموزه الأساسية هي المرأة الشهوانية ، والحريم ، والحاكم المستبد ، وإن كان يتميز بالجاذبية في الوقت ذاته ..كما لاحظ إدوارد سعيد أن عددًا كبيرًا من الكتَّاب المستشرقين ، مثل إدوارد لين وجوستاف فلوبير، قد أبدوا أثناء رحلاتهم القصيرة إلى مصر اهتمامًا بالغًا بالعوالم والغلمان الراقصين على الترتيب" كما يذهب د.جوزيف مسعد .
بيْد أن كتاب "اشتهاء العرب" ينحو إلى الكشف عن حضور الذات في التاريخ ، وتقديم سردية تنهض على حكاية الذوات الفردية في تحركها عبر الزمن ، وعلاقتها بجسدها ورغباته ، وكيف تدرك العالم ونفسها .. أو بتعبير د.جوزيف "فالكتاب إذ يسائل بقوة طبيعة المعرفة والإبستمولوجيا الأنثروبولوجية ومناهجها الكولونيالية ، فإنه يرفض بشدة إخضاع موضوع الشهوة عند العرب لمعطياتها ، بل يقدم تاريخًا فكريًّا للسجال العربي حول تاريخ العرب وكيف تحول إلى تاريخ "حضاري" وتاريخ "ثقافي" وكيف أصبحت شهوات العرب الجنسية مركزية لطبيعتهم "الحضارية" و"الثقافية"، وهنا تكمن أهمية الحجة التي يطرحها الكتاب". الأمر الذي حدا بصاحب الكتاب إلى الاحتفاء بما يدعوه "ميشيل فوكو"ب"المهمش" الذي تتحدد حياته بصورة كبيرة من خلال القيم المضادة لتلك القيم الخاصة بالتيار الاجتماعي السائد ( انظر إلى المثليين، وأتباع الديانات غير التقليدية ، والمهاجرين من ثقافات غير غربية) . لذا حرص د.جوزيف على التأكيد على أن "اشتهاء العرب" "ليس تاريخًا اجتماعيًّا للعرب ، وهو بالتأكيد ليس تاريخًا لجنسانيتهم. فالحجج التي يطرحها الكتاب إنما تصر على أن مفهوم "الجنسانية" بحد ذاته هو مفهوم ثقافي غربي وليس مفهومًا عالميًّا ، أي أن الحجة لا تقوم على أن "جنسانية" الغربيين تختلف عن"جنسانية" العرب والشعوب الأخرى ، بل على الإصرار بأن "الجنسانية" بحد ذاتها هي مفهوم غربي كولونيالي ثقافي ومؤسساتي لا يمكن تعميمه خارج الغرب ولا اعتباره سمة إنسانية كما يدعي الكثير من مروجيه".
وهو ما يعني أن الرسالة غير المعلنة عن إعادة إنتاج الترسيمات المتوارثة للخطاب الغربي من دون تمحيص ، تقودنا كما في زمن الاستعمار، إلى تبني إيديولوجيا عنصرية لا تني تمارس التمييز بين الشعوب والأجناس والأقوام ؛ في إشارة إلى التراث الملتبس للأنثروبولوجيا التي تستخدم لخدمة المصالح الغربية بدلًا من أن تقدم مشروعًا إنسانيًّا مشتركًا. لذلك أعان المنظور التحرري الواسع الذي انطلق منه د.جوزيف مسعد على تناول قضايا الاستشراق الفكرية والسياسية ومعالجة التجارب الإنسانية المتعددة المعبرة عن حقها في الوجود والحياة بعد أن تعرضت ردحًا من الزمان طويلًا للطمس والإقصاء ، واقتحام موضوعات ظلت أسيرة الرؤى المؤسساتية المحافظة والخطاب السلفي المعاصر، عاملًا على إعادة بناء نصوصها وقراءتها في ضوء جديد يجلو سياقها وتاريخيتها ، ومن ثم تحليل التمثيلات المختلفة للحب والمجون وأخلاقيات الجنس والإيروتيكية والجنوسية ، ومدى قدرة الأدب على بناء هويات جنسية بتابوهاتها المرتبطة بها في المجتمعات العربية الإسلامية ، وكيف استطاع النص قلب الصور والمعاني بطريقة " تصبح معها الكتابة تعقيدًا لتبادل اللوجوس بالجنس ، ويصبح معه الحديث عن الشبق ممكنًا بصيغة نحوية ، وعن اللغة كخلاعة " بتعبير المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي. ولعل ما كتبه الدكتور جوزيف مسعد عن الحسن بن هانئ "أبي نؤاس" يكشف عن أنطولوجيا شعرية قارَّة ، تعبر عن ناموسها الخاص العابر للسائد ، والمشتبك مع حلمه وتوقه الفاضحيْن للحظته المقموعة .
لهذا تغدو قراءة "اشتهاء العرب" مساهمة في استكشاف العالم الذي نعيش فيه ، وتحريرًا للإشكاليات الفكرية والروحية والفردية والثقافية مما رَانَ عليها من التباس ، وفضحًا لأشكال التحيز والتسلط التي مارستها السرديات الإمبريالية وأرشيفها بحق شعوبنا المضطهدة ، وتحفيزًا على إعادة كتابة تاريخ دنيوي عَلماني يؤمن بالإنسان والحرية والتفاعل ، متجاوزًا المفاهيم الجغرافية الزائفة عن "الشرق" و"الغرب" و"أوربا" ، مؤكدًا حيوية تحديد الواقع داخل إطار التخيل ، بوصفه الشرط الجوهري لوجودنا الإنساني من جهة ، وللأثر الأدبي والفني بما فيه العمل النقدي "واشتهاء العرب جزء منه" من جهة أخرى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا لتفريق المحتجين| الأخبار


.. مؤشرات على اقتراب قيام الجيش الإسرائيلي بعملية برية في رفح




.. واشنطن تتهم الجيش الروسي باستخدام -سلاح كيميائي- ضد القوات ا


.. واشنطن.. روسيا استخدمت -سلاحا كيميائيا- ضد القوات الأوكرانية




.. بعد نحو 7 أشهر من الحرب.. ماذا يحدث في غزة؟| #الظهيرة