الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا صوابي براسي

محمد الحاج صالح

2019 / 7 / 14
الادب والفن


أنا صوابي براسي
قال الدكتور اسماعيل الحامض إنه كان في سنته الأخيرة للدراسات العليا في حلب عندما حدثت حالة طوارئ غير مسبوقة. عشرات الجرحى في الإسعاف وفي الممرات وفي الأجنحة وفي غرف العمليات، إضافة إلا قتلى نقلوا وهم موتى أو أنهم توفوا في المشفى. استنفار تام واستدعاء للإطباء والممرضين والممرضات والفنيين جميعاً وفوراً. يوم قيامة.
في ريف من أرياف حلب حصلت مشاجرة بسيطة على خلفية خلاف على أرض. تطورت الأمور خلال أيام إلى أن وصلت إلى هذه المعركة الحامية.
يقول الدكتور أن كهلاً كان يلازمه وهو يخيط أو يضمد جراح أربعة شبان أخوة. وكان الطبيب قد وجدهم معاً في الممر متكتلين متزاحمين وكأنهم يرغبون بإشغال أقل حيز من المكان. وما إن بدأ الطبيب بالتخفيف عليهم وممازحتهم على الرغم من الوضع؛ حتى تفرفدوا وأظهروا أريحية وروح مزاح ساخرة حول ما حصل. بل إنهم أبدوا ندماً على المشاركة ليس من باب الخوف كما كانوا يكررون وإنما بسبب هذه الدماء من أجل خلاف تافه. وكان الكهل، الذي تبيّن أنه أبوهم، يحوم حولهم ويضغط على راسه ويكرر كمن يهذي "أنا صوابي براسي يا ابن أخوي".
يقول الدكتور أنه ما كان ليلوم الكهل، فالوضع ليس بالهين، ومن الطبيعي أن يعبر ويهذي بأن "صوابه براسه". ومعلوم أن هذا التعبير "صوابي براسي" يعني في مناطق كثيرة من سورية بأن المصيبة كبيرة، وأن تأثير المصيبة على المرء كمن ضرب ضربة قوية على رأسه.
مع الوقت بدأ الطبيب يتضايق من هذيان الكهل وترداده "أنا صوابي براسي يا ابن أخوي"، وصار ينهره ويطلب منه الابتعاد قليلاً كي يقوم بعمله. لكن الكهل ظل على إلحاحه وعلى الوقوف إلى جانب الدكتور مع اسطوانته الشغالة "أنا صوابي براسي يا ابن أخوي". يقول الدكتور في لحظة من الضيق والغضب نفضت يدي في وجهة الكهل وصرخت "كل الناس مصابة براسها يا حجي". يقول الدكتور انتثر دمٌ من كفوف الجراحة على وجهه، وأحسست فوراً بندم على تصرفي. مسح الكهل وجهه. وتلع رأسه ودفع به نحوي إلى درجة أن رأسه صار في حضني وهو يقول "أنا صوابي براسي يا ابن أخوي... هون شوف هون". كان يشير إلى نقطة في قمة رأسه حيث تكتل دم وتجمد.
يقول الدكتور عندها عرفت أنه مصاب فعلاً وأن تحت الدم الجامد المتلبّد مع شعره جرحاً. يقول نظّفتُ الجرح ونظّرته كما نقول طبيّاً. فما الذي وجدته؟ احزرْ. وجدت ثقباً في الجمجمة. كان واضحاً أن الفتحة هي فوهة دخول رصاصة، وكانت الرصاصة تلتمع صفراء في عمق الجرح تحت الضوء الساطع.
انتشر الخبر بسرعة والتمّ أطباء حولنا، وراحوا كل بدوره يتفقد جرح الرجل الكهل. غرف العمليات جميعها مشغولة؟ فما العمل؟
كنا فعلاً وكأننا في جلسة استشارة ميدانية. دقائقَ وقرّ القرار بأن نخاطر ونخرج الرصاصة ويبقى الرجل تحت المراقبة اللصيقة ريثما تفرغ غرفة عمليات. حضّرنا كل شيء في الممر، واستخرجتُ أنا الرصاصة بكل سهولة ويسر، ولم يتبع استخراجها أيما نزف.
ظل الرجل تحت المتابعة ساعة، ساعتين، الليلة الأولى، ويوم ويومين وثلاثة ولم يحصل له شيء، لا نزفاً، ولا فقد وعياً، ولا اضطرب كلامه، ولا انشل له عضو، فضلاً على أنه لم يمت... لقد نجا وما زال حيّاً إلى الآن.
من أين جاءت الرصاصة؟ وكيف أنها لم تُحدث عقابيل؟
لا تفسير سوى أن الرصاصة سقطت سقوطاً حراً بعد أن بلغت مداها في العلوّ بعد إطلاقها بطريقة عرائسية أو تخويفية، وبالمصادفة كان سقوطها على رأس الكهل، وأنها بعد أن اخترقت الجلد وعظم الجمجة فقدت قوة اندفاعها فاستقرت على الغلاف المسمى طبياً بالأم الجافية، وهو غشاء لا أوعية دموية كثيرة فيه. لو أن الطلقة تجاوزت الأم الجافية وأصابت الأم الحنون أي الغشاء الداخلي المغلف للدماغ مباشرة وهو كثير الأوعية الدموية، لحدث نزف كثير وغام وعي الكهل ثم فقده... ثم يموت إن لم يجري تداخل سريع جداً.
لقد نجا الكهل، نجا بمعجزة وكتب له عمر جديد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث