الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاورة الذات في ديوان -سوق راسي- للزجال إدريس الهكَار التازي

عبيد لبروزيين

2019 / 7 / 11
الادب والفن


الشعر فلسفة الحياة، والزجل مرتع الحكمة وبؤرة التوتر والقلق، وهذا التوتر هو الذي يجعله ينبض بالحياة ويرنو نحو إعادة تشكيل الوعي الإنساني، اتجاه ذاته ومجتمعه والإنسانية جمعاء.
هذا ويعتقد البعض أن الزجل مرتبط بالعصر الحديث، ولكنه في حقيقة الأمر، يعود إلى العصر المرابطي 447ه/541ه، حيث يقول إبراهيم حركات في هذا الصدد: "ومن المعلوم أن العصر المرابطي عرف ازدهارا ملموسا في نظم الموشحات وشيوع الموسيقى، ومن أبرز وشاحي هذا العهد أحمد بن علي المعروف بأعمى طليطلة ... ثم أبو بكر بن قزمان الذي اشتهر بالإبداع في الزجل بعد أن سبقه آخرون لا نعرفهم". وهكذا يكون أصل الزجل قد ظهر في بلاد الأندلس، حيث انتشر بسهولة في تلك الربوع، كما انتقل إلى المغرب الذي يبدو من كلام ابن خلدون أن أهله فاقوا أهل الأندلس في هذا الفن.
وهكذا يثبت إبراهيم حركات أن الأزجال من وضع أندلسي هو أبو بكر بن قزمان الذي عاصر المرابطين، وأن المحاولات بدأت قبله لكنها أخذت طابعها المتميز في عهده. كان لا بد من هذه التوطئة قبل مساءلة تجربة الزجال المغربي إدريس الهكَار التازي.
الزجل بهذا المعنى قبس من نار، نار مستعرة تحرق اليومي منذ قرون خلت، نقل إلينا أخبار الناس وانفعالات الزجالين، وفي هذا السياق يأتي ديوان "سوق راسي" الصادر سنة 2019 للزجال إدريس الهكَار، ديوان تهيمن عليه محاورة الذات، ومن خلاله تتكشف الكهوف البلورية القابعة في أعماق النفس، هي انفعالات مرتبطة ببيئة الذات الشاعرة، الحالمة التي لا تستطيع التنصل من جراح الآخرين، فها هو الزجال يقول في قصيدته الأولى:

منين شفت راسي فالمرايا
ما بان لراسي راس
ومنين شفت اللي حدايا
بانت لي الضبابة وشلا نعاس
ومنين شفت ورايا
حفظت قصة الناس
ومنين قلبت جنابي
قلت الله يحد الباس
لمرايا يا ناسي
اعمر ماجي
نتسناه بحالي بحال الناس

إنه التوغل في أعماق النفس، وهذا التوغل غالبا ما يؤدي بالشاعر إلى تشييد عالم من التصوف، حيث ينصرف عن اليومي إلى التأمل في الكون والحياة والتجارب الإنسانية في حوارية يمتد لهيبها إلى نزع قناع الآخر القابع في الذات الشاعرة، حيث يقول الشاعر في قصيدة "ما ديت ما جبت":
ما ديت ماجبت وما قريت قرايا
عقلي خاوي وقلبي تايه فهوايا
ما عرفت والو غير دخلت فجوايا
نجمع لحروف وكلامي هو غنايا
بيه نفتخر ونتعنى عنايا
صحابي حبوه وحتى عدايا
كل حرف زهرة تقطر بدايا
كنانشي عمرو كتبت فيهم شقايا
وحلمت راسي مجدوب لابس لعبايا
نحضن حروفي هي رجايا
كتبها لي لفقيه وشربتها فدوايا

كلمات تجعل ذات الشاعر ذاتا شفافة لا تحجب ما يضطرب به القلب من انفعالات تهيم بالشعر وتجعله خلاصا لذاتها، خلاص فقط لأنه يستطيع التعبير، فالتعبير وحده خلاص في هذا الجو المضمخ بالتيه والضياع، فيطل علينا الشاعر في قصيدته " طليت على حالي " التي تكشف حجم التمزق والضياع، فيقول:

طليت على حالي بين لحوال
لقيت شلا حوال تما
حال حالو ما هناني
وحال حالتو غمة
وحال يضحك عليا
وحال تالف فالظلمة
وحال حرف من لحروف
ضاع بين لكلام والكلمة ...

ويواصل الشاعر حواريته، لكن هذه المرة مع أمه في قصيدة " الخبز اخمر" وما تحيل إليه الأم من أمن واستقرار وعواطف جياشة، يخاطبها، يشكو إليها تغير أحوال الناس واندحار القيم، حيث يقول:

يا مَّا
لحلاقي حشمات
يغيطو فيها غير الطبالة
نهار تجمعات
لحناك تنفخات
لعبو
ولعبهم ارجع بسالا
دارو بالطبلة
يعيطو على السوطة
ونساو الصلاة

وأمام التحسر على زمن مضى، الزمن النموذج المثالي، ينتقل لواقع مرير حيث يفقد الإنسان إنسانيته، وفي هذا الواقع المتردي ينتصر الزجال للإنسان في شموليته، لاسيما الإنسان المقهور، الإنسان الهامش الذي يرزح تحت وطأة الظلم والفقر كما جاء في قصيدة "القصدير":

القصدير يدندن والزفت دايب
والقطرة بين لحيوط مسارب
هناك يمّاهم تكامد لمصايب
وباهم ما قدر يحسب لغرايب
على هاذوك بالي مشطون يا حبابي
اللي فالزناقي كيشمو لخوابي
سماهم غطا والقر النابي
ولا خرقة من الثوب الدافي
أرضهم لحاف وسولت جنابي
وما لقيت ليك صباط يا الحافي
تضمض جراح الدمع وتعافي

وهكذا يستمر جرح الزجل في النزيف عندما تلتحم أنا الشاعر بمعاناة من حوله في قصائد أخرى كـ "ضربني الضو " و" من جوف عماقي" و"الرحبة" وغيرها، لكن خط الانكسار في هذه القصائد الزجلية سرعان ما يعود ليتحول إلى أمل في قصيدة "خير وسلام" عندما يحلم بصوت قابع فيه يدعو إلي عدم الخوف، فيقول:
خير وسلام
وانا غارق فلحلام
بان لي فمنامي خيال
شد على يدي
وباسني من الجبين
وقال لي: يا السي ادريس علاش تنين
مالك وهاذ الجرة
غوت بالعلالي وقاد الرزة
ولا تخاف من كلام

وهكذا نكون مع بداية قصائد زجلية جديدة يربط بينها خط الأمل والإصرار على المواجهة، مواجهة كل شيء، حتى العدو القابع في أغوار نفس الشاعر، كما نجد ذلك في قصيدة "المجدوب" و "نهار وعيت":

نهار وعيت نهار شقيت
نهار شقيت نهار عييت
نهار عييت نهار دويت
نهار دويت زاد عذابي

هذه القصيدة التي يكشف من خلالها الزجال زيف الوجود، وأصناف مكياج الوجوه القبيحة، قصائد زجلية تشرب من نبع الماضي فتتحول في كثير من الأحيان لركب عوالم من التصوف ومنه تنبع حوارية الذات حيث يدخل الشاعر في سجال مع نفسه ليكشف تناقضاتها، وعندما يصل إلى هذا الصفاء الذي ينشده يفيض حوضه لتخرج إلى العالم ليقاسمه تجربته في قصيدة "الزمان":

بان الزمان وكشف سرو
مقوس وكتوبو على ظهرو
للغاذي للماجي هذا أمرو
يحكي قصة رواية عمرو

تستمر الحوارية في الديوان الزجلي "سوق راسي" وتحضر في باقي القصائد بأشكال مختلفة، وغالبا ما تكون محاورة الذات في المرآة كما في قصيدة "الحمّام" و"فوسط الظلام" ليكشف تناقضات الذات وأحزانها فيقول في قصيدة "الحمام":

شفت فالحمام مرايا ضباب ... عمات عياني
مسحتها نقرا فيه لسباب ... نكلم شجاني
بان لي قب يتألم من لعذاب ... زاد محاني
يتسنى جساد وقتاش ترطاب ... سرها عياني
البرد يسوط سد عافاك الباب ... الريح زواني
باغي نعرق كلامي طاب ... عشقتو وغواني
عبرتو ميزان وقاديت الركاب ... وعزفت لحاني

إن هذه الحوارية التي نحاول أن نتتبعها في ديوان "سوق راسي" تكشف في كل مرة عن انفعالات متضاربة، انفعالات تضطرب في النفس قبل أن تنعتق لتخرج من أسرها قصائد زجلية تحاور بدورها المتلقي وتستفزه لتبدأ حوارية جديدة تكشف عن حقائق ثاوية في أعماقنا، إنها كتابة فاضحة تتجاوز ألاعيب الذات التي تحاول دائما أن تزيح اللثام عن وجه جميل وتداري القبيح، لكن الحوارية التي اعتمدها الزجال إدريس الهكَار كشفت عن حجم القبح فينا، قبح يكشف عن حجم معاناة الإنسان المقهور والمهمش والذي يرزح تحت صخرة اليومي، إنه ديوان يذكرنا بالإنسان والصراع، والإنسان والمستقبل، وهذا التفاعل بين النص والقارئ ينتج نصا غائبا وهذا ما يجعل الحوارية في الديوان قابلة لعدة قراءات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر