الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حاوية العقارب والقردة

صبحي حديدي

2006 / 5 / 9
الصحافة والاعلام


تصلك ـ إلى بريدك الإلكتروني، باللغة الإنكليزية، ومن صديق موثوق ـ رسالة محوّلة، يُراد منك توزيعها على أوسع نطاق ممكن من أصدقائك، بغرض تعميم الفائدة. النصّ يتحدّث عن تصريح عنصري مذهل، وصاعق بالفعل، صدر عن فلان الفلاني (الذي نحجب اسمه هنا لكي لا نمارس الدعاية غير المباشرة)، وهو مصمّم أزياء أمريكي شهير، وصانع عطور وأحذية وملابس رياضية ومجوهرات وموادّ تجميل، للرجال والنساء والأطفال، ومخازنه الفاخرة منتشرة في أربع رياح الأرض.
وتحت عنوان "فلان الفلاني يكرهنا"، تقول الرسالة ما يلي: "هل رأيت الحلقة الأخيرة من برنامج أوبرا الذي استضافت فيه فلان الفلاني؟ أوبرا سألته عن صحة التصريحات المنسوبة إليه بصدد الملوّنين، حيث اتُهم بقول أشياء مثل: لو علمت أنّ الأفارقة ـ الأمريكيين أو الهسبان أو الآسيويين سيشترون ملابسي، لما صنعتها على هذا النحو الجميل. أتمنى على هؤلاء أن لا يبتاعوا ملابسي، لأنها مصنوعة للطبقة الراقية من البيض؟ فماذا ردّ حين سألته أوبرا إذا كان قد تفوّه بمثل هذه الأقوال؟ أجابها: نعم! وهكذا طلبت منه أوبرا أن يغادر البرنامج على الفور". القسم الثاني من الرسالة، وهو بيت القصيد، فإنه يحثّك أكثر من مرّة على مقاطعة قمصان الرجل وعطوره وأحذيته، بغية "دفعه إلى وضع مالي يصبح بعده عاجزاً هو نفسه عن دفع الأسعار الغالية المضحكة التي يضعها على ملابسه". ولا تنسى الرسالة تأهيب المرسَل إليه: "إذا كان عددنا قليلاً، فلنوسّع دائرتنا عن طريق تعميم الرسالة على كلّ الجماعات غير البيضاء، أو البيضاء ولكن من طبقة غير راقية، وسنحصد أفضل النتائج"...
وبالطبع، إذا جاءتك الرسالة من صديق عربي، فراهنْ أنّك ستجد عبارة "... أو العرب" مضافة إلى لائحة الأفارقة ـ الأمريكيين أو الهسبان أو الآسيويين، لأسباب شتى لا تقتصر على حسّ التضامن الأممي المعتاد في مثل هذه السياقات، ولا ينأى بعضها عن عقدة التذكير بأننا في صفّ مضطهدي الأرض، شاء أهل الإضطهاد أم أبوا! هنالك، إلى هذا، تفصيل آخر هامّ: البرنامج المقصود ـ لمَن لا يعلم بعد ـ هو برنامج الـ Talk Show الأشهر في الولايات المتحدة وفي العالم بأسره ربما، وتعرضه أكثر من قناة، وتديره النجمة السوداء أوبرا وينفري منذ عام 1986، وعقدها في تنفيذه مستمرّ حتى العام 2011.
وللوهلة الأولى، ليس دون مسوّغ مشروع تماماً في الواقع، قد يفور دمك حين تقرأ تلك السطور الحقيرة (لكي نستخدم التعبير الشهير للرئيس الفلسطيني محمود عباس!)، ثمّ قد ينتقل الفوران إلى أصابعك فتبادر دون تردد إلى تعميم هذه الرسالة على كلّ أصدقائك، وغير أصدقائك، في دفتر العناوين. من الحكمة، مع ذلك، لو أنك تأنيت قليلاً فقط، وحاولت تدقيق الحكاية بعد طرح السؤال التالي، ليس دون مسوّغ مشروع تماماً هنا أيضاً: أليس من المحتمل، مجرّد احتمال واحد في المئة، أنّ الأمر مختلَق جملة وتفصيلاً، خصوصاً وأنّ التنافس بين كبرى الشركات ـ ومن هذا الطراز الصناعي تحديداً ـ قد يبلغ في إساءة السمعة مستويات دامية، أشبه بالحرب الضروس؟
والحال أنك لو جنحت إلى هذه الأناة فإنك من المحظوظين الناجين، إذْ ستقع على واحد من نماذج تلك الحروب، وستدرك أنك كنت قاب قوسين أو أدنى من الانخراط، طائعاً متطوّعاً بالمجّان، في حرب ليست حربك بأية حال. ذلك لأنّ الحكاية تلفيق في تلفيق، جملة وتفصيلاً، ومختلقة على نحو بالغ الخبث يشتغل على استنفار مشاعر السخط التلقائية ضدّ أية نزعة عنصرية محضة مكشوفة. هو، من جهة ثانية، خبث يتلاعب بسخط آخر، دفين ضمني ربما، يتصل بإثارة الفوارق الطبقية ـ وليس العرقية وحدها ـ بين البيض وكلّ من السود والهسبان والآسيويين. أكثر من هذا، إذا وصلتك الرسالة مؤخراً، اليوم أو بالأمس أو قبل أسبوع، فهاهنا مفاجأتك الثانية: الحكاية ليست بنت اليوم أبداً، بل هي تُستعاد وتُستأنف وتُجدّد، لأنها ببساطة تعود إلى... العام 1997!
وآنذاك، حين انتشرت الرسالة كما النار في الهشيم، لم تفلح كلّ جهود صاحبنا فلان الفلاني في نفي التصريحات وإطلاق نقائضها التي تتقرّب من السود والهسبان والآسيويين (ولكن ليس العرب، وا أسفاه!)، فاستمرّ انحدار مبيعات مخازنه، واتسعت أكثر فأكثر دائرة المطالبين بمقاطعة منتوجاته. حتى وينفري نفسها، التي أحسّت بفداحة مسؤوليتها غير المباشرة عمّا حدث، لم تنجح في تبديد الشائعة رغم تخصيص حلقة لنفي الحكاية، والتأكيد أنّ الرجل لم يظهر في برنامجها أبداً. وكان مارك توين هو القائل: الكذبة تبلغ نهايات الأرض، قبل أن تفرغ الحقيقة من ربط الحذاء استعداداً للمسير!
ويبقى أنّ باعث كتابة هذه السطور مزدوج: أنّ الرسالة وصلتني بالفعل، يوم أمس، من صديق كاتب وباحث وإعلامي عربي معروف؛ وأنها تذكرة جديدة بحاوية القمامة المرعبة التي تنقلب إليها شبكة الإنترنيت بين حين وآخر، حيث تختلط الديماغوجيا السياسية بالبهلوانية الفكرية، ومساخر الأدب بقبائح الفنون، وحيث ينشط الحواة على شاكلة العقارب تارة، والقردة طوراً!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر إسرائيلية تتحدث عن مفاوضات جديدة بشأن الهدنة في غزة


.. شاهد| مسيرة في شوارع دورا جنوب الخليل ابتهاجا بخطاب أبو عبيد




.. مقتل طيار بالقوات الجوية البريطانية بعد تحطم طائرة مقاتلة


.. دمار هائل خلفه قصف روسي على متجر في خاركييف الأوكرانية




.. حكومة السلفادور تلعن نشر آلاف الجنود لملاحقة العصابات