الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الدفاع عن الدول ورجالاتها... هل نحن فعلاً أخلاقيون كما نزعم؟

أيهم محمود

2019 / 6 / 30
حقوق الانسان


في الدفاع عن الدول ورجالاتها... هل نحن فعلاً أخلاقيون كما نزعم؟

الدولة، أي دولة، تعكس نمط العلاقات السائدة في مجتمعها، هي خلاصة هذا المجتمع وثقافته، لنأخذ قضية التعذيب والإهانة كمثال، ولنسأل أنفسنا: هل الأجهزة الأمنية للدولة شاذة في ممارسته، وبالنسبة للقسم الثوري المزعوم الذي فقس حديثاً: هل التعذيب في قسد أو في سجون جبهة النصرة أو في أقفاص جيش الإسلام في دوما يختلف عن ذاك الذي كنتم تشتكون منه وتملؤون الدنيا كتابات وروايات عنه؟ وهل هو مختلف عما تعرضتم له أم أنه أقبح مما شاهدتموه وخبرتموه.

مجتمعاتنا فاسدة في ثقافتها وغير أخلاقية والاستثناءات فردية قليلة، كل فكر جماعي هو منغمسٌ حكماً في التقية وفي تشجيع جميع الممارسات المخجلة بحق الإنسان الفرد وحرياته، تعطيل العقل وملكة النقد الذاتي - وليس نقد الغير- عبر قرون طويلة عطل إمكانات التفكير السليم فحل بدلاً عنها تقديم النقل على العقل وهكذا تخلينا على القلق الأخلاقي الذاتي لصالح التغطية المجتمعية للأفعال المشينة في حق الإنسان والحيوان والنبات، حررنا أنفسنا من ضميرنا وألقينا المسؤولية تواطؤاً على الدين والثقافة والدولة، أو على أفراد محددين في أجهزة الدولة، هم كبش العيد الذي نفرح بدمه وعذابه حين نريد الهروب من وعدنا بذبح أبنائنا!، وهذا الوعد خاطئ من أساسه لأن الإيمان العميق يقضي أن لا نضحي بما لا نملك، وإن كانت التضحية البشرية واجبة فليضحي الإنسان بروحه لا بأرواح الآخرين التي لا يملكها.

قضايا الفساد والتعذيب وتعميم الإهانات مغروسة في قلب ثقافتنا اليومية، نتبناها ونؤمن بها وكل كلام عن إدانتها هو تقيةٌ واضحة، ومن أفضل مناَ في الإبداع في مصطلح التقية وتمديده ليصل إلى مناطق ثقافية أخرى لم تخطر في عقل من أوجد هذا المصطلح.
قبل أيام شاركت منشوراً على صفحتي يتحدث عن تعذيب "فرج الحلو" وتذويب جثته في الأسيد في عهد الرئيس عبد الناصر، شاركت المنشور ليس إيماناً بفكر الذين يعيدون نشره وهم من خلفية شيوعية أو ماركسية، ولا إيماناً بفكر من يريدون هدم صورة عبد الناصر وهم من خلفيات إسلامية أو قومية أخرى، بل لأنني أريد للجميع أن يرى مسألة التعذيب والقتل نفسها ويراجع بها نفسه لا أن يحمل مسؤوليتها للآخرين.

مجرد الانتماء إلى ثقافة ما، دين، فلسفة، حزب ...، يعني أنك أمام أمرين لا ثالث لهما:
أولهما أنك تجهل ما فيه، أو تجهل البعض المهم مما ورد فيه، وفي الحالتين، نقص الكل، أو نقص الجزء، يقوض فكرة الانتماء من أساسها ويحولها لفكرة غرائزية قطيعية سابقة على مسألة الوعي البشري، وسابقة على مسألة الثقافة، وعلى اختراع الكتابة التي نتبادل من خلالها هذه الأفكار الآن، لا انتماء أبداً مع وجود الجهل.

ثاني الأمرين، بفتح الراء أو تشديدها، يعني أنك مدركٌ لما ورد فيه، موافقٌ أخلاقياً على أسلوبه في التعامل مع البشر ومع حياتهم وأحوالهم، مشاركٌ فعّال في مضمونه، فهل كان الذين يدينون تعذيب الإنسان "فرج الله الحلو" يفعلون ذلك إدانةً لمفهوم التعذيب أم هم فقط يشوهون خصمهم التاريخي؟

الجواب على هذا السؤال موجود في أدبياتهم وفي منشوراتهم، مجرد الاحتفال بشخص مثل "ستالين" والوجه المخفي حُكماً له "بيريا" يعني أنك موافق على هذا الأسلوب وأن قضية تحسسك من مسألة إنسان فقد حياته تحت التعذيب لا تنطلق من جانب أخلاقي فيك بل من جانب الحرب السياسية مع الخصم، إذ لا يمكن عقلياً أن تجتمع إدانة رئيس دولة بمقتل فرد واحد مع تهنئة آخر بإعدام وتعذيب وتشويه مئات الآلاف.

الآن نعود لـ "بيريا" تحديداً، الذراع الضاربة لستالين الذي شوه وقتل عدداً هائلاً من معارضيه ولن أخوض في الأعداد لأن هذا الأمر المخزي موجود في كتب التاريخ، "بيريا" الذي كان يخشاه ستالين نفسه والذي قتله بالسم فيما بعد حين صحا بعضٌ من ضمير ستالين –أو ربما نقص بعض جهله- وأراد القيام ببعض الإصلاحات في بنية الدولة، "بيريا" أبو الفساد ليس في الاتحاد السوفييتي السابق فقط بل في كل الدول في منطقتنا التي تدربت أو أُعجبت بالنموذج الروسي في إدارة أنظمة الفساد والمافيا، أهم إبداعات "بيريا" هي تجميع معلومات الفساد عن المسؤولين الحكوميين والشخصيات المؤثرة في الدولة وعدم طرح هذه الملفات إلا في حال ظهور تمرد من هذه الشخصيات على أشخاص في الدولة عندها يتم فتح هذه الملفات ومحاكمة هؤلاء الأشخاص وتشويه سمعتهم لذلك شاركه الكثيرون في قتل ستالين بالسم، وأظنكم تعلمون الآن عن "بيريا" وتعلمون مدى أخلاقية من يحتفل بعيد ميلاد الرفيق "ستالين" ويذم الرئيس جمال عبد الناصر في قضية إخفاء وتعذيب الإنسان "فرج الحلو".

نترك الآن اليسار وننتقل للجانب الديني، في مسألة التعذيب حصراً والتي تؤلف قسماً مهماً من أدبيات التيارات الإسلامية والمتعاطفين معهم حين يدور الحديث عن معاناتهم في السجون وعن التنكيل بهم، وقبل البدء في تفنيد أفكارهم نشير أن الجميع موافقين ضمناً عبر العهد القديم وعبر عشرات النصوص والممارسات الموثقة في الوثائق الإسلامية بأن التعذيب والضرب والتشويه هي ممارسات جائزة يوافق عليها المجتمع ولا يجب إدانتها بأي حال من الأحوال إن كانت تُمارس على الآخرين أو على الجانب الأضعف "عضلياً" في المجتمع والذي يمكن نظرياً ممارسة التعذيب عليه وإهانته دون خطر رد فعل عضلي آني يرهبنا ويمنع هذه الممارسة، "تشريع ضرب النساء مثالاً" والموافقة الضمنية على ضرب الأولاد ومعاقبتهم جسدياً مثال آخر شائع ولو لم يكن فيه نص شرعي، لا خلاف بين كل الأديان السماوية في هذه المسألة ونصوص العهد القديم والنصوص الإسلامية واضحة جداً ولا تحتاج الكثير من التأويل، والأهم من ذلك أنها ممارسات متواترة شائعة بل هي موضع فخرٍ وتباهي، ويذهب البعض في اتجاهات متقدمة في هذه المسألة ويعتبرون أن شتم المخالف وإهانته ولعنه لفظياً واجب ديني يؤمّن الثواب لصاحبه، ومن هنا فإن أدبيات السجون الدينية -وهي ليست محصورة بالإسلاميين كي لا نظلمهم- مجرد حرب سياسية مع الخصم وليست إنسانية طارئة سقطت فجأة على هؤلاء الناس.

من يمارس التعذيب هم أبناؤكم من كل المناطق والاتجاهات والأديان، تفتخرون بهم اجتماعيا، وتتطلبون مودتهم وصداقتهم، ولا تسألون عن سبب تغير أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية وما هو الثمن الذي دفعوه أخلاقياً وإنسانياً من أجل الحصول على هذا التميز، أنتم جميعاً مشاركون في أفعال التعذيب والإذلال والقهر ولا تنتفضون إلا عندما تكون ممارسة هذه الأفعال على أولادكم وأقربائكم أو عليكم أنتم شخصياً، التعذيب لا يتعلق هنا بنزع الاعترافات بل بالحقد والثأر والتشفي ولا فرق هنا بين يساري أو ديني، يتوقف التعذيب في المجتمعات البشرية حين يصبح فعلاً أخلاقياً مداناً لذاته وليس بسبب تطبيقه علينا، لذلك كل الأدبيات التي تفضح التعذيب وتنطلق من طرفٍ مسيس أو من طرفٍ ينتمي لاتجاه ديني أو قومي ما هي باطلة إنسانياً لكنها تفيد في توثيق هذه الممارسات وفضحها من أجل أن يأتي جيلٌ جيد يعرف الحقائق ويعرف أي جحيم مرّت به البشرية هنا قبل أن تتمدن وتتحضر.

مسألة التعذيب، مسألة واحدة من عشرات المسائل الأخرى التي تُسقط النظريات المتداولة أن التغيير السياسي أو إسقاط أشخاص في الدولة يغير واقع الحال القميء الذي نعيش فيه الآن، ربما سيكون القرن القادم قرن سقوط الأحزاب بوصفها كيانات لم تعد صالحة لتحمل راية التغيير الإنساني، نحن نواجه عالماً رقمياً بلا حدود ولم تعد المسائل الكبرى أسيرة حراس الوعي وحراس الأحزاب وفلاسفتها ومنظّريها، لدينا اليوم مشهدٌ عام يختلف جذرياً عما عرفته البشرية في القرون الماضية، وكما حطم التقدم الحدود الإقطاعية وأنشأ الدول بمفهومها الحديث ستحطم التغيرات الثقافية والتكنولوجية حدود الدول وتسحقها كما فعلت مع الحدود الإقطاعية وهذا يتطلب حتماً نوعية أخرى مختلفة من التجمعات البشرية ليس من ضمنها الأحزاب لأنها غير قادرة على التكيف مع حدود مفتوحة ومتغيرات أسرع من طاقتها على الهضم والاستيعاب، اليوم نشاهد سقوط مرحلة تاريخية كاملة كما شاهدنا خلال سنوات حياتنا الانتقال من عصر بلا أدوات رقمية إلى عصر تتحكم فيه أنظمة الاتصالات والشبكات وتدفق المعلومات، ولمن فقد ذاكرته ننعشها بقولنا أن كل هذه التغيرات حدثت في أقل من خمسين عاماً، لقد تغير وجه البشرية على الأبد خلال خمسين عاماً فقط فلا تلوموا الأحزاب التي ما زال قادتها يصارعون من أجل بقائهم أو من أجل توريث أبناءهم مكانهم حتى لو لم يضم حزبهم العظيم هذا إلا بضع عشرات من الأفراد.

نعيد السؤال الآن: هل نحن أخلاقيون فعلاً؟ وهل فساد بعض رجالات الدول لا يمثل ثقافتنا اليومية؟
الجواب بالنسبة لي واضح جداً، فهل سيكون في يوم من الأيام واضح لكم؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب العلوم السياسية بفرنسا يتظاهرون دعمًا لغزة


.. علي بركة: في الاتفاق الذي وافقنا عليه لا يوجد أي شرط أو قيود




.. خليل الحية: حققنا في هذا الاتفاق أهداف وقف إطلاق النار وعودة


.. البنتاجون كأنه بيقول لإسرائيل اقتـ.لوهم بس بالراحة..لميس: مو




.. مستشار الرئيس الفلسطيني: المخطط الإسرائيلي يتجاوز مسألة استع