الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة / آزاد / سوزان العبود

سوزان العبود
فنانة تشكيلية

(Suzann Elabboud)

2019 / 6 / 27
الادب والفن


                                   " آزاد "

في سجنه الإنفرادي و في يومه الأول تاهت به أحاسيسه .. هدوء قاتل سيطر على المكان .. ذهاباً وإياباً وبتوتر شديد كان يقطع الزنزانة الصغيرة ففكرة بقائه كسجين سياسي  في هذا المكان النتن لسنين طويلة غير محدود الأجل تكاد  تقتلع روحه من مكانها .. تائه خائف تحاصره الآلام الذكريات .. فاقداً رشده بعد دوارٍ شديد ... مستيقظاً ليجد  نفسه ممدداً على الأرض يتنفس بصعوبة وقد داهمته نوبة بكاء تخللها صراخه ... كأنه يناجي روح لتسمعه وتنجده من هذا المصير البائس ..
وكان هذا يومه الاول..
لكن كما كل شئ يبدأ صعباً ثم تبدأ الروح بالألفة والتعود .. الإنسجام ثم التمسك بالمصير المعتم لا بل الإستئناس به ورفض أي واقع آخر ... هكذا قضى سبع من سنينه الأولى في السجن الإنفرادي  يقضي وقته بإسترجاع الذكريات تارة ثم تخيل ذكريات جديدة لم تحصل .. ينسقها .. ينمقها ، ويضيفها الى ذاكرته الجديدة ... ليسترجعها في يوم ممل آخر .. لم تكن الذكريات كنزه الوحيد لا أبدا بل كان عنده كنز آخر أشد رهبة وروعة ... شباك صغير صغير بأسلاك متباعدة تسمح لقليل من نور الحياة بالتسلل وقليل من الهواء النظيف كان هذا كنزه العظيم من خلاله يمكنه التحدث الى الله .. معاتبته .. رجاءه.. و البكاء ناظراً مباشرة للأعلى .. هناك حيث الغيوم والشمس والأرواح التائهة ..
النور الخفيف يطل كل يوم من تلك النافذة المقزمة .. لكن اليوم لم يدخل النور الخفيف ليداعب صمت أحلامه ففتح عينيه محملقاً في النافذة بإستغراب.. ليزيد استغرابه بما شاهده .. طيران جميلان يبنيان عش على نافذته .. بين الفرح والاستغراب .. شعور بالإستئناس لم يشعره منذ سنين.. زائر .. روح هائمة أخرى ...
مرت الأيام وروحه ودموعه وكل جزء من كيانه يحس بالطائران وكأنه تقمص جسد إحداهما... كانا يتبادلا الحب عند سطوع الشمس .. وعند الغروب .. و مع الأيام زين البيض العش الصغير .. وفي صباح أحد الأيام  بدأت فراخ صغيرة  بالنقر على أغلفة البيض تريد أن تخرج لهذا العالم ساكنة مستقرة على حرف نافذة .. بين حدين .. حد من الفضاء اللامتناهي .. وغرفة صغيرة في سجن ...
أصبحت حياته متعلقة بالصغار وأصواتهم وبدأت روحه تتأآلف مع أرواحهم ..
كان بين الصغار فرخ يختلف عن أخوته مميزاً ببياض ناصع ، وكان أيضاً أكثر ألفة من الباقين لذلك استاثر في قلبه حيزا أكبر، وبدأ يعامله معامله خاصه .. فيصيح له منادياً بإسم أطلقه عليه..
" آزاد " يناديه فيطير ليحط قريباً من فمه يفتت له قليل من فتات خبزه  ويمد له شفتيه لياخذ العصفور حصته من الطعام من فم السجين .
ومع الوقت طارت كل الطيور الصغيرة باحثةً عن مصيرها بعيداً عن الزنزانة الصغيرة .. أما آزاد  كان يفرد أجنحته الجميلة يحلق يغيب لساعات ثم يعود لمستقره الأبدي على كتف السجين ..
كان السجين يراقب الطير عندما يفرد الأجنحة الناصعة البياض ويحلق وكأنما روحه تحلق .. يحس بشعور غامر من الحرية اللامتناهية ويبقى أحياناً لساعات طويلة منتظراً الطير ليراه عائدا مفتقداً لروحه ..
وفي أحد الأيام ... بدأ يذرع المكان ذهاباً و إياباً  متوتراً ... يمشي ثم ينظر للنافذة قلقاً لأن آزاد لم يعد ...  أربعة أيام والطير لم يعد كان يجلس ليأكل حصته من قليل الفتات .. لكن لم يكن  يستطع إبتلاع اللقمة لأن آزاد لم يأخذ حصته منها فكان  يتوقف .. يترك الطعام يعود لسريره ملتوياً على نفسه كجنين خائر القوى في رحم معتمٍ مغلق .. ثم يعود ليجلس ويبدأ بالنشيج ..
وفي اليوم الخامس .. كان يفكر بجنون فاقداً بقايا عقله .. كيف سيتأقلم  مرة أخرى ليعيش بدون روحه.. بدون الأمل.. بدون الحب .. سقط مغشياً عليه كما في اليوم الأول الذي سجن فيه ..  فتح عينيه مستيقظاً في ظلامٍ دامس .. مقرراً أن يقطع عن نفسه الطعام ليموت جوعاً ..
إن روحه قد تركته عندما فقد صديقه الوحيد ولم يبقى سوي هذا الجسد المهترئ فلا أسف عليه ..
مرت  أيام لم يعدها ... لم يأكل فيها ولم يشرب حداداً على قلبه الذي فقده .. فجأة علا نور بسيط تتخلله الظلال وأصوات لأكثر من طير ...
طيران بالتحديد دخل أحدهما ووقف على كتفه وكان خائر القوى علي الارض .. لقد عاد .. قال بصوت يكاد يختنق ... لقد عاد ..
شع الفرح مرة أخرى من عينيه لكن الطير فاجأه محلقاً لشباك الزنزانه مشيراً لرفيقته التي تصغره قليلا بالحجم ثم شرعا بدون تباطؤ ببناء عش صغير على حافة الكون  ..
وفي أحد الأيام القريبة امتلئ العش بالبيوض الناصعة ..
لكنه رغم كل الفرح الذي أتى كان يجاهد للتمسك بقراره بفناء جسده ..
كان يريد لروحه أن تتحرر لذا أصر عدم  متابعته لتناوله الطعام حتى أنهكه التعب وأقترب من الموت ... ولم يتبقى فيه الا قليلاً من نظر .. وفي يومه الأخير في هذه الحياة ... حينما بدأت البيوض تفقس .. أغمض عينيه ..  وبهدوء شديد سمح  لروحه الجميلة بالخروج من جسده البالي .. حلقت روحه على مسافة قريبة .. بالتحديد عند النافذة ثم دخلت بهدوء في جسد فرخ يصارع للخروج من بيضته ... وأستقرت بثبات  هناك ..
خلال أسابيع  قليلة ... الطائر الناصع البياض  فرد أجنحته  واقفاً على حرف النافذة ... الحد الفاصل بين الظلام والنور ...
وحلق وحيداً نحو الشمس.

* آزاد باللغة الكردية تعني الحر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث