الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مام سليمان بحري في ذمة الخلود

سربست مصطفى رشيد اميدي

2019 / 7 / 12
أوراق كتبت في وعن السجن


مام سليمان بحري في ذمة الخلود

يوم 26 نيسان سنة 1988 كان يوما ربيعيا حارا وقائضا في بغداد، ونحن في اقفاص سيارة مغلقة كتب عليها من الخارج (موطا)، والناس في الخارج لا تعرف انه يوجد في داخل هذه السيارة ستة أرواح بشرية مرهقة ومعذبة وينقلونهم الى سجن أبوغريب لتلقي مصيرهم المجهول.
وكان من المصادفة ان تكون زنزانة الفقيد (مام سليمان بحري) في محجر الإعدام هي التي استقبلتني مع أبو عبير (عبد فيصل السهلاني) وكان فيها محكومون اخرون جلهم من الأحزاب الشيعية الإسلامية الناشطة في وقتها. ومنذ نظرتي الأولى لوجهه فقد بدا لي واضحا من ملامحه ولسانه أصله ونبعه وهو بفراسته عرف انني من مناطق الجبال. وهذه كانت بداية معرفتي به حيث ان تعامله وتصرفاته كانت تدل على ايمانه العميق بايزيديته النابعة من جبال ووديان وسهول كردستان. هذا الرجل على الرغم من كبر سنه قياسا الى عمري الخامس والعشرون في حينه، لكنه كان لي الأخ الكبير والصديق والأب العطوف خاصة ونحن نعيش في زنزانة صغيرة قذرة، حيث كان عرضها 180 سم وطولها حوالي أربعة أمتار ومن ضمنها (مرافق) حوالي متر مربع تقريبا. في هذه الظروف حيث الكل ينتظر مصيره ويتهيأ للموت في كل أيام الاحاد والأربعاء من كل أسبوع، لكن مام سليمان كان يتصرف كأنه هو في ذرى جبل شنكال حيث يؤدي صلاته عند الشروق والغروب بكلمات كرماتجية واضحة، وكان حريصا على الا يلبس الا ملابسه البيضاء والتي تدل شخصية الايزيدي بكل وضوح. وقد كنت أحيانا ادندن بصوت منخفض ببعض المقامات والاغاني الكردية بسبب الحزن والكابة، فقد كان الفقيد يواسيني ويشد من ازري، لا بل كان يغني أحيانا اغنية ( لى لى دايكى حيرانى) بكلماتها الاصيلة.
لقد كان الشيخ سليمان متهما بمساعدة معارضي النظام الصدامي للهرب من بطش النظام الى سوريا، حيث كان يمتلك قطيعا من الغنم وسيارة حمل خفيفة ( بيك اب)، وقد سالته ذات مرة من هم كانوا هؤلاء المعارضين، فقد قال انهم كانوا من جميع شرائح المجتمع ومن مختلف قواه السياسية عربا وكردا، شيعة وسنة ومن جميع الأحزاب السياسية التي كانت ناشطة في الساحة، وحتى مواطنين عاديين. لهذا خططت مخابرات النظام لاعتقاله حيث أرسلوا اليه عددا من ازلامهم وادعوا انهم يريدون مساعتهم لغرض تهريبهم الى سوريا وقاموا بتسجيل المحادثات كاملا فألقوا القبض عليه أخيرا. لكن مام سليمان كان صامدا في الاعتقال على الرغم من تعرضه لأقسى أنواع التعذيب الجسدي من ضمنها (المروحة) و(المنكنة) وغيرها، وأنه لم يهتز على الرغم من كبر سنه، لهذا حكم بالاعدام وكان موجودا في محاجر الإعدام منذ مايقارب الستة أشهر قبل وصولنا. وقد عرضت مخابرات النظام على هذا الرجل التعاون معهم مقابل إطلاق سراحه وتسفيره الى سوريا، ومن ثم التحرك عليه بعد سنة من قبل أحد أزلام المخابرات لكي يزودهم بالمعلومات المطلوبة عن تحركات رجال المعارضة العراقية هناك. لكن الشيخ سليمان رفض ذلك، ولدى عودته من التحقيق بعد عدة أيام اخبرته بانها كانت فرصة للخلاص من حبل المشنقة وهناك لا تطيلهم ايادي ازلام النظام، لكن الشيخ كعادته ابتسم وقال بانه لا يمكن ان يثق بوعود النظام وان افراد عائلته سيكونون الضحية لهذا العمل وسيجبروني على التعاون وهذا غير ممكن، ثم سالني الا تعرف لماذا، فجاوبته بالنفي، فقال لي بانه أصبح عضوا في الحزب الديمقراطي الكردستاني سنة 1959وانه اقسم اليمين في حينه على الإخلاص للشعب والوطن، وعلى الرغم من انقطاعه عن العمل الحزبي والسياسي لاحقا، لكنه ابى الحنث بقسمه على الرغم من مرور سنين طويلة وحله من أي التزام حزبي بعد ذلك. لذلك بقي في السجن بعد تخفيف حكمه الى المؤبد لمدة ستة عشر سنة، الى أن أطلق سراحه بالعفو العام الذي أصدره النظام نهاية سنة 2002.
هذا الرجل كان من طبقة الشيوخ في الديانة الازيدية وعندما خرج من السجن اصبح (متولي) مرقد (شرفدين) في سنجار الى يوم وفاته، فقد كان يتعرض الى الضغط والاستفزاز من قبل عدد من المحكومين مثلنا والمنتمين الى الأحزاب الإسلامية الشيعية كونه يزيديا، فقد كانوا مثلا يقومون بترديد (اعوذ بالله من الشيطان الرجيم) عشرات المرات بصوت عالي جدا وبعد كل اذان، لذلك كان يغلي غضبا بداخله ولا يعبر عنها حيث كان يكظم غيضه ولا يرد عليهم ابدا. الى ان وصل الامر الى حد لا يطاق فقررنا مع الشهيد البطل أبو نغم (سعد موسى جعفر العادلي) الضابط المحكوم بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي العراقي من أهالي الكاظمية وكان مسؤولا عن صفحة كاملة في جريدة (القادسية) قبل اعتقاله، وكان أيضا مراسلا لجريدة (القبس) الكويتية. قررنا التصدي لهؤلاء لغرض جعلهم يكفون عن اذية الشيخ سليمان حيث انضم الينا أيضا الشاعر نعمة السوداني، وقد خفت هذه الظاهرة لاحقا لكنها لم تنتهي، بالمقابل فقد تلقينا التهمة الجائزة بكوننا كفرة وأننا آثرنا الغير المسلم على المسلمين وانه يجب مقاطعتنا بعدم التحدث وتناول الطعام معنا، ولأنه لم يكن لديهم حول آنذاك والا فانهم كانوا يرددون ان عقابنا هو القتل. لقد رحل عنا رجل صميمي قوته وبأسه كان يستمدها من ايزيديته ولغته وشموخ جبل سنجار.
الرحمة على روحه الطاهر ولذويه الصبر والسلوان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا سربست
مراد سليمان علو ( 2019 / 7 / 12 - 20:50 )
كلمات مؤثرة وجميلةبحق الشيخ البحري .. له الجنة ولنا ولكم الصبر . تمنياتي لكم بالموفقية

اخر الافلام

.. الأمين العام للأمم المتحدة للعربية: عملية رفح سيكون لها تداع


.. الأمين العام للأمم المتحدة للعربية: أميركا عليها أن تقول لإس




.. الشارع الدبلوماسي | مقابلة خاصة مع الأمين العام للأمم المتحد


.. اعتقال متضامنين وفض مخيم داعم لفلسطين أمام البرلمان الألماني




.. الحكم بإعدام مغني إيراني بتهمة «الإفساد في الأرض»