الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتخابات في تونس وسفينة المصالح بين جاذبية المشروع الوطني والتلاعب بالجهاز المناعي للدولة

رضا لاغة

2019 / 7 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


آثرنا في مقالنا السابق الحديث عن الذات الاجتماعية مقابل حجب مفهوم الشعب.
إذا سلّمنا بأن الحديث عن الذات الاجتماعية يفضي إلى دراسة التأثير المتبادل الذي يمارسه الأفراد في علاقتهم البينية ، فهذا يعني أن الانسان بوصفه كائن اجتماعي يمارس نشاطا متعدد الأوجه تنمو من خلاله و تتطور أشكال الترابط الاجتماعي. ولعل الوظيفة التي يضطلع بها عالم الاجتماع هي تطوير المفاهيم و التصورات بما هي أدوات تحليل لفهم الظواهر الاجتماعية.و الواقع أن التشديد على عبارة الذات يخفي بعدا انثروبولوجيا ، لأن الانثروبولوجيا الاجتماعية تنشد معرفة تطور الانسان لا بوصفه كائنا بيولوجيا و إنما بوصفه صانعا للحضارة و المجتمع.
وهذا ما يحملنا على استخدام مصطلح الذات الاجتماعية بدلالته السوسيولوجية و الانثروبولوجية للإشارة الى تصور آلان تورين في كتابه "نحن ، الذوات البشرية". وهي من بين القضايا التي يركّز عليها الإلمام برهانات العالم المعاصر. فالتنافس السياسي بين الأحزاب و الحروب بين الدول الأمم و تحالفاتها يمثّل منطلقا للذات الاجتماعية على أن تنتج بوعيها الذاتي حسّ كوني على خلق عالم اجتماعي جديد. عالم متمحور حول الذات ، و الذات هنا هي العنصر الذي تستمد منه شرعيتها. ليشكّل تطوير الذاتية و ازدهار أفقها الأساسي من خلال قدرتها على ابداعها محيطها.و في ظل القدرة المتزايدة للإعلام على صياغة الوعي البشري ، فإن الذات الاجتماعية ، على غرار الموارد الطبيعية مهددة من قبل أنواع جديدة من التسلطية التي تبذر الانقسام داخل المجتمع كأرضية للسيطرة و التحكم. ولعل سياقات تأجيج مثل هذا الانقسام اعتمدت طيلة المحطات الانتخابية السابقة.فإلى وقت غير بعيد بدا لنا ،و بأسلوب مضلل ،الخطاب التنويري الحداثي للنداء و الآن الهوس المتزايد نحو تضخيم صورة يوسف الشاهد الذي فشل وانتهى سياسيا .
إن إماطة اللثام عن هذا التضليل والوهم الذي يتخلل هذه المشاريع المجسدة في ذهنيات بعض المثقفين التقليدين حتى لا نقول الانتهازيين ، جاءت لتعلن عن مضمون فكري يعبّر عن رؤية و طرح ثقافي و سياسي يكرس سلوكيات منحرفة لدى النخبة .لعل آخر طنين بلغنا منها ترشح السيد مبروك كرشيد على رأس قائمة تحيا تونس بمدنين.
حسب هذا المعنى فالعلاقة بالذات الاجتماعية تكون متينة كلما نجحت القوى الوطنية في مهمتها المتمثلة في التعريف بالمشروع الوطني الشعبي.و لكن أيضا في قدرتها على تعرية مكامن الانتهازية التي تعتري النخبة التي توهم الشعب بأنها في خدمة الحق و العدل.
و إذا شئنا أن نحد مضمونا فلسفيا لهذا الطرح ، فإنه يذكرنا برؤية هيغل الداعية إلى اعتبار الفلسفة كإدراك للزمان في الفكر. وهي رؤية و إن كانت مثالية ، إلا أنها ذات جدوى تاريخية لا يمكن إهمالها في فهم فلسفة العصر. و لربما من هذه الناحية يجب على القوى الوطنية أن تدفع قدما نحو فضح هذا التلاعب بالجمهور ،ولكن لا يكون ذلك بتكريس نزاع إيديولوجي متوارث و إنما بتخطيه ، نحو إيجاد طريقة لفظّ النزاع بينها ةبين من يناقضها عبر مشاريع هي ما اصطلحنا عليه بالمشروع الوطني.
وحول هذه النقطة يواجهنا احراج جديد: إذا كان التعريف بالمشروع الوطني يمثّل هدفا مركزيا لجهد القوى الوطنية و التي لم تتخط نزاعاتها التاريخية ، فهل يمكن للاختراق أن يكون سندا كافيا للتعريف بحركة تطرح نفسها أداة لبناء المشروع الوطني الشعبي؟
ذلك هو السؤال الذي ما فتأ يلحّ علينا. ومن هنا ينبغي أن نعيد النظر في المسلمات الأساسية التي قامت عليها الممارسة السياسية منذ الصراع البورقيبي اليوسفي. و لكن لماذا صالح بن يوسف من جديد؟
في هذا المسعى لن نكترث بالجدل الصاخب حول مرجعية صالح بن يوسف الدستورية . و الموقف الداعي إلى الاحتفاظ بدستوريته و تجاهل التوجه العروبي الذي يلحقه بالقومية. هذه النزعة نجدها مطروحة و مبثوثة حتى عند بعض القوميين السطحيين الذين ينظرون إلى صالح بن يوسف كسياسي ينتمي إلى الطبقة البرجوازية. و بالتالي يفصلون بين بن يوسف و اليوسفية.في ظل هذه الرؤية الصراعية سننطلق من حقيقة تحليلية تقر بأن صالح بن يوسف يرمز إلى الجوهر الضمني للحركة الوطنية. فكيف تعامل صالح بن يوسف مع أسئلة التدبير السياسي في مرحلته البنيوية الأولى؟
كلّنا يعرف أن المسار التتابعي للصراع البورقيبي اليوسفي فرض حياة سياسية متأزمة . من دون شك أن الخطوة الاولى على درب تحقيق النفوذ الكامل تكمن في تصفية صالح بن يوسف الذي كان يقف عتبة أمام مشروع الجمهورية الأولى لبورقيبة . إن هذا الصراع يعدّ من اللبنات التي مارست تأثيرها لرسم صورة لنموذج فكري و سياسي و ثقافي واجتماعي واقتصادي لا يتوانى في المغامرة بتجاوز حدود النظرة التقليدية للذات متجاوبة مع رغبة التمازج مع الحضارة الفرنكفونية.
لذلك فنحن نعتقد أن المغزى الحقيقي لمعالجة هذه المسألة و صياغتها صياغة واضحة و النظر إليها من زاوية موضوعية ، هو أن نبتعد أولا عن النظرة الارتيابية و العاطفية و حتى البكائية من قبل بعض العروبيين الذين يلقون شكوكا حول بعض المصادرات التي تظهر الحبيب بورقيبة كزعيم سياسي.
إن طرحنا النظري هنا يتلخص في فهم خلفية الصراع من زاوية سياسية حددت معالم الفكر السياسي والاجتماعي و الاقتصادي الذي اقتحمه بورقيبة من زاوية ليبرالية موسّعة.
غير أن مقاربتنا لا ترغب في أن تكون قراءة تاريخية لمسار الفكر السياسي ، بقدر ما هي محاولة لإماطة اللثام عن عثرات القوى العروبية واقتراح تصحيح منحاها في طريقة التشييد لصرحها السياسي.و إذا كانت قراءتنا تتميز بالتركيز على الانقسام و الخصومة السياسية بين البورقيبية و اليوسفية بعيدا عن ضغوطات المذهبية بتبصر هشاشة منسوب المناورة السياسية عند الزعيم صالح بين يوسف ؛ فإننا لا نسقط التهم الموجهة لبورقيبة و خاصة مواقفه المتشددة ضد العروبيين و إشادته بالمجتمع الغربي كمنوذج للمحاكاة على حساب المرجع الهووي الأصيل.
إن ما نود أن نعرّج عليه ضمن سياق تنافسي بين إرادتين سياسيتين تنشد كل منها اكتساب الأتباع و الولاءات كأسلحة في هذا الصراع الذي تغذيه طروحات متناقضة فكريا و سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا؛تلك الفترة المتوترة حول الوثيقة السرية للاستقلال.
من هذا المنظورنتساءل: هل كانت المسوغات النظرية لرفض صالح بن يوسف تتيح له فرصة التعبئة و الانتشار السياسي أم أنها كانت ذريعة لايقاعه في مأزق سياسي؟
طبعا إن التمسك بهذا الموقف سيتيح له بالتأكيد ضمان قدر كبير من المصداقية و المبدئية .بيد أن الرفض يمتد إلى القدر الذي يسمح لنا بالفعل السياسي الذي يقربنا من الشعب.
سؤال جدير بالذكر خاصة إذا علمنا أن أتباع صالح بن يوسف أكثر عدد و عدة.صحيح أن طرح بن يوسف كان جريئا و موقف بورقيبة كان أشبه بخيانة لمعركة التحرير، ولكن الدلائل توحي بأن بورقيبة نجح في فترة قصيرة من نقل النفوذ و السلطة لصالحه . ولأن كل حركة ثورية تقتضي دوما مراجعة تاريخية تركز على مشكلات بعينها ، فنحن لسنا بحاجة إلى بذل الكثير من الجهد لإبراز حنكة الحبيب بورقيبة كمناور محترف و سط جماهير يرجح أنها لم تكن سوى مخابر تنتج من صلب انشغالاتها مكانة لزعيم تلاحم خطابيا معها و نسج خيوط أمتن و أوثق من البندقية.وهو ما نخشى أن يعاد اليوم.
ان الدرس العام ضمن هذا المسار التاريخي للصراع البورقيبي اليوسفي يكمن في معركة الكفاح ، بما هي معركة من أجل السلطة بصرف النظر عن النوايا و ما إذا كانت اشباعا لطموح ذاتي أو انتصارا لمشروع وطني. وهي معركة تستمد عناصر قوتها من نتائجها السياسية.إن معضلات الفعل السياسي للقوى العروبية و القومية هي معضلات الطريقة التي تقوم على تحقير المناورة بوصفها ضرب من الانحراف عن المبدأ.
هذا المحتوى السياسي نجده إلى اليوم مكبّلا و سببا لإثارة صراعات إيديولوجية بينها.أيا كانت ضراوة الاستبداد البورقيبي ،فهذه حقيقة عيانية غير قابلة للدحض ، إننا نريد أن نفهم بشكل صحيح لماذا انتصرت البورقيبية على اليوسفية؟
وبما أننا ذكرنا أن قصدنا لا يزعم كتابة التاريخ ، فإننا سنهمل الصيغة المقترحة للسؤال و نحتكم إلى صيغة تخدمنا في واقعنا المعاصر: كيف يستفيد أحفاد صالح بن يوسف من عيوب الماضي ( ضعف المناورة )و يستطيعون اتخاذ مواقف سياسية صحيحة مرنة لا تقهرها صلابة الواقع؟
إن هذا المعطى من شأنه أن يبين الاتجاهات النوعية الممهدة للفعل السياسي بموارد بشرية ذات قرب عميق لمحددات إيديولوجية مفصولة عن تقنية المناورة كلوحة ملونة و متحركة لعالم السياسة.
يستحق هذا الوجه الجديد للسؤال شيئا من الاهتمام.ثمة جواب أولي واضح ،مفاده أن الوظيفة الاسنادية للحزب لا تقتصر على حفظ العقيدة أو الايديولوجية السياسية التي يعتنقها بما هي مواقف شاملة و مبدئية ، و إنما التعرّف على التقاطعات التي يمكن أن تجمعه ببعض الأحزاب التي تنشط معه.و لكون حركة الشعب تتجه إلى هذا الموقف سأتحدث عن المناورة كمسوّغ للتموقع السياسي بعد أن تحدثنا سابقا عن الاختراق السياسي.
نحتاج هنا أن نؤكد الدور الاستثنائي الذي لعبته حركة الشعب والذي بدأ مع مبادرة رئيس الجمهورية يوم 02 جوان 2016 لتشكيل حكومة وحدة وطنية و فق ما سمّي آنذاك بوثيقة قرطاج.
من الممكن لنا في هذه المرحلة المبكرة من التحليل أن نستبق بعض مضامينه و نستدعي إلى دائرة السؤال فرضية تأويلية قائمة على أن المبادرة كانت عبارة عن اجهاز ، سياسي و ليس عسكري، للجغرافيا السياسية التي انتجتها انتخابات 2014 .
تذكرون بلا شك ، الطابع النفسي الذي ساور بعض الإخوة و حتى من من عموم ابناء الشعب ، لمحدودية تمثيلية الحركة في مجلس نواب الشعب . و هو ما يفسر التوصيف الدقيق الذي لوّحت به وهي تستعد للمشاركة في انتخابات 2014 .إن ما راهنت عليه هو أن تخترق المشهد السياسي.
هنا تتقاطع رغبة تثبيت حكومة توافق وطني لرئيس الجمهورية مع القوة التمريرية لمقولة الاختراق من قبل قيادات حركة الشعب.
إن التكلّم عن المبادرة ذو شقين:
ـــ نهاية حاسمة لجغرافيا سياسية صنّفت حركة الشعب كحزب أقلّي مقارنة بأحزاب كبيرة.
ـــ اصطفاف خلف رمزية رئيس الجمهورية كأحد الأعمدة التي نسجت مفهوم الاستقطاب الثنائي الذي وجّه العملية الانتخابية لصالح اليمين الليبرالي و الاسلام السياسي. و كما هو معروف عادة ما تكون الرمزية قوية و ذات سطوة ، لذلك فقد تنتج العكس.
في علاقة بالشق الأول كانت حركة الشعب ، وبعد تشاور عميق بين قياداتها، من الأطراف المشاركة في المشاورات لتكوين حكومة وحدة وطنية خلال حفل بروتوكولي انتظم بقصر قرطاج للتوقيع على الوثيقة التأليفية المتعلقة بأولويات حكومة الوحدة الوطنية. وقد تم تسليم الوثيقة الممضاة إلى رئيس الجمهورية بعد مخاض ثلاث جلسات ضمّت كل من الاتحاد العام التونسي للشغل و الاتحاد التونسي للصناعة و التجارة و الصناعات التقليدية و الاتحاد التونسي للفلاحة و الصيد البحري و ممثلين عن أحزاب الائتلاف الحاكم: نداء تونس و النهضة و الاتحاد الوطني الحر و آفاق تونس وحركة مشروع تونس و عن المعارضة: حركة الشعب و المبادرة الوطنية الدستورية و الحزب الجمهوري و حركة المسار الديمقراطي الاجتماعي.
إن ما يهمّنا هنا قبل أن ندخل في التفصيلة التي تتعلق بانسحاب الحركة، فكرة الاختراق التي تتكلم عنها باستمرار. ففي هذه المرة يكتسي المفهوم دلالة صورية في بلورة الوعي الجماهيري و بالتالي افهام الشعب أن المعارضة ليست وحدة صمّاء و إنما هي توليف بين مقاربات حزبية متنوعة. بهذا المعنى تأسس تصور جديد يبرز للكل أن حركة الشعب هي جسم سياسي مختلف عن الجبهة الشعبية التي عزلت نفسها سياسيا برفضها المشاركة في المشاورات.
كان هذا الدور ممهدا لمرحلة أولى فرضت على الإعلام التمييز بين حركة الشعب و الجبهة الشعبية. وهو تمييز ما كان يسمح ببلوغه لولا هذا التباين في الطرح السياسي.
المشاركة إذن في وثيقة قرطاج يلبّي حاجة سياسية غير مشبعة تكمن في التعريف بالحركة التي تحاول ادماج نفسها في الحياة السياسية برسالة مضمونة الوصول، وليس بنية البحث عن محاصصة في تركيبة الحكومة: المعارضة ليست بنية تجريدية لرفض دائم مضاد للحياة السياسية و إنما هي تناضل و تتواصل مع كل المبادرات التي تتقاطع معها.نقول ذلك في ظرف أطلقت فيه المبادرة حول ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية ، عرفت فيه تونس أزمة حقيقية ذات أبعاد متداخلة تتصل بالسياسي و الاجتماعي و الاقتصادي.
إزاء هذا الاتجاه ، ذي الأصول البعيدة حول كيفية تعاطي حركة الشعب مع البعد الوطني و السياسي، نأتي للمستوى المضموني للمبادرة و حيثيات انسحاب حركة الشعب منها. غير أن ما يجب التأكيد عليه في ذلك كله أن توجيه خطى حركة الشعب نحو التكتيك السياسي شكّل نقطة انعطاف أدهشت صناع القرار أنفسهم. ونقصد هنا رئيس الجمهورية السيد الباجي قائد السبسي.لقد ذهب بهم الظن أن ما ينطبق على الجبهة الشعبية ينطبق بدورة على حركة الشعب. فهي حركة ايديولوجية لا تتعايش مع المختلف.كان كل من الائتلاف الحاكم يحاول أن يفهم طبيعة هذا الأسلوب الجديد في التعاطي مع الشأن السياسي.
بعد أن حددنا انطلاقا من مشروع المبادرة الحافز الذي أظهر نوعا جديدا في شكل الممارسة السياسية لحركة الشعب وعدم الاكتفاء بإصدار البيانات ودعوات النزول الى الشارع ، نأتي إلى الشق الثاني المتصل بمخاطر الانجرار وراء رمزية رئيس الجمهورية كطرف فاعل و أساسي في إذكاء الاستقطاب الثنائي المغشوش. كيف انتقل بنا من راديغما الانقسام إلى صاحب مشروع وطني؟
لنتفق أولا، أن خطوة حركة الشعب هي خطوة مخططة تحمل رغبة الانفتاح على المختلف دون أن يكون ذلك حضورا لذاته. وهذا للأسف ما تورّطت فيه الجبهة الشعبية سابقا عندما قبلت بالمبادرة العملية لتطوير العمل المشترك مع الاتحاد من أجل تونس وضبط دورية قارة لاجتماعاتها. حتى أن حمة الهمامي يثني على هذا التحالف بقوله:"لدى نداء تونس تمسّك بمكاسب النساء في تونس، و يريد الدولة المدنية ، وهذه نقاط مشتركة جعلتنا نتقارب ".و إذا ما وقفا على مقولة الاستقطاب الثنائي المغشوش و الذي توضّح عندما وجدت الجبهة الشعبية خصمها الإيديولوجي حركة النهضة شريكا في الحكومة مقابل بقائها خارج المشاورات. كانت تلك الواقعة بمثابة الصدمة التي أحرجت قيادات الجبهة الشعبية ، مما خلق لديها احساسا مشوّشا إزاء موقفها من المشاركة في وثيقة قرطاج.
وإذا كنا نريد أن نفهم بشكل صحيح كيف مثّلت مشاركة حركة الشعب في وثيقة قرطاج خطوة مخططة فيجب أن نحفظ حكمة ماثلة في أذهاننا إزاء العمل السياسي: كل قوة لها وجه آخر هو العجز.و بعيدا عن المهاترات العبثية ، فإن حضور حركة الشعب في مجلس الحوار يؤخذ بالتعبير والأفعال البليغة المعاشة داخل جلسات الحوار.أي أن مجال الحافز في الدخول مفتوح على كل الامكانيات.تماما مثلما يقول الموقف المعتزلي: أنا قادر على فعل كل الفضائل و كل الرذائل. لهذا فإن مشاركة حركة الشعب لا يمكن فهمها من ضيق وجهة النظر المدركة لرئيس الجمهورية.لأنها خطوة تساعد قيادة الحركة على مزيد من الاختراق نحو التموقع السياسي.
هنا أصل إلى فكرة المحتوى الخاص بالوثيقة.يجب القول هنا بأن حركة الشعب كانت من الأطراف الفاعلة في رفض النص الأولي للوثيقة. في حالة كهذه شرعت الأحزاب المشاركة في صياغة نص جديد ولد تشاركيا بينها. أن تتعامل حركة الشعب بنفس المنوال و بنفس التمثيلية لأحزاب فازت في انتخابات 2014 ، يعني أنها تؤكد بالحجة نهاية الجغرافيا السياسية لهذه الانتخابات و بالتالي مباشرة فعل التموقع كمقدمة تسويقية مهمة للاستحقاق الانتخابي القادم.
و لأنه كانت ثمة فروق حاسمة بين الأحزاب المشاركة لم يكن لتظهر الوثيقة إلا بضبط الاتجاهات النوعية التي يتوجب على الحكومة المنتخبة أن تشرع في تجسيدها و تفريغها في خطط استراتيجية تكون سببا لوجودها وتمثّل أولويات لها. وهي ضبطت في ستة محاور عمل رئيسية:
1 ــ كسب الحرب على الإرهاب
2 ــ تسريع نسق النمو لتحقيق أهداف التنمية و التشغيل
3 ــ مقاومة الفساد و ارساء مقومات الحوكمة الرشيدة
4 ــ التحكم في التوازنات المالية و تنفيذ سياسة اجتماعية ناجعة
5 ــ ارساء سياسة خاصة بالمدن و الجماعات المحلية
6 ــ دعم نجاعة العمل الحكومي و استكمال تركيز المؤسسات.
نرى هنا من يوجّه اعتراضا يسبق الانجاز. فالوثيقة تتكلم عن أهداف واسعة تبدو كعلامة تتوجه نحو الشعاراتية أكثر مما تفصح عن برنامج.
بالتأكيد، قد ننخدع كثيرا إذا اعتقدنا أن هذا اللفيف من الأحزاب له مهمة صياغة برنامج لعمل الحكومة. و لكن بما أن ذلك لم يكن ممكنا ، يكفي أن تصل الأطراف المشاركة في صياغة وثيقة مرجعية لعمل الحكومة. فرغم الانقسامات العميقة في رؤاها السياسية و برامجها الاقتصادية تكمن أصالة الوثيقة في أنها أعطت ضوابط لشكل العمل الحكومي و حصّنته من منطق الاستيلاء الحزبي على مؤسسات الدولة كعقلية رائجة منذ حدوث المتغير السياسي.
و لكن علام يرتكز تنفيذ البرامج؟ أليس على الأفراد الذين سيتحولون إلى وكلاء الدولة ؟
بهذا السؤال ننتقل إلى المهمة الموضوعية و التي جعلت حركة الشعب تتحفظ على تمشي الحوار و تنسحب من المبادرة.
من الواضح أن اختيار رئيس الحكومة كمسألة مركزية، أثار قصية أخرى أدت الى سلسلة من الشروط غير المواتية. وهو في نظري من الأسباب المحددة في فشل حكومة الوحدة الوطنية.إنه ذات الموقع الرمزي لرئيس الجمهورية الذي سوّق شخص يوسف الشاهد مرشح وحيد فرض فرضا و بأسلوب غير محسوس،مع بعض الأحزاب الداعمة للمبادرة.هنا تحديدا كانت مناورة رئيس الجمهورية للاستيلاء على منجز الوفاق الوطني. وكان هذا في نظري أول امتحان حقيقي يعيدنا للحكمة التي ذكرتها آنفا:كل قوة لها وجه آخر هو العجز ، لأن هذا الاتجاه سيأخذ شكلا موضوعيا لتحوّل مراكز النفوذ ز وهو ما يسمح لرئيس الحكومة الجديد أن يظهر بصورة مباشرة كقوة مضادة لرئيس الجمهورية.
من أجل فهم هذه الحالة ، التي تذهب مقتضياتها السياسية بعيدا ، باستطاعتنا فهم خلفية الصراع الذي دار في وثيقة قرطاج الثانية و الذي تكثّف حصريا في النقطة عدد 64 حيث صرّحت حركة النهضة بأنه لا تراجع مقولة الاستقرار الحكومي و بالتالي رفض فكّ الارتباط بينها و بين الشاهد.
لنمض قليلا مع اهتمامنا بالمنظور الضيق لرئيس الجمهورية و الذي تسبب في ولادة قوى ذاتية موازية له جمعت أحلاف الأمس( حركة النهضة) بالابن غير الشرعي الذي يكافح من أجل الاستحواذ على ورثة الأب قبل مماته .
انفجرت عواقب كانت قد حذرت منها حركة الشعب ولدت لا فقط ضعف مؤسسة الرئاسة وإنما طبعت بانتصار الاسلام السياسي من جديد المحكوم عليه جيو سياسيا بالنهاية.
لقد رأينا التحولات الكبيرة التي وسمت المنطقة العربية و التي أسست في مصر و ليبيا و السودان لنهاية نفوذ الاسلاميين، بينما الاسلام السياسي ظل يبسط سياسيا سيطرته.بما أن الوحدة الوطنية لم تستكمل مسارها ، بل فرضت من فوق حين أصر السيد رئيس الجمهورية على المقترح الذي قدمه لرئاسة الحكومة.هكذا تقاد البلاد إلى التناقض الذي سجلت حركة الشعب وجوده ابتداء ن فانسحبت من مباردة حكومة الوحدة الوطنية ، وأعطت لنفسها مهمة التلاحم مع الجماهير لإثبات العلاقة المتناقضة بين التصور الزائف لحكومة الوحدة الوطنية الذي ما فتأ يتباهى به السيد يوسف الشاهد و مواجهته كخصم يمثّل خطر حقيقي على المرحلة الانتقالية برمتها. وهي حقيقة نمت بشكل حتمي من الواضح أن قيادات حركة النهضة ذاتهم بدؤوا يستشعرون الجنوح الأعمى للاستفراد بالبلاد ، من خلال حراك نشيط لتكوين حزب يخفي خط الاستغلال المتعاظم لنفوذ الدولة.
ولكن يجب ألا ننسى أن هذه الخيبة في تكوين حكومة وحدة وطنية تحدث في سياق زمني و سياسي بدأت تتشكل فيه حالة ذهنية تصرف اهتمامها نحو الانتخابات التشريعية و الرئاسية المقبلة.وهي مرحلة يتوطد فيها قانون الثابت و المتحول كمعضلة جديدة قد تستخدم بشكل مشوّه و مناهض لمصلحة الشعب.
وهكذا فإن ما نطرحه يدور حول نمط الفهم الخاضع لقانون الثابت و المتحول . هذا النمط من التفكير يتسم بالهشاشة و ضياع المنطور السياسي الذي يمكّن الجماهير من الاختيار الصحيح و التوقّي من سرعة التصديق و انتظار المعجزات التي يغمرها بها أحزاب لم تتسبب سوى في خيبات محسوسة اجتماعيا و اقتصاديا و ثقافيا و تربويا و صحيا. لأنهم ببساطة لهم وجه سالب همه الوحيد امتصاص مقدرات الدولة و وجه برّاق و مشعّ بمفعول المال الفاسد. إنهم يعيدوننا إلى التراجيديا اليونانية و صورة الاله زوس ذي الوجهين: وجه غاشم و عابس يثير الرعب وآخر مشرق و جميل.( يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيد


.. ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. استمرار تظاهرات الطلاب المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمي


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. ومقترحات تمهد لـ-هدنة غزة-




.. بايدن: أوقع قانون حزمة الأمن القومي التي تحمي أمريكا