الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التسامح الحضاري في سيرة نجيب محفوظ و أحلامه

محمد سمير عبد السلام

2006 / 5 / 9
الادب والفن


يحظى موضوع التسامح الحضاري باهتمام واسع ضمن حقول الأدب في تداخلها مع الجغرافيا السياسية المعاصرة ؛ فمسألة تجاوز العنف المتولد عن حب البقاء و مبدأ القوة الإنساني ، لا تصير واقعا إلا بتنمية التفاهم و الخروج من أسر الأحادية الثقافية المغلقة ؛ و يطلق إيهاب حسن على هذه العملية Beyond Postmodernism أي بعد - (ما بعد الحداثة) أو تجاوز ما بعد الحداثة و يميزها بانفتاح الأنا على الآخر الثقافي ثم الكوني و من ثم تغييب الفواصل المزعومة بين الهامش و المركز و الكوني في حوار مفتوح ( راجع – إيهاب حسن – from postmodernism to post modernity 2001 ) و قد لاحظت أن سيرة محفوظ و مجموعة أحلامه تؤسسان لمثل هذا الحوار بوعي أو بلا وعي في مخيلة المؤول التاريخي أو الثقافي ضمن الصيرورة الإشارية .

إن مفهوم الحكمة عند الأديب الكبير نجيب محفوظ يعيد تكوين الثقافات و التوجهات الفلسفية الإنسانية ، بشكل يلتبس فيه المدلول الثقافي الكامن بالظواهرالافتراضية الفريدة و الشخصيات كعلامات غير قابلة للاختزال . هكذا تصير الثقافة في النص المحفوظي مادة material قيد التشكل المستمر في صيرورة الكتابة الإبداعية ، تأتي إذا صورة سعد زغلول في أحلامه لنرى مفهوم التنوير عابرا سياقه الأصلي إلى صور العودة المقدسة للذات الإنسانية ، سواء أكانت حاملة لرمزي أدونيس أو حورس في ثقافة بابل ومصر . ولم يكن المدلول الثقافي المخبأ بوعي أو لا وعي مكتفيا بسياقه و لكنه يعبر عن خيالات العودة القريبة المقدسة إلى التنوير و الطليعة الجديدة ، ممثلة في افتراضية الواقع كحلم لا ينتهي أو مزيج من اللعب، و أرق العزلة الوجودية دون فكاك منها. الحكمة هنا تستعيد قداسة الفاعل المقاوم للموت و تتعاطف مع الاندماج الثقافي المتجاوز لحدود الزمكانية التقليدية ، فكثيرا ما نقرأ في أصداء السيرة و الأحلام ، البهجة الكامنة في انقطاع الحياة عن بعض الأحبة و الزملاء ، حيث تنفتح حدود الصورة الكونية لتصعد شجرة محفوظ المجاورة للقبر الذهبي ، الانقطاع في أصداء السيرة تحول ديناميكي نحو مجال آخر من الحقيقة يتقاطع فيه الزهد باحتفالية صاخبة بالحياة التي تنبع من الأرض وتمتد بلا حدود في الهواء و كأن آلام الفقد ملتبسة بالأساس بجماليات الاختفاء ، حيث يختلط الوجود بالفراغ في نزعة إيروسية متكررة في السيرة و الأحلام على حد سواء .
في نص ( رسالة ) – ضمن أصداء السيرة – تبرز رائحة الوردة من كتاب السارد حاملة لآثار النسيان والتذكر معا ، لقد بزغ الماضي منها ليحتل النسيان من داخله ... الوردة تقاوم حياتها بالاختفاء السابق للحظة الحكي ، بينما تحمل رسالة متجددة لوعي السارد بوجود جديد حيث تتبلور الرائحة و تنشئ مجالا جديدا لتأويل الحضور رغم الاختفاء المعلن .
وفي ( النسيان ) يرصد السارد حالة المتأمل الفقير ، حيث التأويل الوجودي للكينونة خارج المسار المتصل للتاريخ ، فالشيخ مدرس اللغة العربية الذي أحيل إلى المعاش منذ أكثر من عشرين عاما يعايش لحظات تأمل كأنما يرقب ما وراء التاريخ و الهوية إذ تبخرت قواعد النحو ووجوه التلاميذ و الجيران من رأسه ، ليدخل سياقا جديدا و يعلن ضمنيا فراغ الوجود السابق فهو كالهواء العابر .
و في ( الطرب ) يتساءل السارد حول هوية العجوز الذي ألح عليه ليذكره بنفسه دون فائدة ، وعلامة هذا الرجل أنه كان يغني لهم في المدرسة الابتدائية بصوت جميل .. العدم هنا يشبه النسيان فالعجوز وفق هذا الوصف غير موجود ، هل هو السقوط المحتمل دائما ؟ أم أنه عبث الفراغ والعدم بوصفهما حياة ؟
و في ( التلقين ) يتحدى السارد مركزية الحياة الأرضية الكامنة وراء المشيعين لجنازة ، من خلال الوصف الظاهراتي للنعش الذي أتى كطائر أسطوري يتخطى الجميع رغم أنه محمول على الأعناق , هل يلتحم النعش بصفاء مجرد لا يدركه الحاضرون ؟ أم أنه نفي جمالي لمركزية الحياة من داخل مظهر الطيران ؟
و في ( مفترق الطرق ) يمتلك الاسم طاقة سحرية تصويرية ، كما يقع في علاقة تناقض أساسية مع الهوية الإنسانية التي يدل عليها ، فعمة السارد هي أم البيه ؛ لأن مدلولها يرتبط بالاحتفالية المصاحبة لوجوده . هكذا يتسلل البيه إلى الأم و يشعرنا باختفائها الضمني ، بينما يصير هو مستبدلا بصورة أخرى لأخيه الذي يشبهه إلا أنه يرتدي جلبابا بسيطا و مركوبا لكنه كان أقرب لنفس السارد . لقد تجرد الاحتفاء بالبيه من مركزه / البيه نفسه ويصير صورة دون مركز ، فالبديل اكتسب طاقة المركز ليفكك حضوره الطاغي و يصبح الأخ حاملا مدلول البيه .
و في ( الصور المتحركة ) تشرق الحياة في الإطار الحامل لصور الموتى من أحباء السارد كأنها بعثت للتو من الذكرى ، ولا نجد في النص إشارة واحدة للغياب . فالحياة عند محفوظ هي لا وعي الصور بوصفها تكوينات فاعلة و قادرة على صنع مسار جديد دائما من خلال الآخر .
و في ( من التاريخ ) يعاين البطل لحظة حروجه إلى آفاق أنثوية متسعة ، فقد قيل إنه هاجر أو هرب ، لكنه كان يجلس متأملا النيل ، فبزغ له رأس امرأة جميلة أخذته بقوة سحرية نحو الماء ، أهي لحظة بدء جديدة للتكوين الذكري حين يتأمل أنوثة وعيه الهامشية ؟ أم أنها أشباح للقرابين جاءت حاملة للحرية و الاتساع من خلال كثافة الماء المضادة لاختزال مفهوم الهوية ؟
و تبدو الصحراء كواقع افتراضي فائق يواكب ممارسات ما بعد الحداثة postmodernism في نص ( الأشباح ) ، فقد مرت أشباح غير محددة الملامح أمام السارد كرجال الأمن حتى وجدهم مجموعة من الهياكل العظمية التي تتسلل من الرمال ثم تتكاثر . إن بزوغ عناصر الحياة من الرمال يدل على القوة السحرية للتداعيات النصية الافتراضية بين العلامات فوهج الرمال يمنح الحياة لأنه نشأ في نص محفوظ المتجاوز لحدود العلاقة بين الدال و مرجعه . هل هي الهيئة التمثيلية الانفجارية للموت ؟ أم أنها الحياة في صورتها الوحشية المقاومة للموت و تقادم التاريخ ؟ إننا بصدد جماليات انعدام الوضوح في أصل إشاري غائب و لكنه متحول في اتجاه الاختفاء ، إذ يستهلك معرفة الذات المدركة بالكشف عن سلبيتها الكلية في عمليات التمثيل الزائفة ، المضادة أيضا لزيف المحاكاة ، فواقعيتها تستعصي على التحديد مثل الإشارات الحضارية في تسامحها التكويني الجديد .
وفي ( القبر الذهبي ) يصف السارد قبرا ذهبيا قائما تحت أغصان شجرة سامقة مغطاة بالبلابل الشادية مكتوب عليه " هنيئا لمن كانت نشأته في بوتقة الهجران "
إن اختيار السارد للشجرة فيه عودة إثنولوجية للاحتفاء بالحياة في صعودها الملكي / الأبوي . يكتب جيمس فريزر أن وظيفة ملك الغابة يبررها انتزاع الملك لأحد الأغصان من شجرة معينة في الروضة المقدسة ، وهذا الغصن هو الغصن الذهبي ، و رغم أن فريزر لا يضع تقديس الأشجار في المرتبة الأولى من نشوء الأديان فإنه يضعه في مكانة ثانوية بعد الخوف من الموتى ( راجع / جيمس فريزر / الغصن الذهبي / ت – فوزي العنتيل – هيئة الكتاب 2000- مقدمة فريزرص79) , النص المحفوظي يبدأ من موضوع الموت كمادة للبهجة لا الخوف ممثلا في القبر الذهبي الذي استبدل الحياة الملكية المخبأة في الغصن الذهبي , من هنا تحتل الشجرة مركز القداسة ، فهي امتداد أصيل للسعادة المتولدة عن الفقد أو الهجران .
من القبر الذهبي يولد عبد ربه التائه – وفق تداعيات القراءة – فهو شخصية إشكالية من حيث الاسم و التاريخ . يذكر السارد أنه ظهر في الحارة ينادي على ولد تائه . هل كان الولد هو هوية الشيخ التي هجرها عامدا ليتأمل بهجة الموت و الفقدان ؟ أم أنه الصوت الآخر للسارد ، صاحب التاريخ التمثيلي المضاد للقناع الأول ؟ لا يمكن إغفال هوامش الكتابة التي يهيمن عليها عبد ربه في أصداء السيرة .
عبد ربه التائه رجل زاهد لكنه يعايش صعوده المقدس من خلال احتفالية جنسية مجردة بالحياة . هذه الاحتفالية أكثر ارتباطا بالصورة و إيحاءات الرؤية ، و يتصل هذا المبدأ ثقافيا بالحكايات و الأساطير الهندية لأتبع كرشناKrishna ، إذ يذكر جفري بارندر اعتقادهم في مغامرات كرشنا الغرامية ، خاصة مع حالبة البقر ، و إمكانية بعث هذه المغامرات إذا جمعت تجسيدات رفاقه لعله يلعب معهم مرة أخرى ( راجع – جفري بارندر – المعتقدات الدينية لدى الشعوب – ت – إمام عبد الفتاح – المجلس الوطني للثقافة بالكويت 1993 ص 185 ) .
الأثر هنا يرتبط بالحياة رغم هيمنة خطاب الموت ، فالأخير ما هو إلا مقدمة للصعود و التوحد المرح بالصور الكونية كتجليات مقدسة . ومن ثم فعبد ربه زاهد في أحادية الحقيقة الواقعية ؛ لأنه يعشق الأثر و ما يحمله من لذة رغم ظاهرية الفقد .
و لننظر إلى النص الآخر المعنون بالقبر الذهبي في أصداء السيرة ، فالشجرة فيه غاصة و ليست مغطاة . و الهجران اقترن بالموت و الحياة ، لا النشأة ، و كأن القبر الذهبي قد تحرر هنا من مدلوله في النص الأول ليصير حاملا لصفات الشجرة و بهائها ، فكان بحد ذاته صعودا لا طريقا للمعرفة ، حيث معاينة الحب دون تحديد للحبيبة ، و معانقة أنفاس الكون و صوره من داخل حالة الانقطاع .
وسوف نعاين تلك القدرة الإنتاجية المتجددة لحياة المدلول في مجموعة الأحلام ، فقد دخل السارد في الحلم ( 97 ) حجرة السكرتارية التي شيع جنازات موظفيها منذ زمن ، ووجد الوجوه القديمة نفسها ، إلا أنها لم ترحب به . لقد انتصر الموت بشكل غير واع للحياة فظهرت تلك الصورة الأخرى للزملاء ، ولكن من وراء حاجز شفاف من الوحدة الوجودية التي تمنع الوعي قدرة على التأمل الظاهراتي في كينونته من خلال مصير الآخر . أما الصورة المتكررة للوجوه فقد كسرت قلق الموت من داخل الستار الشفاف للمعاينة . و في الحلم رقم ( 100 ) تولد المحكمة كسياق إبداعي افتراضي من داخل مفردات الواقع نفسه ، فالواقع في الأحلام سياق تصويري فريد و متغير . فالسارد / المتفرج في ساحة المحكمة يصير متهما و مسئولا عن الجرائم .إن إدانة الذات هنا هي إدانة لفعل المشاهدة بوصفه معرفة بالعبث المتكرر . العارف خبير بالجريمة حالم بها و ممثل لها في النص . ومن ثم اكتسب مدلول الفاعل في تداعيات الكتابة . هل هو التلصص المصاحب لتاريخ الكاميرا عند سوزان سونتاج ؟ أم أنه استشراف لإحلال الذات في السياق الفوتوغرافي بوصفه تمثيلا ؟
و تتسع مساحة الفراغ كمدلول شديد الثراء بالثقافات و الرؤى الجديدة في الحلم رقم ( 120 ) فقد دخل السارد بصحبة مرشد إلى المملكة التي تغنى بروعتها الشعراء ، فوجد بحيرة ثم متحفا و مقبرة . ثم دعا المرشد مجموعته إلى الراحة حتى لا يصدمهم الانبهار . و أخيرا ابتسم وواصل . لقد ترك محفوظ مساحة فارغة في نهاية النص لكنها تمتد في حضور مادي كأننا نراها في كل سياق أو أسطورة جديدة محتملة .
هل يمكننا قراءة تلك المساحة من خلال الحلم ( 118 ) ؟ و فيه يظل السارد منتظرا بين القاطرة و شباك التذاكر حتى انطلاق صفارة الإنذار و ذهاب القطار . ثم يقول " وهكذا فاتني القطار " إن انقطاع الفعل عن غايته في صورة القطار المذكورة يحيلنا مباشرة لمملكة الشعراء التي لا ينتهي عندها المدلول . هكذا يرصد محفوظ لذة الغياب من خلال حيادية الرؤية / وجهة النظر .و يمتد الاحتفال بالحياة في الأحلام حتى يختلط بالتدمير ثم البعث و هكذا في الحلم رقم ( 145 ) حيث يقام مهرجان عظيم تحضره رموز الأمم و يسلمه رئيس المهرجان كرة فقرر أن يتبرع بها لأعمال الخير ، لكنها انفجرت لحظة الانقسام و تناثرت حولها بقايا الإنسان و الحيوان و النبات و الجماد . هل هو لعب بتناقضات الأوضاع السياسية ؟ أم أن الموت يمثل احتفالا آخر بالصورة التعبيرية عقب الانفجار الكبير ؟ . ومازالت أحلام محفوظ تحمل في جعبتها الكثير من التأويلات الممكنة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية