الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقاط ضعف أمريكا (5)

محمد يعقوب الهنداوي

2019 / 7 / 27
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


(5)

على الجانب الآخر، يعكس هذا الميل الأمريكي (للعنجهية والتعنت والعدوان) أمراضا داخلية ومشاكل وخيمة. فمن جهة يتفاقم العجز في الميزانية الأمريكية التي كانت تتمتع بفائض كبير في الماضي ليتصاعد العجز خلال عشرين عاما من الصفر الى حوالي ترليون دولار (ألف مليار)، كما تصاعد الدَّيْن العام بنسب مقاربة، إضافة الى تفاقم التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي وتواتر الأزمات الاقتصادية الخانقة وتراجع القدرات الإبداعية والاختراعات.

حتى أن أمريكا أصبحت لا تتفوق على سواها من دول العالم المتقدم إلا في مجال انتاج وتجارة السلاح الدولية، وهو الميدان الذي تحتكره بحكم قوتها العسكرية التي تنفق عليها ثروات طائلة هي في الحقيقة إتاوات مستوفاة من دول أخرى منها اليابان وأوروبا ودول الخليج وغيرها من البلدان التي "تبيع" لها أمريكا حقوق الحماية مقابل مبالغ ضخمة تسد بها جزءا كبيرا من عجز ميزانيتها العامة.

ومن ناحية الاختراعات تتفوق أوروبا واليابان على أمريكا في كل المجالات التقنية تقريبا، بل وحتى الهند والصين أصبحتا في موقع الريادة وتضطر شركات أمريكية متزايدة الى الانتقال الى الصين والهند وغيرهما من بلدان الشرق الأقصى بحكم عدد من العوامل منها، إضافة الى التفاوت الكبير في الأجور والضمانات والتأمين وتكاليف الانتاج، القدرات التقنية المتزايدة والطاقات الإبداعية في هذه البلدان وتوقف أمريكا عن أن تكون نقطة الجذب والاستقطاب في ميدان الثورة التقنية وفرص العمل المجزي.

ويبقى الفارق الأكبر بين أمريكا من جهة وأوروبا من جهة أخرى هو الفارق الحضاري والأخلاقي والارث السياسي حيث نشأت الديمقراطية في أوروبا وتطورت الحركات اليسارية فيها بما في ذلك حركات حماية البيئة والحركات النسوية وحماية الطفولة وغيرها.

ففلسفة الحريات والتنوير ولدت في أوروبا وظلت أمريكا غريبة عنها وعن تراث التنوير الأوروبي، أو بالأصح تراجعت عنه، وبينما دعت الثورة الفرنسية الى تحريم العبودية والمساواة والتآخي بين البشر على أسس أخلاقية وبحكم التنامي المتصاعد لحركة اليسار الكامن في رحم المجتمع الأوروبي، لم تحتل مسألة الحريات الإنسانية أي موقع ذي قيمة على جدول أعمال الثورة الأمريكية التي كانت بمثابة تمرد الابن العاق وتعبيرا عن ثورة مستعمرين جشعين رفضوا دفع ضريبة الحماية لبلدهم الأم (إنكلترا) حين اشتد ساعدهم وأمكنهم التمرد.

وستبقى العبودية مقبولة أخلاقيا وقانونيا في أمريكا لقرن آخر بعد الاستقلال قبل أن يتم إلغاؤها رسميا لأنها لم تعد تلائم استمرار التوسع الرأسمالي، وليس بدافع تقدمية الفكر أو مطالبة المجتمع، وسينتظر الأمريكان السود قرنا آخر لكي يحصلوا على حد أدنى من الاعتراف الشكلي بحقوقهم المدنية.

وحتى ستينيات القرن الماضي كانت تنفذ إعدامات بحق السود بلا محاكمة، وكانت بعض العائلات ترتاد أماكن الإعدام للتفرج على القتل والتقاط الصور.

وبالمناسبة، فإن طقسا شبيها بهذا ظل يمارس في المملكة العربية السعودية حتى أواخر الستينيات أيضا حيث كانت الأسواق العلنية مفتوحة لبيع وشراء العبيد وتعذيبهم وقتلهم كحق قانوني وشرعي للمالك وللمشتري، وكان أمراء العائلة السعودية المالكة يترددون على هذه الأسواق العلنية قبل ان تتحول لديهم الى العبودية الجنسية وتجارة البشر العلنية منها والسرية بسبب الضغط الدولي.

وتسعى المنظومة السياسية الأمريكية الى فرض منطقها الأعوج على أوروبا لتحويل الديمقراطية السياسية هناك أيضا الى مجرد مهزلة وتهريج، حيث أن الديمقراطية الأمريكية تختلف جوهريا عن ديمقراطية أوروبا، فهي تشتغل على أساس الفصل الكامل بين إدارة الحياة السياسية، القائمة على ممارسة الديمقراطية الانتخابية، وبين إدارة الاقتصاد، المحكومة بقوانين تراكم الرأسمال، والتي لا تتأثر بنتائج الانتخابات ولا بفوز أي من الحزبين الرئيسيين اللذين يشكلان جناحين متناظرين لنفس التوجه اليميني المتطرف.

وهذا الفصل يعدم الطاقة الخلاقة للديمقراطية السياسية، إذ يخصي المؤسسات التمثيلية (مجلس النواب وسواه) التي تغدو عاجزة أمام "قوة السوق" وخاضعة لقسرها. فلا أهمية لمن تصوّت: للديمقراطيين او للجمهوريين، فكلاهما جناحان يمينيان لحزب واحد هو "حزب السوق"، كما ان مستقبلك لا يتعلق بخيارك الانتخابي بل باحتمالات التغير في السوق ومصالح كبار اللاعبين فيه.

ومرة أخرى نجد انعكاس ذلك يتجلى في الصيغة المسخ للمهزلة الديمقراطية التي تفرضها الإدارة الأمريكية في العراق، مثلا، فلا أهمية لمن تصوّت من كتل الفساد التي تشكل المنظومة السياسية القائمة، إذ تتشارك كلها في قيم وأساليب ومعايير الانحطاط والفساد والانفصال نفسها عن المجتمع وهمومه، ومجلس النواب العراقي ليس إلا مزاد لبيع الذمم والمتاجرة بدماء أبناء الشعب، وتدبير المؤامرات والحروب الطائفية أو القومية الطاحنة بين أبناء الشعب حين تقتضي مصالح المافيات الحاكمة والمصلحة الأمريكية العليا.

وهي تستطيع أن تقوم بهذا الدور لأن التشكل التاريخي للمجتمع العراقي منع نضوج وعي طبقي سياسي بين الفئات الشعبية. فليست الأيديولوجيا الأصولية والادعاءات الدينية والشعارات القومية والوطنية الطنانة هي التي تحكم وتفرض منطقها على أولياء السلطة الفعليين، بل ان الرأسمال وحده يتخذ القرارات، ومن ثمّ يعبّئ الأيديولوجيا الدينية والوطنية والقومية ليضعها في خدمته. وعندئذ يصبح التضليل الإعلامي المنهجي الهائل فعالا في عزل الحس النقدي واخضاعه لابتزاز متواصل.

وبذلك تتمكن السلطة من التلاعب بسهولة برأي عام تحرص أدواتها على إبقائه مفرط السذاجة والجهل والتبعية العمياء والتخلف والاستلاب.


ان كل نظام اجتماعي يوصف بأنه تاريخي (بما في ذلك الرأسمالية)، أي أنه يبدأ وينتهي. إلا أن طبيعة النظام اللاحق لا تحددها قوانين موضوعية تفرض نفسها كقوى خارجة عن خيارات المجتمعات، ولهذا لم يفكر ماركس قط بطرح أو عرض أو اقتراح اية سياسات أو "ممارسات شيوعية" تنفيذية أو سلطوية، على عكس ما يزعم أدعياء الماركسية ومشوّهوها، فتناقضات المجتمع الآفل يمكن تجاوزها بطرق مختلفة، بسبب استقلالية الآليات التي تتحكم بمرافق الحياة الاجتماعية المتنوعة كالسياسة والسلطة، والثقافة، والأيديولوجيا، والاقتصاد، ومنظومة القيم التي تحدد المشروعية.

وعلى البشرية اليوم ان تحدد خياراتها من بين ما يلي:

• الطريق الأمريكي:

ديمقراطية السوق الرأسمالية المنفلتة والعنجهية العسكرية العدوانية والهيمنة المطلقة التي لن تقود الا الى خراب الأرض وما عليها.

• الطريق الأوروبي، ربما بالتحالف مع روسيا الأقل تطورا ولكن التي تحتاج لأوروبا وأوروبا تحتاجها أيضا:

وهذا الخيار يمكن أن يوظف الإرث الديمقراطي والخبرات اليسارية والنضج الإنساني الى جانب القدرات التقنية الهائلة لدى جميع الأطراف ذات العلاقة.

• طريق الصين والهند والبرازيل والدول التي يمكن أن تلتحق بها (وربما بالتحالف مع روسيا أيضاً):

المستند أساسا الى مبادئ التحرر والنضال ضد الهيمنة الاستعمارية، وإعادة تسعير المواد الأولية والتحكم بها (النفط والغاز وغيرها)، والرغبة السياسية بتصنيع وتحديث البلاد وتوفير الاكتفاء الذاتي وفق مبدأ "اللحاق"، أي أن يعاد في دول الأطراف انتاج ما تحقق في دول المركز من تصنيع وتقدم تقني وانتاجي.

• طريق الجنون النووي وابادة البشرية بحروب حمقاء:

إذ سننتهي كما قال العالم العظيم ألبرت اينشتاين: "لا أدري أية أسلحة ستستخدم في الحرب العالمية الثالثة، لكني متأكد أن أسلحة الحرب الرابعة ستكون الهراوات والحجارة"....

فالرأسمالية التي كانت شرطا ضروريا لبلوغ طاقات التطور الراهنة وانطلاق الانسانية نحو المستقبل، أدت مهمتها وانتهى دورها ولم يعد منطقها يؤدي إلا الى الهدر واللامساواة ودمار الحضارة البشرية.

* * *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مع التغيرات المناخية الحاصلة، أوروبا سترتفع درجات حرارتها وا


.. نشرة الخامسة | ساعة الصفر تدق في رفح رغم الرفض الدولي لاجتيا




.. تلقى طاقم الطائرة أمرا بالعودة من دونه


.. نشرة الخامسة | مناطق حددها الجيش الإسرائيلي للإخلاء في شرق ر




.. إحباط محاولة تهريب أكثر من 27 كلغم -كوكايين- في ميناء جدة