الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنقذونا من هذا الشعر

نبيل عودة
كاتب وباحث

(Nabeel Oudeh)

2019 / 7 / 6
الادب والفن



شاركت قبل ايام بندوة صغيرة، ساهم فيها شاعر لم يسبق لي التعرف عليه او على انتاجه الشعري. قرأ بلا توقف مقاطع من شعره، وأعلن انه أصدر عدة دواوين شعرية ولدية اربعة دواوين شعرية جاهزة للنشر.
ما لاحظته ان كل قصائده الشعرية على منوال واحد، تفتقد للصور الشعرية، بل وتفتقد للقدرة على اثارة اهتمام القارئ او المستمع، مجرد شعارات وطنية صاغها صاحبنا بشكل موزون، مثبتا انه حقا متمكن من لغته العربية ومن بحور الشعر العربي. عندما تحدث عن نفسه، تبين انه قضى جل عمره معلما في سلك التعليم، وفقط بعد تقاعده برزت شاعريته. وهذا ليس اول شاعر او كاتب او ناقد اتعرف على كتاباته، اكتشف قدراته الأدبية بعد التقاعد فقط، وطبعا بعد ضمان المعاش التقاعدي.
عندما سؤلت عن رأيي حاولت ان اكون موضوعيا. قلت ان هذا الشعر يذكرني بسنوات الستين والسبعين مع انتشار الشعر المنبري في ثقافتنا الفلسطينية داخل اسرائيل، الذي كان شعرا مهرجانيا يلقى بالاجتماعات الشعبية، وقدمت نماذج لمطلع قصائد منبرية لمحمود درويش وسالم جبران وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم. ولم أحب ان اضيف ان شعرنا المنبري كان ارقي بمضامينه وصوره الشعرية من الشعر الذي اتحفنا يه في تلك الجلسة "شاعرنا الجديد".
الشعر ليس شعارات واعلان مواقف قومية، بعد زوال خطر الفصل من التعليم، الذي ساد لسنوات طويلة في مجتمعنا بعد اقامة دولة إسرائيل وفرض الحكم العسكري على الجماهير العربية الباقية في وطنها، وتقييد سلك التعليم عن طريق سيطرة المخابرات واقرار منهج تعليمي بلا افاق انسانية او وطنية للمدارس العربية، وطرد العديد من المعلمين الوطنيين او الذين تجاوزوا التضييقات الأمنية على التعليم العربي، عمليا فرض جو من الإرهاب على التعليم العربي وحصار ثقافي منع التواصل مع الثقافة العربية، وكانت رقابة شديدة على كل كتاب يطبع. الى جانب التضييق على معلمين لم يفصلوا والتزموا الصمت مرغمين، ضمانا للقمة الخبز، وهذا أمر لا اراه سلبيا، لكنه من باب "مكره أخاك لا بطل".
لا استوعب ان انسانا يعشق الشعر وكتابة الشعر يصمت دهرا قبل ان تتفجر قريحته الشعرية بسن الشيخوخة. الموضوع ليس اكتشاف الموهبة الشعرية أو الأدبية بعد التقاعد. اذ تبين لي انه لم يستوعب ايضا ما قلته عن الشعر المنبري ومضمونه الثقافي والسياسي. رغم انه استعمل بجوابه هذا الاصطلاح ولكن ليس بمكانه وبدون فهم مضمون ما طرحته عن قيمة شعرنا المنبري الثقافية والسياسية بنفس الوقت، بينما ما نستمع اليه ليست له قيمة ثقافية ولا سياسية رغم اكتظاظه بالشعارات السياسية. ان شعرنا المنبري، عندما كشفه الشهيد غسان كنفاني للعالم العربي، أحدث ضجة ثقافية مثيرة جدا، نفتقدها اليوم في معظم ما يكتب من شعر في بلادنا، منبريا كان او غير منبري!!
حسنا، لا أنكر انه ضليع ببحور الخليل بن احمد، او بمحيطه العربي والأطلسي، وكل ما سمعته، صيغ بمبنى القصيدة الكلاسيكية وموزون تماما. لكن هل هذا يعني انه شعر ام مجرد صياغة بقالب شعري يفتقد للحرارة وللجاذبية وللتأثير على مشاعر المستمع؟
وهنا يطرح السؤال الجوهري: ما هو الشعر اذن؟ هل هو الوزن؟ بينما المعنى أصبح خبرا لكان؟
مثلا قصيدة منبرية لمحمود درويش ذكرتها كنموذج وهي عن مقتل الشباب العرب الخمسة في بداية سنوات الستين، التي فجرت غضبا جماهيريا قل مثيله في تاريخنا. يقول درويش في المقطع الأول من قصيدته التي الهبت غضب الجماهير وابكتنا:
يحكون في بلادنا
يحكون في شجن
عن صاحبي الذي مضى
وعاد في كفن
*
كان اسمه..
لا تذكروا اسمه!
خلوه في قلوبنا...
لا تدعوا الكلمة
تضيع في الهواء، كالرماد...
خلوه جرحا راعفا... لا يعرف الضماد
طريقه إليه. ..
أخاف يا أحبتي... أخاف يا أيتام ...
أخاف أن ننساه بين زحمة الأسماء
أخاف أن يذوب في زوابع الشتاء!
أخاف أن تنام في قلوبنا
جراحنا ...
أخاف أن تنام !!
اجل نحن هنا امام قصيدة منبرية، لكنها قصيدة بصور شعرية ورؤية انسانية تأسر السامع والقارئ. ولسنا امام كلمات مصاغة وزنا ولا تثير في المستمع او القارئ اي شعور انساني او غضب سياسي ردا على التنكر الاسرائيلي لحقوق شعبنا الفلسطيني مثلا. او قصيدة اخرى مشهورة بعنوان" سجل انا عربي" من اشهر قصائد التحدي للحكم العسكري. سالم جبران ايضا له قصيدة قصيرة جدا لكنها تثير مشاعر عميقة وجمالية. يقول فيها:
كما تحب الأم
طفلها المشوه
أحبها
حبيبتي بلادي
قصيرة جدا ولكنها تمس شغاف القلب بقوة تعبيرها وبالصورة الشعرية التي ترسمها وهي أفضل من ديوان شعر وطني لا شيء فيه يثير مشاعر القارئ الإنسانية. ايضا نقرأ للشاعر سميح القاسم قصيدة منبرية رائعة بمضامينها، أتذكر انه القاها بعد زيارة لقرية كفرقاسم التي ارتكبت فيها مجزرة نفذها حرس الحدود الإسرائيلي عام 1956ضد مواطنين عُزَّل، سقط ضحيتها 49 شهيدا بينهم نساء وأطفال وحكم على شدمي قائد فرقة حرس الحدود بقرش واحد، اشتهر باسم "قرش شدمي". يقول في مقطعها الأول:
أبداً على هذا الطريق !!
راياتنا بصر الضرير .. وصوتنا أمل الغريق
أبداً .. جحيم عدّونا .. أبداً .. نعيم للصديق
بضلوع موتانا نثير الخصب في الأرض اليباب
بدمائنا نسقي جنيناً .. في التراب
ونرد حقلاً .. ( شاخ فيه الجذع ) .. في شرخ الشباب
ونصبّ في نبض المصانع ..
للمربّى .. والحقائب .. والثياب
نبض القلوب المؤمنات..
بكل أقداس الحياة !!
وختاما لا بد من الإشارة لقصيدة للشاعر توفيق زياد كتبها على أثر نكسة حزيران، يقول في مقطعها الأول:
أيُّ أم أورثتكم يا ترى نصف القنال ؟!
أيُّ أمٍ أورثتكم ضفة الأردن,
سيناء .. وهاتيك الجبال؟
إن من يسلب حقاً بالقتال
كيف يحمي حقه يوماً, إذا الميزان مال؟!"
ملاحظة: قصائد "شعراء المقاومة" كما اشتهروا بشعرنا الفلسطيني، قادتهم الى السجون، والاقامات الجبرية، وتحديد التنقل واثبات وجود يومي في محطات الشرطة. وشاعر الوطنية الجديد وآخرين مثله، لا تكلفهم "ثوريتهم" أي ملاحقة.
طبعا الأهم اننا نجد الصور الشعرية التي تشدنا كقراء وتثير حماسنا كمستمعين، وليس مجرد شعارات سياسية لا تترك فينا اقل المشاعر. تلك النماذج اخترتها عشوائيا وهناك نماذج أكثر تأثيرا لهم ولشعراء آخرين ايضا، لكن جرى تجاهلهم سياسيا واعلاميا لعدم انتمائهم للتنظيم الشيوعي مثلا، وهم يستحقون دراسة خاصة تعيد ترتيب البيت الثقافي للجانر الشعري الفلسطيني داخل اسرائيل، آمل ان يقوم بهذه المهمة أحد نقادنا المطلعين على مراحل تطور شعرنا، الضرورية اليوم لترتيب بيتنا الشعري.
اما شاعرنا اياه وقصائده المكتظة بالوطنية والعروبة والمفاخر فانصحه ان يحنطها ويلقيها في قعر الفيسبوك، لعلها تجد من يطرب لها!!
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الله يسامحك الله يسامحك الله يسامحك!!!!
أفنان القاسم ( 2019 / 7 / 6 - 20:24 )
يا لهوووووي!!!!! كما يقول المصريون... بس هادا شعر جنازات الصور الشعرية، شعر مدافن التعبير الشعري، شعر ندابات الرؤية الإنسانية... ما تزعلش مني فأنت تعرف موقفي مما يسمى شعر المقاومة، ليش اللف والدوران، إنه شعر المناسبات وانتهينا، اليوم نريد شعرًا آخر لا يشبهه بل يشبهنا، في سخامنا يشبهنا وفي كله، مع قليل من الأمل (عشان خاطرك لأني أحبك) وكثير من اليأس...


2 - لا خلاف معك
نبيل عودة ( 2019 / 7 / 7 - 05:07 )
اليوم لا أطرب له .. لكنه لعب دورا سياسيا كخطاب تثويري وحماسي.. ربماوصفه.بالشعر جاء من باب الشكل..


3 - شعراء الإنسانية في نبض القلب
محمد نور الدين بن خديجة ( 2019 / 7 / 7 - 19:14 )



وسيبقى محمود درويش والقاسم وغيرهم من الشعراء الصادقين عظماء .. رغم مستنسخي شعراء مابعد الحداثة الغربيين ..فأولئك على العموم يعيشون واقع تعقدات مابعد الحداثة ويعبرون عنها ..أما شعراؤنا المحدثين فأغلبهم نقلة في مجتمعات ماقبل الحداثة.. مجتمعات الرعية لا المواطن تحت أنظمة الاستبداد والتخلف ..ولهذا فإن أغلب متلقي الشعر تبرموا من هته الغثاتة المستنسخة بركاكة وغموض بلاهدف ..وتشتت للصور الشعرية أو غيابها ..
لا تتنطعوا ولا تتطاولوا على شرفاء الشعر ..فالشعر هو الالتفات حقا للوردة لقطرة ماء ..لقطة تموت .. لظل مشبوه ..لنسمة عابرة .. وكذلك للإنسان في حزنه ضعفة ..للانسان المقهور ..للطفل القتيل .. للسجين من أجل حرية الكلمة ..الشعر في كل هذا ..ومن لايحس عذابات الشعوب سيكون كاذبا أن يحس فقط بذبول وردة
أقرؤوا مظفر النواب في خمرياته وصوفياته ستجدون الصور والاستعارات الرائعة بكل تداخل سريالي وواقعي وتجريدي ودون غموض من أجل الغموض
أعيدوا قراءة أمل دنقل بدون غرور نخبوي ضيق
لقد أصبحت حفلات الشعر تقرأ بشعراء لشعراء فقط ويغيب الجمهور الذواق

عفوا على الإزعاج البريء ..


4 - الى محد نور الدين بن خديجة
نبيـــل عــودة ( 2019 / 7 / 7 - 19:44 )
شكرا على اضافتك الممتازة .. كان شعرنا المنبري تحديا للسلطة العنصرية وحكمها العسكري وتمييزها العنصري ضد الجماهير العربية ومصادرة اراضينا وتضييق الخناق على تطور بلداتنا.
كان شعرا ثوريا وكل قصيدة تكلف شاعرها السجن والاقامة الجبرية والملاحقة البوليسية. ببساطة كان شعرا مجندا للنضال ومثقفا وجماليا .. اليوم شعارات تافهة. لا انفي وجود شعراء مبدعين في ثقافتنا، لكني تناولت تيارا شعريا هو مجرد عرض يليق بسرك وليس بثقافة وقيم وطنية وسياسية.


5 - مظفر النوَاب شاعر أم مهرج؟ أمل دنقل شاعر أم مطبل؟
أفنان القاسم ( 2019 / 7 / 7 - 20:58 )
محمود درويش بطل اسنعارة! سميح القاسم آه ما أتقل دمه! الشعر ليس لشرفاء أو لغير شرفاء، الشعر لا يمكن تعريفه، وعندما قلت نريد شعرًا يشبهنا أنا لا أتطاول، أنا أتواضع...


6 - من أجل عودة الروح للشعر
محمد نور الدين بن خديجة ( 2019 / 7 / 9 - 19:17 )


الشعر في كل هذا حتى في الجنائزية
حسب ظني وتواضعي في تذوق الشعر جنائزية المقاومة كانت جنائزية احتفال بالحياة وضدا على كآبة وسوداوية مابعد النكبة والنكسة والوكسة والفقسة والتي مست أو أرخت بظلالها على شعرية بعض الشعراء..والشعر عموما مقاومة وجودية بكل معنى الكلمة .. خلق المعنى مهمة انسانية من أجل البقاء على هته الأرض
نعم شعر المقاومة بين قوسين في بدايته الصبيانية أدى مهمة من مهمات ربما مستعجلة قريبة وبعيدة من الثوري وليس السياسي ..او كما قال غارسيا لوركا ك على الشاعر أن يكون ثوريا وليس سياسيا
لا اختلف بتاتا معك سيد نبيل عودة هناك شعر منبري جاف جفاف التبن وخارج قلق المرحلة المتشعب والشديد التعقد واصبح لايهز حتى قصبة فارغة عتا فيها السوس
لكن أنا أنبه لمن تطرف وأسفف ونفض يديه المرتعشتين من كل نفحة انسان يتململ فبالأحرى يتمرد ويثور ..وجعل الشعر ظلالا لغموض تجريدي بارد برودة العق ل الاوربي وهو يرخي ظلاله على البوح الشعري فتناقله المريدون المحدثون وهم يرثلون شعرية الخواء والبياض وهلم جرا وسط معمعة جرجرة وسحل الانسان العربي وغير العربي الرازح تحت سطوة الاستبداد والديكتاتوريات **


7 - مزيدا من الشعر بعيدا عن التطرف
محمد نور الدين بن خديجة ( 2019 / 7 / 9 - 19:24 )


العظيم يانيس ريتسوس اليوناني الذي تأثر به بعض شعراء الحداثة العرب
عمل فعلا على الجنائزية الخلاقة في رثائه لعمال الفحم الذين استشهدوا في الثلاثينات
في قصيدة ملحمية رائعة خلدها الموسيقار الجبار العبقري والشيوعي حتى النهاية ميكيس ثيودوراكيس على لسان الام التي فقدت ابنها وقد كتبها من خلال صورة واقعية لام تجثو على جثة ابنها ..الا يهز هذا المشهد وجدان شاعر حقيقي ..
مع العلم ان من كان شاعرا حقا فهو شاعر سواء في التزامه بقضية سياسية او بيئية او او او حتى عبثية
العيب كل العيب التطرف والادعاء والسؤال اين الشعر من كل ما يكتب احيانا
اخاف أن أكون متطرفا حتى أنا في ذوقي الخاص لنوع الكتابة الشعرية

اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف