الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


االدلالة التاريخية والإبيستيمولوجية للتوحيد بين القوى الطبيعية: نحو النظرية الفائقة

رضى حليم
باحث وصحفي مغربي

(Rida Halim)

2019 / 7 / 17
الطب , والعلوم


أصبح أهم مطمح الفيزياء المعاصرة اليوم هو إيجاد نظرية شاملة تصبح معها القوى الأربعة (الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوة النووية القوية والقوة النووية الضعيفة) تعبّر عن قوة واحدة، يصطلح على تسميتها بالنظرية الفائقة. وغدت نظرية التوحيد اليوم الفكرة المسيطرة على الفيزياء النظرية. وتواجه هذا المشروع مشكلات عديدة، أهمها وجود نظريتين كبيرتين تسودان الفيزياء، هما النسبية ونظرية الكوانطوم. ويأمل العلماء في التوصل إلى هذا التوحيد بفضل مجموعة من التناظرات الرياضية، التي يطلق عليها اسم التناظر المعياري. ولقد كانت القوتان الضعيفة والكهرومغناطيسية أول قوتان تقعان في شرط التناظر المعياري لتصبحا قوة وحيدة اسمها القوة الكهروضعيفة.
في البداية، استطاع ماكسويل بوضع نظريته الكهرومغناطيسية أن يتجاوز جل المبادرات الهامة لدراسة الكهرباء والمغناطيسية في العصر الحديث، التي توالت خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر، وكذا الأبحاث الهامة التي أدت إلى صياغة قوانين الكهرباء والمغناطيسية لدى أبرز العلماء المحدثين كـكولومب وفراداي وأورشتيد وأمبير. وقد أبرزت هذه الأبحاث الفيزيائية الأولى قبل ماكسويل أن الظواهر الكهربائية والمغناطيسية تشمل عددا كبيرا من الظواهر في الطبيعة، وتمت صياغة القوانين الأساسية التي تفسر بنية وخصائص هذه الظواهر الطبيعية المتنوعة والتلميح إلى إمكانية وجود رابطة توحِّد بينها. لكن الأبحاث التي سبقت ماكسويل لم تشكّل نظرية فيزيائية موحدة وشاملة لظواهر الكهرباء والمغناطيس.
بدأت تظهر أولى ملامح هذه النظرية الفيزيائية الجديدة من خلال اكتشاف خصائص وبنية مجموعة من الظواهر الطبيعية المعقدة وتفسيرها، ولعل أبرزها اكتشافه أن الضوء عبارة عن مجال كهربائي ومجال مغناطيسي ينتشران في آن واحد، وأنه من الممكن إحداث مجالات كهرطيسية تنتشر بسرعة الضوء. وعلى أساس ما تنم عنه هذه الرؤية التي تؤطر نظرته للظواهر الكهرومغناطيسية، أسس ماكسويل فرعا جديدا من فروع الفيزياء الكلاسيكية والمعروف باسم الكهرطيسية، يوحد بين ثلاث قوى طبيعية معقدة هي الضوء والمغناطيسية والكهرباء.
أيد هذه النظرية تجريبيا اكتشاف العالم الألماني هيرتز سنة 1888م الأمواج الهيرتيزية، وهي أمواج تتوفر على خصائص مماثلة لخصائص الكهرباء وتنتشر بسرعة الضوء، ولا تختلف عن الموجات الضوئية إلا بكونها أطول منها. ومن هنا أصبحت النظرية الموجية وحدها المقبولة علميا في الفيزياء في دراسة ظواهر الإشعاع، وباتت تتوفر على معادلات وقوانين دقيقة ومتناسقة، الشيء الذي ولد في نفوس العلماء انطباعا حّملهم على الاعتقاد أن جميع الظواهر الطبيعية الممكن اكتشافها مستقبلا لا بد أن تقبل التفسير بالنظرية الموجية، في شكلها الجديد. وكان هذا هو الرأي السائد طول العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وتعززت ثقة العلماء بأنفسهم واعتبر كثير منهم أن العلم الفيزيائي الذي يمتد على مدى مسيرة غنية من النجاحات منذ نيوتن حتى ماكسويل اكتمل ووصل إلى أقصى درجات الكمال والنضج. وعبر عدد من العلماء عن هذا الشعور بالزهو، بحيث أكد بعض الفيزيائيين بثقة أن هاذين العالمين قد أجابا عن جميع أسئلة الكون الكبرى، وأن المسائل التي لم تحل بعد هي مسائل جزئية تتعلق بتفاصيل سرعان ما سيتم فك مغاليقها وستجد حلها في مستقبل الأيام في إطار النظريات القائمة.
في نهاية القرن التاسع عشر أعلن عدد من العلماء، ويُذكر منهم اللورد كِلفَن (وليام طومسون)، أن العلم قد اقترب من نهايته وأشرف على الاكتمال. فقد تم حلّ جميع مشاكل الفيزيائية الأساسية، ولم يبق أمام العلماء إلا البحث عن حلول للتفاصيل والجزئيات، أما إعادة النظر في الأسس النظرية للعلم فهو أمر مستبعد. لكن هؤلاء الذين كانوا يبشرون باكتمال الصرح العلمي ذكروا ضمن المسائل العالقة مسألتين اعتبروهما نقطتان ثانويتان تشكلان استثناءا، وهما: (أ) تفسير نتيجة تجربة مايكلسون ومورلي و(ب) توضيح سلوك الإشعاعات. ومن هذين الاستثنائيين بالضبط ستنطلق ثورتان علميتان جذريتان: نظرية النسبية ونظرية الكوانطوم.
في بداية القرن العشرين تغير مجرى التاريخ العلمي وبدأت تتزعزع الفيزياء الكلاسيكية التي شُيِّد بنائها من عهد غاليلي إلى عصر ماكسويل. فقد شهدت بداية سنة 1900 بداية ثورة جديدة في مجال الفيزياء هزت المفاهيم والأسس التي بنى عليه الفيزيائيون عملهم الكلاسيكي وهي نظرية الكوانطوم، وخمس سنوات بعد ذلك ستكون مسألة الأثير منطلقا لنظرية النسبية لأينشتاين، هذه النظرية التي كسرت الإطار العام للفيزياء النيوتونية.
فتقعيد النظرية الكهرومغناطيسية، على شكل أربعة معادلات جزئية تفاضلية تصف سلوك وتغيرات المجالين الكهربائي والمغناطيسي مع المادة، وتحولاتهما إلى أشكال أخرى من الطاقة، أصبحت حجر ارتكاز لجميع التقنيات الكهربائية والمغناطيسية للقرن العشرين. كما أن اينشتاين نفسه اعتمد على هذه النظرية عندما بدأ العمل على نظرية النسبية. والأهم من ذلك أن فلسفة البحث التي أرشدت ماكسويل والتي هدفت إلى توحيد الكهرباء والمغناطيسية والضوء أشعلت شرارة ظاهرة توحيد القوى الأساسية في الطبيعة في نظرية فيزيائية واحدة تعرف في الفيزياء المعاصرة بمسميات مختلفة مثل: (نظرية الحقل الموحد والنظرية الأساسية أو نظرية كل شيء).
لقد كان للتوجه نحو توحيد قوى الطبيعة في نظرية واحدة وتفسير مختلف الظواهر وفقا لها، دلالة قوية في الفلسفة الطبيعية القديمة وفي الفيزياء الحديثة، منذ عهد نيوتن على الأقل. رصد نيوتن الأجرام السماوية وراقب سلوك الأجسام المتحركة على سطح الأرض واستنتج أن القوة التي تتسبب في سقوط الأجسام على سطح الأرض وفي حركة الكواكب حول الشمس هي قوة كونية واحدة، فحسب قانون الجاذبية فإن قوة الجذب بين جسمين تعتمد بشكل مبسط على المسافة التي تفصل بينهما، وتصبح هذه القوة أصغر كلما زادت المسافة بين الجسمين. هكذا وحَّدت مبادرة نيوتن عالمي السماوات والأرض وزاوجت بين الفيزياء السماوية والفيزياء الأرضية، اللذين كانتا في السابق متناقضتين وتنبنيان على مقتضيات أنطولوجية مختلفة جذريا. يمكن أن نقول إذن أن نظرية نيوتن في الجاذبية قامت على أساس (الجمع بين الفيزياء الأرضية والفيزياء السماوية في صورة واحدة، فالقوة التي جذبت التفاحة إلى الأرض لابد أن تكون هي ذاتها التي وصلت إلى القمر وحدّدت مساره).
وبعد ماكسويل أصبحت النظريات الفيزيائية تهدف إلى تفسير كل الظواهر الفيزيائية، من خلال فعل أربع قوى أساسية في الكون وهي: الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوة النووية والقوة الضعيفة. ويمكن توضيح كنه هذه القوى بشكل موجز كما يلي:
الجاذبية: وهي القوة الجاذبة بين الأجسام ذات الكتلة كما وصفها نيوتن ويبدو تأثيرها واضحا في الكتل الكبيرة، كما هو الحال في الكواكب والنجوم، وينص قانون نيوتن في الجاذبية على أن: (قوة التجاذب بين جسمين تتناسب طرديا مع حاصل ضرب الكتلتين وعكسيا مع مربع المسافة بين مركزيهما). ويعود الفضل لإيزاك نيوتن (1727-1642) في اكتشاف هذه القوة والتعبير عنها من خلال قانون الجاذبية الكوني.
القوة الكهرومغناطيسية: تحافظ على استقرار الذرة من خلال تحديد مدارات الالكترونات، وتعتبر القوة المهيمنة في قوانين الكيمياء، وهي أقوى من الجاذبية، ويمكن إدراك أثر هذه القوة بسهولة وتنتج بين الشحنات الكهربائية الساكنة والمتحركة، وهي ذات شقين أحدهما كهربائي (بين شحنتين ساكنتين) والأخر مغناطيسي (بين شحنتين متحركتين).
القوة النووية: وهي التي تبقي البروتونات والنيوترونات في نواة الذرة وهي أشد القوى المعروفة في الطبيعة، لكن مداها لا يتعدى نطاق نواة الذرة. لذلك تلعب هذه القوة دورا رئيسيا في المحافظة على بنية الذرة، وبالتالي على بنية مجموع المواد الموجودة في الكون.
القوة الضعيفة: وهي التي تتجلى في بعض الظروف الفيزيائية مثل الانحلال الإشعاعي، وتعتبر أضعف القوى بعد قوة الجاذبية، وتأثيرها لا يظهر إلا على مستوى التركيب النووي للمادة، نظرا لقصر مداها. وتظهر هذه القوة في بعض الظروف الخاصة مثل الذوبان النووي في قلب الشمس والنجوم.
سيبقى هذا المشروع التوحيدي الكبير المتمثل في اكتشاف نظرية موحدة تجمع بين القوى الأربعة في نظرية واحدة مفتوحا ومطمحا لعلماء الأجيال القادمة لعلّهم يوفقون في وضع أسسه واستثماره في معرفة أفضل للكون.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اكتشاف فيروس إنفلونزا الطيور في الحليب بالولايات المتحدة


.. ستارلاينر التابعة لبوينغ جاهزة لإنجاز أول رحلة مأهولة إلى ال




.. محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان وتلقيه العلاج في باريس


.. معرض ابوظبي للكتاب يناقش مستقبل صناعة النشر في ظل تقنيات الذ




.. في تسجيل صوتى محمد عبده يعلن إصابته بالسرطان