الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمان وأبوان حتى انتهاء الزمان (3)

أمير بالعربي

2019 / 7 / 4
الادب والفن


في المطبخ وقفت ماما تنظر دون كلام ...
ماما إيناس كانت على عجلة ... "الحوت قبل كل شيء وإلا شوانا منير ! لا أحب الحوت , وأنت ؟" ... "هنا قطع اللحم ... قلب , كبد إمممممممم أحب الكبد المشوي وأنت ؟" .... "الخبز" ... "السلطة ... غلال البحر إمممم أعشق غلال البحر" .... "الفحم" ... "كانون الغاز" ... "الجبن" ... "الزيتون" ... "زيت الزيتون" ... "اللوز" ... "الفستق" ... "و ... مشروبات الكبار , أحيانا أشرب معهما قليلا وأنت ؟ تشربين ؟ تجاوزتِ الثمانية عشرة تعلمين ...." ... "انتظري , الخيمة في الحمام ... سأعود ... أخرجي الماء والكوكا من الثلاجة" ....
لكنها لاحظت أن ماما كانت تبكي ....
- ما بكِ ؟ ما الذي حصل ؟
- لا أقبل بشفقتكم عليّ !
- أريدك أنتِ أن تشفقي عليّ وأن تساعدينني لأننا تأخّرنا , هيا بسرعة ... ولا تغتاظي منهما الآن لأننا عندما سنصل سيقومان بالواجب ولن نمسّ أي شيء ... سنثأر بعد قليل , سترين ...
- أشعر أني سأكون ثقيلة عليكم ...
- أشعر أنك لن تندمي وسنمضي ليلة جميلة , تعرفين أننا لا ننام حتى الفجر ؟
- لكنكم ستُحرجون من تواجدي ...
- جميل ... الوشم جميل ... أظن أني سأصنع مثلك ... يجب أن تعطيني عنوان الواشم ....
- لكنـــــــــ ...
وضعت ماما إيناس يدها على فم ماما ... وفي أذنها همستْ : "أرجوكِ , أشعر أني بدأت أغضب !" ثم , تركتها ... "تعرفين ... والبيرسينغ أيضا ... جميل ... لكني أحب الوشم أكثر ..." ... "هيا , أخرجي الماء والكوكا من الثلاجة" ...
من الحمام نادت ماما إيناس بابا جمال ليساعدها على إخراج الخيمة وأغراضها , كانت في صندوق كبير موضوع فوق , وعندما التحق بها سألته عن ماما واعتذرت منه على فرضها عليهم لكنها رأت أن ذلك سيساعدها على الخروج مما كانت فيه ... فقال لها أنها ليست في حاجة للاعتذار لأنه هو الذي سمح لها بالقدوم منذ البداية , لكنه طلب منها أن تتأكد أنها تستطيع إمضاء الليلة معهم وألا يكون ذلك سببا لمتاعب قد تحدث لها مع عائلتها .
عند رجوعها للمطبخ , وجدت ماما قد قامت بما طلبته منها ... وكانت تجري اتصالا ...
- كل شيء على ما يرام ؟
- نعم , ماما اتصلت بي ...
- وأعلمتِها أنك ستمضين الليلة عند أصدقاء ؟
- لم أفعل ... ماما يهمها أن أكون حاضرة في مناسباتها وأن ألبس وأتصرف حسب ما تريد ... فقط .
- جيد ... هيا سنخرج ... لنحمل الأغراض للسيارة ...
نزلوا أربعتهم كل يحمل شيئا , قالت ماما أنها ظنت أنهم سيخيمون لشهر من كثرة تلك الأغراض . وبرغم كل ذلك , نست ماما إيناس القهوة والحليب والكايك ... وضعوا أغلب الأغراض في سيارة بابا جمال والبعض القليل في سيارة ماما , اعتادوا الذهاب في سيارة واحدة أما تلك الليلة فخافوا من أن يتركوا سيارة ماما أمام منزل ماما إيناس وقرروا أن يأخذونها معهم ... عاودت ماما إيناس الصعود لكي تجلب فطور الصباح للغد , ومرت على غرفة نومها وأضافت بعض الملابس لها ولماما ونزلت ...
أثناء ذلك , صعد بابا سيارة بابا جمال الذي كان لا يزال عنده مفتاح سيارة ماما , وانتظر أن تلتحق به ماما إيناس , لأن بابا جمال كان سيقود سيارة ماما ... كان ذلك بديهيا بالنسبة له , ولم يخطر بباله أي فرضية أخرى , لكنه بعد قليل فوجئ بصعود بابا جمال بجانبه , فانتفض من مكانه ...
- "ماذا تفعل هنا ؟ أين إيناس ؟"
- "أرادت أن تقود سيارة أميرة ... قالت الرجال وحدهم والنساء وحدهم ..." , وابتسم ...
- "وتضحك فوق ذلك ! هل تريد قتلها أم ماذا ؟؟ تقود وفي الليل .... ! انزل وأرسلها إلى هنا !"
- "تُفكّر في ...."
- "انزل قبل أن يجن جنوني وأن أقول أنك تعمدت ذلك !"
نزل بابا جمال بسرعة , سيارة ماما كانت وراء سيارته مباشرة وماما إيناس كانت تجلس مكان السائق وماما بجانبها ...
قالت ماما أنها بعد أن أخذت المفتاح من يد بابا جمال وصعدت , تغيرت ملامحها ومن شدة رعشة يدها لم تستطع تشغيل المحرك , سألتها فلم تجب وظلت تنظر أمامها , وبدأت تبكي ...
حصل ذلك في غضون دقائق معدودات , وكأن فتاة أخرى حلّت في جسد تلك الضاحكة المشرقة التي فعلت الكثير من أجل ماما بعد أن كانت قد رأتها لأول مرة منذ ساعات قليلة ...
فتح بابا جمال الباب وساعدها على النزول : "آسف حبيبتي ... سامحيني ... كل شيء على ما يرام , لا تقلقي عزيزتي ... كل شيء على ما يرام ... تعالي" ...
نزلت ماما بسرعة وتبعتهما حتى أجلسها بابا جمال في سيارته بجانب بابا الذي ما إن رآها حتى نزل ... ابتعد قليلا عن السيارة إلى الأمام , ثم عاد باتجاه بابا جمال , وقف أمامه حتى التصق به وقال له : "أحسنت يا فالح ! ... اتبعني الآن !" , ثم ركب , شغّل المحرك وانطلق ...
قالت ماما أنها لم تشعر بحرج , وبأنها متطفلة وثقيلة على غرباء ... زال كل ذلك عنها ... وشعرت بالاهتمام , وبوجوب أن تعرف حقيقة ما حدث ... شعرت وكأنها تعرف ثلاثتهم منذ زمن طويل ... رأت أن عند ماما إيناس مشكل ما وأرادت أن تساعد ... فهمت منذ البدء أن بابا صديق لحبيبين لكنها لم تكن تتصور أهمية وسطوة ذلك الصديق عندهما ....
في سيارتها , لم تسأل ماما لأن بابا جمال تكلم وحده ... قالت ماما أنه بكلامه من تلقاء نفسه وقبل أن تسأله , قرّبها أكثر منه ومنهم وأشعرها أنها ليست غريبة بل ... كما قالت لها ماما إيناس عندما سلّمت عليها : "اعتبرينا أهلكِ" ...
قال : "فقدت إيناس أختها الصغيرة منذ ثلاث سنوات في حادث سيارة ... كانت تقود وأختها بجانبها .... لا أعلم كيف غاب عن ذهني ذلك !!"
في سيارة بابا جمال , لم تتكلم ماما إيناس , أمسك بابا بيدها اليسرى لدقائق ولم يكلّمها ...
ثم قال لها : "عندنا هدية لكِ , الحقيقة ... ليست فكرتي لكني وافقتُه عليها ... ستعجبكِ ... لكني قد أغيّر رأيي إن لم أر ابتسامتك الجميلة الآن ..." ردت ماما إيناس أنها لا تريد لأي شيء في الوجود أن يفسد عليهم ليلتهم , لكنها اعتذرت وقالت أنها افتقدتها وفقدت السيطرة ...
- تعرف , تكلمنا كثيرا في الموضوع , لكني لا أزال أشعر بالذنب ...
- لا ذنب لكِ في الحادث ... وتعرفين ذلك جيدا ...
- لكني منعتُها من ...
- لم تمنعيها من أي شيء , أنا من فعل , ولا أشعر بأي ذنب ...
- لكنها كانت صغيرة , وكنا نستطيع أن نتصرف بطريقة أحسن ...
- لا لوم عليكِ في شيء , وإذا أردتِ لوم أحد فعليكِ إلقاء كل اللوم عليّ أنا وحدي ... ولم تكن صغيرة ! عشرون سنة ... ليست صغيرة ... لكن لا ذنب لها هي أيضا ...
- هل أحببتها ؟
- تعرفين جيدا أني لم أفعل ...
- أعرف ...
- وتعرفين جيدا من ... أحب و ... كيف ...
- أعرف ...

هذا الجزء من القصة لم يكن صعب الفهم علينا أنا وأمينة , وقد تكلمنا فيه وحدنا بعد أن سمعناه ... كنا نلعب في غرفتي فاقترحت أمينة أن نرسم صورة مشتركة نهديها لماما إيناس في عيد ميلادها ...
بدأت أمينة , فرسمتْ في أعلى الورقة بابا جمال وكتبتْ عن يمينه : "أحبكَ" ... بعدها كتبتُ عن يساره : "أحبكَ" , ورسمتُ ماما إيناس تحته وكتبتُ عن يسارها : "أحبكِ" ... ثم كتبتْ أمينة عن يمينها : "أحبكِ" ورسمتْ تحتها بابا وكتبتْ عن يمينه : "أحبكَ" ... فكتبتُ عن يمينه : "أحبكَ" تحت كتابتها ورسمتُ عن يساره ماما وكتبتُ عن يسارها : "أحبكِ" ... فكتبتْ أمينة تحت كتابتي : "أحبكِ" ورسمتني تحت ماما وكتبتْ عن يساري : "أحبكَ" ... فرسمتُ أمينة عن يميني وكتبت عن يمينها "أحبكِ" ... وفي أسفل الورقة كتبنا "عيد ميلاد سعيد ماما إيناس ... نحبك كثيرا..." ... وجعلنا كل ما صوّرنا وكتبنا على الورقة وسط قلب كبير ...
تقريبا , لا نزال نحمل نفس الفهم , أنا وأمينة ....
بابا يحب ماما وهي زوجته , وبابا يحب ماما إيناس وهي ليست زوجته لأنها زوجة بابا جمال ...
ماما تحب بابا جمال كثيرا لكنه ليس زوجها بل صديق بابا وأخوه ...
نحن نحب ماما لأنها أمنا , لكننا نحب ماما إيناس أيضا ونراها أمنا برغم أنها ليست أمنا الحقيقية ... نفس الشيء عند بابا وعندنا ...
أما ماما وماما إيناس فهما صديقتان وأختان برغم أنهما ليستا أختان حقيقيتان , أخت ماما إيناس توفيت فأخذت ماما مكانها وماما لا تحب أمها فأصبحت ماما إيناس أمها ...
في بعض الأحيان , وعندما تحصل عندنا لخبطة , نقول أننا كلنا نحب بعضنا : أنا , أمينة , بابا , ماما , ماما إيناس وبابا جمال , نحن أسرة وحتى الموت لن يستطيع تفريقنا ولن يجعلنا ننسى بعضنا .... كلنا نحب بابا جمال ولا نقول أنه غادرنا وانتهى وصار مجرد ذكرى بل دائما نذكره ونكلمه ونشعر بوجوده معنا ...
منذ صغرنا تعلمنا , ولا نزال نقول أن الوحوش البرية لا يجب أن نكلمها عن هذا الموضوع , لأنها إذا علمت ستعمل على تدمير أسرتنا التي تعبنا كثيرا من أجل تأسيسها ...
ويكفينا رحيل بابا جمال !
لا أحد سيستطيع أن يفهم , ولا يجب لنا أن نهتم لأن تفهم الحيوانات المتوحشة أو لأن لا تفهم ... لذلك , لم نتربّ على أننا أعلى قيمة من غيرنا من البشر , لكن تربينا على أننا نعيش وسط غابة تقطنها الحيوانات البرية , حيوانات تستطيع افتراسنا في أي لحظة إذا لم نحتط منها ... وقد عرفنا كيف نحتاط وكيف نحمي أنفسنا ... لم نغادر أرضنا مثلما يفعل الضعفاء والجبناء , لكن عشنا فيها وسط الوحوش التي أحببناها بطريقتنا , ووعينا جيدا لماذا وكيف لا يجب بأي حال أن نحبّ غيرها أكثر منها , برغم أنها كانت تستطيع الفتك بنا دون شفقة لو لم نعرف كيف نتصرّف ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب


.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس




.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد


.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد




.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد