الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قواعد اللعبة

محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.

(Mohamed Elfeki)

2019 / 7 / 3
الادب والفن


في فيلم (سبعة، 1995) للمخرج الأمريكي ديفيد فينشر، يبدأ خيط اكتشاف القاتل بحصول المحققين البوليسيين (مورجان فريمان وبراد بت)، وبطريقة غير شرعية، على قائمة قارئي الكتب المشبوهة؛ تلك القائمة التي تعدها –سراً- وكالة المباحث الفيدرالية، والتي تتتبع فيها الكتب "الخطيرة" التي يستعيرها رواد المكتبات العامة في أمريكا. إذن، يبدأ خيط اكتشاف القاتل نتيجة غش في قواعد اللعبة؛ اللعبة التي تقوم -كما في كل فيلم بوليسي كلاسيكي- على الصراع ما بين محو الآثار في المدينة الكوزموبوليتانية، وما بين اكتشافها. لكن التمكن التام من قواعد اللعبة والحرفية العالية للقاتل في فيلم (سبعة) تغريه بتخليف آثار -عن قصد وتصميم- تقود إلى الجرائم التي يرتكبها. هذه الآثار التي يخلفها القاتل وراءه تبعد عنه الخصوم، في نفس توقيت -وبنفس مسافة- اقترابهم من جثث ضحاياه، لولا الغش! الغش الذي يمارسه المحققين البوليسيين، والناتج عن إدراكهما لتفوق القاتل المهني عليهما، ويأسهما من الإمساك به إن ظلا على التزامهما بأصول اللعب، فيستعينا بأداة من خارج قواعد اللعبة، ليظل القاتل في (سبعة) هو وحده من يلتزم بقواعد اللعبة حتى النهاية.

غش مورجان فريمان وبراد بت كان غشاً في قواعد اللعبة من خارج اللعبة، لكن هناك غش أخطر هو الغش من داخل اللعبة؛ غش المحترف المتمكن، غش المهني الذكي الذي استوعب القواعد ويحور غاياتها لمنفعته. قد تعبر عن هذا النوع المغالطة المنطقية الرواقية القديمة بين المعلم بروتاجوراس وتلميذه أواثلس؛ حيث اتفق الأول أن يعلم الثاني فنون الترافع أمام المحاكم الإغريقية لقاء مبلغ معين من المال، على أن يدفع التلميذ لأستاذه بعد أول قضية يترافع فيها ويكسبها. لكن التلميذ ماطل في الدفع، وحاجج بأنه لم يترافع بعد أمام المحكمة ولم يكسب أية قضية، فما كان من بروتاجوراس إلا أن أخبره بأنه سيرفع عليه دعوى لدفع ما عليه من مال، وسيكون على أواثلس أن يدفع حتماً: لأنه إذا حكم عليه القضاة بالدفع فسيتوجب عليه الدفع وفقاً لقرار المحكمة، وإذا لم يُحكم لصالحه، فإنه يتوجب أيضاً أن يدفع، لأن التلميذ عندئذ سيكون قد كسب أول قضية يترافع فيها أمام المحكمة. لكن التلميذ النجيب أجاب أستاذه بأنه لن يدفع في كلتا الحالتين: فإذا لم يَحكم عليه القضاة بالدفع فإنه لن يدفع بناء على قرار المحكمة، أما إذا حكموا عليه بالدفع فإن هذا يعني أنه قد خسر أول مرافعة له، ولا يكون -وفقاً للاتفاق بينهما- ملزماً حينئذ بالدفع.

هيروهيتو (1901-1989)؛ إمبراطور اليابان، يخطب في شعبه عقب إلقاء أميركا للقنبلتين النوويتين على هيروشيما وناجازاكي، وبصوت إمبراطوري مختنق، يقول في الإذاعة،: "بقلب يملؤه الحزن، أعلن استسلامي واستسلام اليابان، فقد واجهنا اليوم ما لا قِبَلَ لنا به"، العبارة صارت أيقونة مدرسة الواقعية في العلوم السياسية. الإمبراطور أدرك أن أميركا غيرت قواعد اللعبة، وأن القواعد الجديدة قواعد مجنونة، لا يبررها أي هدف سياسي ولا عسكري، وأن من العبث الإنساني الاستمرار في لعبة الكاوبوي النووية التي ستمحو اليابان من على كوكب الأرض لا محالة. لكن اليابان ستعود لتغزو أميركا بعد أن تتغير قواعد اللعبة فتصير قواعد اقتصادية، ستغزوها في مكامن فخرها الصناعي؛ صناعة السيارات، والإلكترونيات، والبرمجيات، والسينما. إن أعظم إنجازات اليابان بدأت بالتسليم بالهزيمة، بالتسليم بانتصار القوى المضادة، برفض الاستمرار في اللعب.

الفيلسوفة الألمانية حنة أرنت (1906-1975) تقول في كتابها (في العنف): "إن دافعي للقبول بقواعد اللعبة هو رغبتي في اللعب، إن كل إنسان منا قد ولد في جماعة لها قوانينها المرسومة سلفاً، ومفروض عليه طاعتها منذ البداية، لأن ليس أمامه أي طريقة أخرى لدخول لعبة العالم، قد يحدث لي أن أرغب في جعل نفسي استثناء كما يفعل المجرمون، أو قد أرغب في تبديل قواعد اللعبة كما يفعل الثوريون."

لا أعرف من رغب طيلة حياته المهنية في تبديل قواعد اللعبة السينمائية أكثر من المخرج الياباني الكبير ياسوجيرو أوزو (1903-1963)، الذي بدَّل كل القواعد الكلاسيكية في السينما؛ من الدراما، إلى الممثلين، حتى التصوير وطريقة المونتاج، مصراً على جعل الفن السينمائي شيئاً أكبر من الواقع، منتهجاً أسلوباً سينمائياً يشبه تصلب الموتى. أوزو لم يصور طيلة حياته المهنية إلا بعدسة مقاس 50 مم فقط، ولم يحرك الكاميرا أبداً في أي من أفلامه، واقتصر على استخدام حاملين للكاميرا؛ مقاس 30 سم للقطات البعيدة، و 90 سم للقريبة، وأصر على تكرار موضوعاته، وموتيفاته، وديكوراته، وقام بتثبيت طاقم ممثليه وفنييه في كل أفلامه، ولم يقم بتغيير أياً منهم إلا بسبب تغييب الموت لأحدهم.

أوزو يبدو وكأنه حالة مناقضة للمخرج الإيطالي فدريكو فيليني؛ ليس فقط في أسلوبه البصري، ولكن أيضاً في موضوعاته الأثيرة، ورؤيته للعالم، فأوزو –على نقيض فيليني- لم يتناول سيرته الذاتية أبداً في أي من أفلامه، التي كانت كلها تدور حول موضوع واحد فقط لا يتبدل –وهو بالمناسبة موضوع غير شخصي، لا علاقة له بأوزو على الإطلاق، ولم يخبره بنفسه طيلة حياته أبداً-، ألا وهو علاقة الأبناء بالآباء في شدها وجذبها، وخيبات أمل الآباء في أبنائهم، الذين يبدون وكأنهم يقتلون "الأب" أثناء محاولاتهم الاستقلال والتحرر من السيطرة الأبوية.

هناك كتاب لا يتورعون عن "قتل الأب" في سبيل ما يعتقدون أنه الحق والجمال، كتاب ثوريون يكسرون القواعد، وتابوهات الكتابة، ويثورون حتى على مثلهم العليا ذاتها. هم "انقلابيون"، إن جاز سحب التعبيرات العسكرية إلى ساحة الثقافة. والانقلابيون ليسوا كثراً على مر التاريخ، أحبهم إلى النفس: كافكا، ودوستويفسكي، وجيمس جويس، ونيتشه، وهنري جيمس، وأنتونان آرتو، وكاواباتا، وفرناندو بيسوا، وهرمان هسه، ومارسيل بروست، وإدجار آلان بو. الكتاب الانقلابيون يستعملون تقنية الانقلابات محاولين الفكاك من العُصبة التي تربطها سلسلة واحدة، ساعين بدائب وبوعي لتجاوز القواعد. الانقلابيون يَهدمُون المَبنِي، ويبنون المُهَدَّم، ويَهدمُون المُهَدَّم، ويَبنون المَبنِي، لكنهم لا يتركون المُهَدَّم ولا المَبنِي على حالهما، وإذا ساروا على قاعدة، فذلك لأنها في نظرهم لا تستحق المغامرة بالخروج عليها. الأصوليون يلزمون القواعد فيكتبون للريح، والانقلابيون يطيحون بالقواعد مستهدفين الروح. راسكولنيكوف بطل (الجريمة والعقاب) يقول: "الالتزام بقواعد الجمال أول علامات العجز."

للكاتب الانقلابي شهية وحشية تستمتع بالتلاعب بالقواعد، شهية شرهة لا تقدم أبداً أي دلائل على الشبع. وله مُستحكَم لا سبيل للخلاص منه. ويواظب الانقلابي على كسر القواعد بانتظام، فيصير كسرها هو النظام، ويعود ليكسر المكسور من جديد، متأرجحاً بين التطرفات كتأرجح سفن وسط الأمواج، سفن غايتها الإبحار لا الرسو، ويظل الإبحار هو الفضيلة، لأنه بالنسبة للانقلابي ضرورة، وكضرورة غسل الجسد من القذارة، ينظف الكاتب الانقلابي غبار القواعد المتجمع على سطح الكتابة. الكاتب الانقلابي يكتب من أمامه لا من ورائه، وهو يجاهد لكي يصير لاشيء، أي ليس كمثل شيء آخر، تأكيداً لوجود حر متفرد، وليس تعبيراً عن وجهة نظر "سلعة". لمصطفى ذكري عبارة جميلة تقول: "الكاتبُ هو غادرٌ بلياقاتِ مهنتهِ، مُشهِّرٌ بنوافلها، وبروتوكولاتها، مُكتّفٌ بزهدِ سُنَّة قلمه."

في فيلم (أجمل سنوات حياتنا، 1946)، المخرج الأمريكي وليم وايلر (1902-1981) يغدر بالقواعد، مرة أولى، من خارج اللعبة السينمائية؛ فيختار (هارولد راسل) ليلعب دور جندي أمريكي عائد من الحرب العالمية الثانية مبتور الذراعين من إصابة حرب، ويعلم المشاهد -من الدعاية المصاحبة للفيلم- أن هارولد راسل هو فعلاً جندي أمريكي مبتور الذراعين من إصابة حرب، فيتعاطف المشاهد مع الممثل غير المحترف تعاطفاً فورياً لأسباب إنسانية لا علاقة لها بحرفية مهنة التمثيل. ويصل التعاطف إلى ذروته فيُمنح راسل جائزة أوسكار أفضل ممثل عن دوره في الفيلم. لكن غدر وايلر ببروتوكولات المهنة لا يتوقف عند هذا الحد، ولو توقف لما كان مخرجاً كبيراً بحال، فيقوم بما يشبه "نفي النفي"، فيغدر مرة ثانية، من داخل قواعد اللعبة السينمائية هذه المرة، مُلغياً الغدر الأول بغدر ثان، مستخدماً إمكانيات السينما (على نحو سلبي، تعطيلي) في إضفاء مسحة حيادية متسامية على عاهة الممثل، في تلجيم الكاميرا ومنعها عن كشف العاهة -وهو المشهور بلقطاته القريبة الكاشفة للتعبيرات الدقيقة للممثل وجسده-، فلا يُبقي إلا على الصفاء الرائق لحالة الإعاقة كوجود منزوع عن ميلودراميته. وحتى المشهد الوحيد الذي يخلع فيه راسل جهازيه التعويضيين لتنكشف عاهته أمام الكاميرا (الجمهور) وأمام حبيبته، يستثمر فيه وايلر، بوعي وبحرفية رائعة، كل قدراته وأدواته كمخرج ليُصفيه من أي ميلودرامية، أو اشمئزاز، أو حرج، فالمشاهد يتوحد مع البطل على الشاشة ويصبح هو والبطل ذاتاً واحدة، وايلر يعلم ذلك تمام العلم، وما أراده في الحقيقة كان أن يعفينا (نحن المشاهدون) من أي حرج من أنفسنا، من أي اشمئزاز من عاهاتنا.

في واحدة من أجمل الروايات "القصيرة" لدوستويفسكي (1821-1881)؛ (الزوج الأبدي)، يقلب دوستويفسكي أحد أهم قواعد لعبة المثلث الفرنسي الشهير في الدراما (الزوج-الزوجة- العشيق) رأساً على عقب؛ بأن يبدأ الرواية بالإطاحة بأهم ضلع في المثلث (الزوجة)، التي تبدأ أحداث الرواية وقد توفيت بالفعل. ولا يتوقف جموح دوستويفسكي عند هذا الحد -وهو يدير طيلة الرواية صراعاً ما بين الزوج وبين العشيق-، بل إنه يجعل الزوج هو من يشعر بتأنيب الضمير تجاه العشيق! الذي لا ينفك يسرق من الزوج كل حبيبة محتملة ويفسد عليه كل زواج جديد. في (الزوج الأبدي) يقدم دوستويفسكي "بطلاً" سيصير فيما بعد "نموذجاً" في علم النفس –كما صار عدد من "أبطاله" الآخرين نماذجاً في علم النفس -، حيث سيصبح "بافل بافلوفيتش" نموذجاً لنوع معين من الأزواج ليس لوجوده بأكمله من مبرر إلا أن يكون زوجاً لزوجة خائنة لم تُخلق بدورها في الحياة إلا لكي تخون زوجها. يصف دوستويفسكي "بافل بافلوفيتش" بأنه: "لا يولد ولا ينمو إلا ليتزوج ويصبح تتمة لزوجته التي تخونه، ويمكن تمييزه بملاحظة علامة معينة هي زينة على رأسه؛ حيث يستحيل عليه أن لا يكون له قرنان، كما يستحيل على الشمس أن لا تضيء."

الفيلسوف الألماني الكبير فريدريش نيتشه (1844-1900) كان يحمل تقديراً عظيماً لأدب دوستويفسكي، وكان هو نفسه يتميز أيضاً بما كان يقوم به دوستويفسكي في أدبه باستمرار ويمكن تسميته (قلب المنظورات) أو (تحويل القيم). نيتشه هو المشهور بعبارات من قبيل: "ينبغي الدفاع دوماً عن الأقوياء في مواجهة الضعفاء" ، و"الضعفاء يهزمون الأقوياء" ، و "المتواضع هو إنسان يسعى لأن يمجده الناس" ، و"المرض هو قناع للصحة العظيمة" ، و"الصحة قناع للمرض" ، و"الجنون قناع للمعرفة."

الأديب الأيرلندي الكبير جيمس جويس (1882-1941) –أحد المعجبين الكبار بدوستويفسكي أيضاً- ربما لم يوجد أكثر منه كسراً لقواعد الأدب الكلاسيكي، واللغة أيضاً، للدرجة التي يوجد فيها لروايته العظمى (عوليس) قاموساً خاصاً للغتها الإنجليزية. جويس -الذي كان عمله ثورة حقيقية كبرى في عالم الأدب- كان على النقيض في حياته الخاصة. كان يتعلق بالحياة المنظمة المغلقة أثناء منفاه الاختياري في باريس في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وكان دائماً ما يتجنب تجمعات الأدباء والفنانين، ويتجنب الأماكن العامة، ويلازم شقته الخاصة، والتي كان يحرص من وقت لآخر على تغييرها بأخرى في مكان مختلف. كان جويس يعاني من اشتداد ضعف بصره في تلك الأيام، ولا يتناول عشاءه إلا في مطعم "تريانون"، وأحياناً قليلة في مطعم آخر بجوار نهر السين وبرج إيفل. كان لا يستقبل في بيته إلا عدداً قليلاً جداً من المعارف، وفي أوقات محددة، وعلى فترات متباعدة جداً. وإذا اقتُرح عليه التعرف على فنان أو أديب من سلالته، ووافق بعد طول ممانعة، حرص على إجراء تحريات مستفيضة عنه. كان صموتاً منصرفاً كلياً إلى عمله، لا ينخرط في حياة باريس الصاخبة التي لم يستسيغها طيلة عشرين عاماً من الإقامة فيها. مُسوَّرٌ بسور الذات العظيم، بتعبيره هو: يحيا بأسلحة "الصمت والمنفى والحيلة"؛ أسلحته التي يتباهى بها. عندما يُسأل عن رأيه في باريس الفائرة بالمتع والحرية والحركات الفنية الطليعية، يقول: "لا بأس بها، مدينة مريحة". هكذا فقط! كانت مريحة له لأن أهلها -على خلاف الأيرلنديين والإنجليز- لا يتدخلون في شؤون غيرهم، لا يعيرونهم انتباهاً، كانت باريس بالنسبة له مدينة عزلة مثالية.

كان جويس يعاني من هواجس عنيفة بأن حياته مهددة بالخطر إذا ما عاد إلى مسقط رأسه. القلة من المحيطين به في باريس لم تفهم دوافع هذه الهواجس، لكنها تعاملت معها كجزء غامض من شخصية أديب سوبر. وحدها زوجته نورا كانت تدعم هواجسه، ربما قد صارحها بحادث وقع في شبابه في دبلن يسوغ هذه المخاوف. يقال إن جويس كان شقياً بجنون في شرخ الشباب، شقياً ومفلساً ورومانسياً يخلق العداوات أينما سار. يروى أن شخصاً دخل مكتبة في دبلن وسأل عن نسخة من (عوليس) وعندما أجابوه بالنفي، قال: "الأفضل لمؤلف هذا الكتاب ألا تطأ قدمه أرض هذا البلد!"، الحكاية وصلت لجويس وزادت من قناعته بأنه مُستهدف.

علاوة على هواجس "الاستهداف"، قد يكون تعلق جويس بالحياة المنظمة والمغلقة هو رد فعل للبوهيمية والصعلكة التي عاشها قديماً في دبلن، ورعب من وصف هيمنجواي لمدعي الفن والأدب بأنهم: "ينامون طيلة النهار، ويلهون طيلة الليل"، كذباب على أحفة كؤوس شمبانيا. كان يرغب بشدة في عمل شيء حقيقي وجاد فتجنب كل العلاقات التي يمكن أن تعيقه عن العمل في غرفته السرية التي لم يدخلها أحد؛ الغرفة المليئة بتلال الكتب والصحف القديمة.

الحالة المناقضة لكسر قواعد اللعبة يمكن العثور عليها مثلاً في مسرح الـ "نو" الياباني؛ وهو من المسارح التي تأسست على مفهوم الخبرة. عراقة تقاليده ترجع إلى سبعمائة عام خلت، والممثلون في مسرح "النو" يتم تدريبهم من سن الخامسة حتى الخامسة والثلاثين، وكلهم من الذكور، فلا يُسمح للإناث بالتمثيل، وأدوار النساء يقوم بها ممثلون ذكور. ممثلو مسرح "النو" يقضون ثلاثين عاماً من التدريب المتواصل على أداء ثلاثة أدوار فقط: المحارب، والمرأة، والرجل العجوز. وبالوصول لسن النضج المهني، يكون الممثل قد تخصص في أحد هذه الأدوار، ويرافق التدريب قراءة متعمقة ومستمرة لتعاليم الأب الروحي لهذا المسرح؛ زيامي (1363-1443)، الذي وضع كتاباً ضخماً، إلى الحد الذي يُوصف بأنه أكبر كتاب إرشادي مهني عن فن التمثيل وجد على الأرض، الكتاب اسمه(إرشادات عن الزهرة)، والزهرة مفهوم يصعب تعريفه إلا بقراءة الكتاب قراءة متعمقة، ويلزم كذلك معرفة تعاليم طائفة "الزن" الدينية اليابانية المتشبع بها زيامي، لكن يمكن تقريب المعنى بالقول إن الزهرة المقصودة تعني: "تقنية التعبير عن ما هو عميق وجوهري بنفاذ بصيرة وجمال يسلب لب المتفرجين، وذلك برعاية مكثفة ومستمرة للمهارة، بالتدريب والغربلة الدقيقة للخطأ والصواب."

كتاب (إرشادات عن الزهرة) عبارة عن مجموعة ضخمة من المقالات السرية، ممنوع تداولها علانية أو خارج دائرة ممثلي "النو". زيامي يقول: "المهنة تجني فائدة أكبر بالاحتفاظ بأمورها سرية". لكن الكتاب تسرب في القرن العشرين، ككل ما تسرب في القرن العشرين، ومن يطلع عليه يجد أنه كتاب روحي بامتياز، وليس فقط كتاباً حرفياً لجني المهارة والصفاء في فن التمثيل، فالكتاب قد صمم ليلازم ممثل "النو" منذ الطفولة حتى الممات؛ تعهد للممثل بالرعاية الحرفية المكثفة والمستمرة لمهارته، وتعهد روحي للإنسان الذي ينفق عمره في التدريب بكشف قيمة الحياة، وقيمة الفن، من فنان متشبع بتعاليم "زن"؛ تعاليم الحقيقة التي تكمن في قلب الأشياء.

ممثل "النو"، كممثل "الكابوكي" أيضاً -وهو النوع الذي يمكن أن نطلق عليه النوع الشعبي من "النو"- لا يمكن أن يصبح نجماً بين يوم وليلة، مستحيل، ولا بطلاً لمسرحية بين يوم وليلة، مستحيل، فممثل "النو" عليه أن يكافح بصبر عتيد مع جمهور عنيد، جمهور ناقد، عارف بتقنيات المعلمين الكبار الذين حملوا الشخصية على أكتافهم وشاهدهم على المسرح من قبل، جمهور يحفظ المسرحيات عن ظهر قلب، لكنه يحضر ليشاهد تقنية الممثل وينقدها، جمهور لا يحكم على مشهد واحد، ولا على عرض واحد لمسرحية، بل يُقيّم الممثل بناء على تراكم العمل على مدى الحياة، على مجموع الأعمال الكاملة للممثل، مقارنة بالأعمال الكاملة لغيره من الممثلين، جمهور لا تشتت انتباهه بهرجة الأزياء، ولا فتنة الجسد، إن لم تراع القواعد التي يعرفها بشكل صحيح، جمهور يبحث عن البهجة العقلية، عن الأسلبة، عن التحليق على الحد الفاصل بين الواقعي والخيالي، جمهور مُشبّع بالخبرة، لا يُصدر أحكامه الجمالية وفقاً للموضة، جمهور يستمتع بالكدح الذي يبذله الممثل، وترشف عيناه عرق الخبرة، ببطء، وتلذذ، كنبيذ مُسكر. وفقاً لفلسفة مسرح "النو"؛ المهنية هي آخر ومضة بطولية في أزمنة الانحطاط، الفعل البطولي الوحيد الباقي للإنسان البائس، إرادة بطولية لا تُقدم أي تنازلات لحمى الاشتهاء السلعي، ولا تُسَلّم لضيق الأفق، ولا للبست سيلر، إرادة تَسيرُ وراء تزمتها المعياري كما سار موسى خلف العصا.

مازلت أذكر مشهداً في فيلم أميركي تجاري متوسط المستوى بعنوان (اللهيب المرتد، 1991) للمخرج رون هاورد، تستجوب فيه إدارة المصحة العقلية مُشعل الحرائق دونالد سذرلاند، الذي يتذاكى بمحاولة ادعاء الحالة الطبيعية، وتكاد اللجنة أن تقتنع بصلاح حاله وتلاشي ميوله التدميرية، لكن المحقق الذكي روبرت دينيرو، الصامت حتى هذه اللحظة، يتدخل في الوقت الحاسم بسؤاله: "ما هو الشيء الأكثر إلحاحاً الذي تتمنى فعله إزاء العالم؟"، السؤال مصاغ بمكر شديد، سؤال يضع مُشعل الحرائق السابق في مواجهة مع مهنيته، يبتسم أخيراً سذرلاند ابتسامة تسليم وهو ينظر لدينيرو موقناً بهزيمته، وينطق بالإجابة التي يعلم أن فيها استمرار حبسه: "أن أحرق العالم عن بكرة أبيه!".

المخرج الكبير ألفريد هتشكوك (1899-1980) من طينة تحب القواعد وتحترم السير عليها والالتزام بها. لهتشكوك فيلم بعنوان (درجات السلم الـ 39، 1935)، وهو من أجمل أفلامه في مرحلته المهنية في بريطانيا، وسيكرره فيما بعد بتنويعات مختلفة عندما يستوطن هوليود؛ أشهرها على الإطلاق فيلم (الشمال إلى الشمال الغربي، 1959). في آخر خمس دقائق من فيلم (درجات السلم الـ 39)، يجري مشهد النهاية على خشبة مسرح للمنوعات: مستر ميموري يستعرض قدرات ذاكرته الخارقة، ويجيب عن أسئلة في المعلومات العامة يلقيها عليه جمهور الصالة، مظهراً براعة في التذكر مهما كان السؤال بعيداً أو صعباً، هذه مهنته ومكمن فخره، ويظهر هذا الفخر والتعالي على ملامحه الواثقة وهو يعتلي خشبة المسرح. هنا، ينتهز البطل الفرصة فيقف ويسأله بصوت عال أمام رواد المسرح: "مستر ميموري، هلا أخبرتني عن معنى الدرجات الـ 39؟". فجأة، يصبح مستر ميموري أمام اختبار عصيب للمهنية، هو يعلم الإجابة، لأنه أحد أفراد العصابة التي تطارد البطل. يلح البطل في السؤال، وأخيراً، يتخذ مستر ميموري القرار؛ الانتصار للمهنية، الانتصار للحرفية، فينطق وهو على خشبة المسرح أمام جمهوره بالإجابة التي يعلم أن فيها حتفه: "إنها عصابة من الجواسيس التي تجمع معلومات لصالح وزارة خارجية دولة ... "، ويتلقى من فوره الرصاصة القاتلة من رئيس العصابة الذي يجلس في شرفة المسرح.

لا المشهد، ولا شخصية مستر ميموري، لهما وجود في رواية الكاتب جون بكان -التي أعد هتشكوك عنها الفيلم-، ويقول هتشكوك للمخرج الفرنسي فرانسوا تريفو في حوارهما الطويل الشهير: "لقد ابتكرت الشخصية، وكتبت المشهد تحية للمهنية، تحية للأصول، ولاحترام قواعد اللعبة."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: خالد النبوي نجم اس


.. كل يوم - -هنيدي وحلمي ومحمد سعد-..الفنانة دينا فؤاد نفسها تم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -نجمة العمل الأولى