الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شام-الفصل الثالث والعشرون

منير المجيد
(Monir Almajid)

2019 / 7 / 12
الادب والفن


لم يكن تشكيل «الشلل» بدعة خاصة بنا، بل هكذا كان الأمر على سطح الكلية.
حالما ننتهي من دروسنا في أقسام الكلية، كنّا نسرع بصعود الدرج إلى السطح، لنتحدث، ندخّن، نحتسي القهوة ونراقب الآخرين.

بدأت صداقتي مع خيرو بعطر جاكومو دي جاكومو، الذي كان يصنعه، وأنواع عطور فرنسية اخرى، بخبرة كيميائي.
صرنا، هو، منذر، سميّة ومهيار نواة، بينما عدد آخر كان يمّر أحياناً ويشاركنا فنجان قهوة، مثل توفيق ناغواي، ووليد عكاوي بذقنه وشعره الطويل ونظاراته الرمادية الكبيرة، وكأنه انحدر للتوّ من جبال سييرا مايسترا، رمز الثورة الكوبية.

ولتوفيق قصة أتحمّل مسؤوليتها بكامل التفاصيل. فلفترة قصيرة انضمت إلينا فتاة جزراوية عذبة، شكك أبناء عمومتها، الذين كانوا يدرسون في كليات جامعية اخرى، أنني على علاقة بها. لماذا أنا بالضبط؟ في الواقع منذر كان على وشك أن يقع في حبها. أحجية لم أعرف لها جواباً.

جاء، توفيق، مرّة مهشماً بالضرب، وبوجه منتفخ وقال بغضب «هذه العلَقَة يجب أن تكون من نصيبك».

لقد أراد أبناء العمومة هؤلاء، إيصال رسالة تحذير لي، عن طريق إبراح توفيق ضرباً، مفادها أن أبتعد عن قريبتهم، أملاكهم المحميّة شرعاً.
ولأنني جزراوي مثلهم، فإنهم اكتفوا بتحذيري، بهذه الطريقة المبتكرة. وبطريقة مهذبة، ألغينا عضوية الجزراوية.
تعلمت، أخيراً، التعامل مع الفتيات كصديقات، دون أي ميول ماجنة، واسترقاق النظر الى نهودهن، وسوف تنضج مثل هذه الافكار في رأسي أكثر في السنين التالية.

الدليل الأوضح كان تلك العلاقة مع سميّة، التي نمت وكبرت مثل نبتة صغيرة تمّد جذورها في عمق التربة.
وجودها معنا صبغ جلساتنا بمسحة أنثوية خاصة، ولاحظت كم هو ضروري وجود الأنثى في حياتي اليومية.
هذه، صارت، عادة أعتبرها واحدة من الأمور الجيدة النادرة في حياتي حتى اليوم.

كنّا نتحدث، بحرّية، عن كل شيء، وكانت تهتم، على وجه الخصوص، بمغامراتي النسائية، التي كانت تنتهي على الدوام بالفشل، حتى ذهبنا في رحلة نظمتها الكلية إلى الساحل السوري.

في الباص جلسنا سوية وتلحّفنا ببطانية تحمينا من برد تلك الأمسية الربيعية. هناك بدأت علاقتنا بمداعبات مُحرّمة، بينما بقية الزملاء يغطون في النوم.
أحببت، كما لم أحب من قبل.

لم يكن حُبّاً، بنزوات الشباب المعتادة، بل كان حباً طُبخ على نار هادئة، كما يفعل كبار الطباخين.
تعلّمت كيف أسعدها وأرضيها، دون تكلفّ وبعفوية لا تحتاج كتب ومراجع، وهي بادلتني ذلك.

عرفنا أن خبرتنا السابقة لم تكن سوى أفعال مراهقة خرقاء.
الجنس، بمفهومه الأعرض، لم يكن ذاك الهاجس المقلق، بل ملامسة صغيرة مسروقة أثناء مشاهدة فيلم في الدار المعتمة، كانت بديلاً مذهلاً ومتعة لا تزن.

صرت أشتمُّ دمشق على نحو جديد. رائحة البخور التي كانت تعبق، صادرة من كنيسة يسوع نور العالم أيام الآحاد، باتت تثير فيّ روحانيات لم أعرفها من قبل.
البخور كان رائحة الموت بالنسبة لي في مقبرة المسيحيين في حي قدور بك القامشلاوي، صار الآن رائحة الحب في القصاع.

هل للحب رائحة؟ يمكن، إلا أنها خارج سياق الوصف والتحديد والكيمياء. مثل طعم البرتقال، أعرفه جيداً، لكنني لا أعرف كيف أصفه.

حب سمية مَسحَ غمامة الطيش، وبتُّ أُسيّرُ، ليس بقوة الأعضاء الجنسية التي كانت ترسم وقتي وتنسّقه كتقويم، بل بدافع أكثر سمواً ونبلاً.
كنت في بحيرة حتى أُذني، مغلّفاً ومحمياً بالحب.

توزيع أوقاتي اختلف عمّا قبل، لأنه تمّ دوماً بالتنسيق مع سميّة.
وهذا، كان يشمل زيارة عائلتي.

العائلة انتقلت إلى دمشق، بعد أن نجح صهري، زوج أختي، بنقل عمله، في ملاك التعليم، إلى دمشق، وهو الدمشقي بالأصل.

لم يكن إيجاد مسكن في دمشق، المشكلة الأبدية، سهلاً أبداً، لينتهي بهم المطاف في بيت بائس في حي التضامن، الذي يتميّز بالعشوائية على مقربة من مخيم اليرموك.
كنت أذهب لزيارتهم وحذائي مغطى بالطين، حاملاً ثيابي المتسخة في كيس، وكي أتمتع بوجبة بيتية.

بسبب قربي من الكلية، قرع الكثير من الزملاء على باب غرفتي.
لم أستسغ تصرفات بعضهم، فكتبت على لوح كبير عشر فقرات أسميتها «النظام الداخلي»، أجبرتهم على قرائتها والموافقة عليها، وإلا يجب أن يتقبلوا الطرد.
وقد قمت، في الواقع، بطرد البعض، مما زاد في عدد المتهامسين عني وإعتباري شخصاً غريب الأطوار.

لم أكن غريب الأطوار، مقارنة مع آخرين، مثل حنا «السكران»، الذي زرته يوماً وكان منهمكاً بطبخ قطّة الجيران، التي طالما أزعجته. أو الزميل الذي كان يركض على السور المحيط بسطح الكلية، مُعرضاً حياته لخطر السقوط ومُثيراً الرعب والتشويق في قلوب الزميلات. أو في طرافة عبد الحي حطاب، الذي كان ينشر ثيابه الداخلية المغسولة في فناء قبو قسم النحت.

في عطلة منتصف السنة دعاني عامر لزيارة عائلته في إربد. هناك تذوقت، ولأول مرّة، المنسف الأردني على الطريقة البدوية الصحيحة، وباستعمال الجميد الكركي (من مدينة الكرك) المشهور.

الإربد، النسخة الأردنية من القامشلي، بشوارعها، أرصفتها، طبيعتها، أشجارها وناسها.
ولناسها قصص طريفة جميلة بجمال أفلام موجة الواقعية الإيطالية في الأربعينات والخمسينات.

عائلة الطيراوي كبيرة في المدينة، ولهم الكثير من الطرائف. واحدة منها تعود إلى الطبيب الطيراوي الذي كان، بكل بساطة، يترك عيادته ومرضاه، دون سابق إنذار، ليقفز في سيارته الجيب ذات اللون العسكري، حاملاً بندقيتي صيد، ويذهب ليغيب عدة أيام.

مرّة، جاءه بدوي يشكو من البواسير. طلب منه أن يخلع ثيابه ويتمدد على بطنه على سرير الفحص. وحينما فتح فلقتي مؤخرة الرجل لاحظ أن أحداً ما وضع عليه طبقة من البنّ.
والمعروف أن البنّ المطحون أستخدم لتهدئة آلام البواسير في الطب العربي. الدكتور الطيراوي هزّ رأسه وقال بصوت حكيم «شوف يا إبني، قدامك طريقان».

ولطيراوي آخر سمعة واسعة في مشاهدة كل عروض سينما إربد الوحيدة، والتعليق على مجريات الفيلم طيلة الوقت، وبصوت عالٍ، دون أن يثير غضب الجمهور.
مرّة، كان الفيلم لبريجيت باردو، وكان حاضراً دون أن يتفّوه بكلمة طيلة مدة العرض، والجمهور يلتفت إليه أحياناً مستغرباً هذا الصمت المريب.
حينما انتهى الفيلم، وقف مخاطباً الجمهور «يا جماعة، أسوق عليكم الله، هل هذه إمرأة وزوجتي إمرأة؟».

في الصيف وأنا أتحضر للذهاب إلى سويسرا مع منذر، جاءني مروان حداد وعرض علي دوراً صغيراً في فيلم الإتجاه المعاكس عن شاب مثقف، يخوض نقاشاً ما.
وبسبب تضارب الأوقات، ذهب الدور إلى نزيه أبو عفش، لأفوّت على نفسي فرصة النجومية السينمائية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??