الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الآفاق القاتمة بين انحسار القيم والأزمة الإقتصادية !

محمد بلمزيان

2019 / 7 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


ستصاب أحيانا بالدهشة وأنت تمشي في الشارع العمومي أو تجلس في مقهى أو حانة أو حتى مطعم، وتسترق آذانك السمع بين الفينة والأخرى وتلتقط كلمات كلها شتم وسب من على الطاولات المجاورة وفي أحاديث متقطعة ،الى حد يثير الإمتعاض والإشمئزازمن جهة !، ورثاء حال أصحاب هذه (العقول) أو على الأصح الأذهان المسطحة، التي تنتشي من خلال النهش في أعراض الناس، شأنهم شأن الطير الباحث عن فتات الجيف ، وملاحقة عيونهم للمارة ذهابا وإيابا ، حتى تحولت ذهنيتهم الى أشبه من جهاز يحفظ ظهر قلب قواميس كلمات يكررونها نهار مساء ويعيدونها كالببغاء في أسطوانة مشروخة على ندمائهم ،وحينما تجاري قسرا أسماعك على متابعة بعض الأحاديث الجانبية تصاب بالغثيان والإحساس بتعفنها وبمدى انهيار القيم في المجتمع، وكيف تحول الفضاء العام الى مكان لتبادل العنف اللفظي واستعمال عبارات تخدش الحياء العام وتعكر أمزجة الناس، تجعلك تنتبه بدون قصد أو استعداد على عدم الإنجرار في هذه المعركة الخاسرة، التي تخوض غمارها الألسن السليطة التي تتناثر منها عبارات كلها شتائم وقدح تنطلق من أفواه خبيثة ، تنبعث روائحها كخراء مبثوث بالجوار.
بينما كنت أتأهب للجلوس في إحدى المقاهي المفضلة عندي و التي تعودت على ارتشافي للقهوة السوداء فيها كلما وطأت قدمي مدينة فاس، وعلى غير عادتي أحسست وأنا أستوي بجلستي على كرسي طاولة فارغة ،بأن شخصا جالسا في طاولة مجاورة بدا وكأنه متضايق من حديث في طاولة مجاورة أخرى،في البداية لم أعر للأمر الكثير من الإهتمام، فطلبت قهوتي المفضلة السوداء على صيغة ( Normal) التي أحضرني إياها النادل على الفور بابتسامته العريضةـ التي يوزعها على زبنائه بسخاء وإفراط باذخ بينما كنت قد حاولت تصفح إحدى المواقع الإلكترونية التي كانت قد كتبت توا عن وقفة احتجاجية أمام محكمة الإستئناف كنت قد مررت من هناك بعد لحظات فقط على هامش الملف المعروض على القضاء المتعلق بالطالب الشهيد بنعيسى الجيد ، لكن تنهدات والزفير ذات الشخص لم تنقطع، استشعرت مع نفسي بأن طبائع بعض الناس لا يمكن فك شفرتها مهما استعنت بكل العلوم المهتمة بالإنسان والدراسات المتعلقة بالحيوان وستبقى عصية عن الفهم والإكتشاف ، لحظتها كنت قد قررت أن ارتشف فنجان القهوة على عجل لألتحق بموعد سابق لدى طبيب العيون للمراقبة واستبدان زجاج نظارتي التي ما عادت تطاوعني أحيانا في قطع المسافات الطويلة أثناء السفر ،وإحساسي بعيائها وطلب فركها ، استدار الشخص المتنهد الذي تبدو ملامحه التي خبرت تضاريس الزمن وساخطا على الواقع ، وهو على مشارف السبعين من عمره أو يزيد بكثير، لكن ذو اللكنة الفاسية الواضحة التي تميل الى تشديد حرف الراء والسروال الأوروبي القصير، فبدأ وكانه يريد أن يقاسمني معه ما سبق أن خطر بباله أو يخالج مشاعره و هو يستمع كما أخبرني الى حديث جرى قبل لحظات، في تلك اللحظة بالذات نهض زبون من مكانه كان جالسا بجوار الطاولة التي كان يلتف حولها بعض الزبناء، وهم يشتم في عرضهم وملتهم وهو يتلفت اليهم بما يشبه رغبة في الإشتباك والعراك، علمت بأنه كان جالسا بمقربة من الأشخاص الذين تنبعث من أفواههم كلمات قواميسها كلها شتم واستعراض للكلمات الساقطة التي لن تنساب إلا من ألسن الحثالة من الناس وجهابذة الرعاع ،وهم موضوع امتعاض الشخص الذي كان جالسا لوحده بجواري وهو يتفاعل عن بعد على ما يجري ويقال في رصيف مقهى حاشدة بالرواد والزبناء، كانت فرصة لتزكية حديثه وشرعنته، قائلا: إننا نعيش في مجتمع ينهار، مدنية فاس لم تكن هكذا يا ولدي ، كانت مدينة علم وتجارة ورواج سياحي كبير، وأصبحت الان مدينة الجرائم بامتياز والسرقة والعنف. قرأت في نبرات صوته وهو يصيخ السمع للحديث على طاولة غير بعيدة، بأنه شخص عارف وملم لتاريخ هذه المدينة، قبل أن أطلعه بأنني قد سبق لي أن درست في إحدى مؤسساتها أيام الزمن الغابر، وأنني شاهد على ما يقول، لكنه يبدو أنه يتحسر على هذه النهاية الحزينة والأزمة الإقتصادية الخانقة ، والتي عبرت له عن اقتسامي معه لنفس الرؤية والمقاربة، فأسر لي بأنه كان يشتغل عاملا في أحد المعامل بحي سيدي ابراهيم التي اضطرت الى إقفال أبوابها في وجه العشرات من عماله في ظروف الأزمة، كما حدث لباقي المعامل التي أغلقت كذلك والتي عددها في عدد يناهز 17 معملا ، كانت كلها مشاتل وأوراش لإنتاج مختلف المنتوجات ، خاصة في مجال الأثواب والألبسة والجلود والأحذية وغيرها ... فحاولت أن أضيف بأن مخلفات الوضع الحالي بظروفه القاتمة، بقدرما ساهمت فيه الوضعية الإقتصادية للمدينة، التي تنتج جيوب مزيدا من التوتر الإجتماعي وازدياد فاقدي العمل وتعاظم هوامش الفقر والحرمان، فإن المدرسة المغربية بوضعها الحالي قد اسهمت بشكل وافر على تفريخ جيل فاقد للبوصلة، وأنتجت ظواهر غريبة في أذهان الأجيال الحالية، تدير رأسها للقيم الجميلة والمتوارثة، وهي عابثة وغير مستعدة لإبداء أي قسط من تبادل الإحترام بين مكونات المجتمع بغض الطرف عن انتماءاتها الطبقية والإجتماعية،وأن التنشئة الإجتماعية في ظل انهيار المدرسة المغربية، تنتج لا محالة الظروف الخصبة لانتعاش هذه الظواهر الغريبة، الشيء الذي يفسح المجال أمام تصاعد خطابات الكراهية والحقد والعنف اللفظي، وهذا ما نلاحظه في السنوات الأخيرة، ينعكس في تجليات وممارسات فردية أو عقائدية، تحاول استغلال هذا الإنفلات الثقافي والقيمي واستغلاله لأغراض سياسية وانتهازية، دون الغوص الى جوهر آثار هذه السلوكات على مسار المجتمع وتحدياته المستقبلية، وقبل مغادرتي أنهيت كلا مي مع محاوري الذي بدأ وكأنه يرغب في مزيد من الإستفاضة من حديث لا ينتهي، موجها كلامي الذي لا يخلو من عتاب على الأطراف المتعاقبة التي تتحمل مسؤولية إدارة هذا القطاع الحيوي، وعدم الإنتباه الى المطبات التي تخرب المدرسة العمومية، ووضع مناهج وبرامج تعليمية وتربوية تواكب تحديات الإنسان في الوضع الراهن، بما يجعله طاقة بشرية مؤهلة للبذل والعطاء والمساهمة بفعالية في التنمية في شموليتها، بما في ذلك تكريس برامج لبناء مفهوم المواطنة الحقيقية منذ بداية اللحظات لولوج الطفل أسوار المدرسة، والقطع مع كل المظاهر التي تنتج الرداءة وتنعش الغش، والتربية على الإقبال على العلوم ومختلف صنوف المعارف الإنسانية ، والتشجيع على دروس الإبداع والملاحظة لإطلاق المهارات وسبر أغوار الهوايات وتفقيسها في مشاريع بحوث اجتماعية وعلمية لا شك أنها ستعطي دفعا حقيقيا لإنتاج وتحقيق التنمية في مختلف تجلياتها،في ارتباط وثيق ما بين إعادة الإعتبار للمدرسة
العمومية وبين انتهاج أساليب راقية للتربية على العلوم ومناهج البحث المختلفة، لإرساء محطات لإنتاج إنسان محصن بمخزون معرفي وتقني قادر على اجتياز عوائق المستقبل وتحديات العصر القادم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. !ماسك يحذر من حرب أهلية


.. هل تمنح المحكمة العليا الأمريكية الحصانة القضائية لترامب؟




.. رصيف غزة العائم.. المواصفات والمهام | #الظهيرة


.. القوات الأميركية تبدأ تشييد رصيف بحري عائم قبالة ساحل غزة |




.. أمريكا.. ربط طلاب جامعة نورث وسترن أذرعهم لحماية خيامهم من ا