الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعتذار

ماجد رشيد العويد

2006 / 5 / 11
الادب والفن



لا بد من الحزن ولا مفر من الامتقاع . إن وجهاً ممتقعاً خير من وجه سادر الملامح . أبكي لبكائهم ، وأقطب الحاجب ، بل لعلي سأنخرط في النحيب أكثر منهم . هكذا ينبثق من جوف الحزن فرح التآزر والتواد ، وهكذا أدفع إلى آل الفقيد شعوراً بأن المصاب ليس مصابهم وحدهم ، وأن مشاركتي منبعها حب جارف لسجايا النائم تحت التراب . ولبعث مشاعري هذه انطلقت تحت الهاجرة أشارك في بناء السرادق ، وأصبّ في أفواه المعزين قطرات من القهوة المرّة ، وأدور عليهم بلفافات التبغ ، وأسقيهم ماء قراحاً يطفئ نار البطون اللاهبة .
في المساء جلست متوسطاً السرادق ، أستقبل المعزين في حركة نشطة . عيناي تجولان في أنحاء المكان ، وتستقران عند جاري والد الفقيد . انتبهوا لن يفسد المأتم ، ولن تلقى الوفود المعزية غير الاستقبال اللائق ، والبهجة اللائقة بالجو المأتمي . وسيتم نثر القبل ، وتوزيعها على الخدود ، وسيكون لكل قبلة حد لائق ومناسب من الشجن . ولأن الناس درجات فسأعمل على إنتاج مقاسات متباينة من الترحاب . فإن كان المعزي بسيطاً أتركه حتى يقترب مني ثم أنهض ببطء لاستقباله ، وأحاول جاهداً منعه من تقبيلي بحجة أن بشرتي شديدة الحساسية . وإن كان متوسطاً في السلم الاجتماعي أنهض نهوضاً كاملاً ، وأشد على يديه ، وأدع فمي ينفرج عن ابتسامة محدودة . وأما من كان في أعلى السلم الاجتماعي ، فأهرول إليه وأستقبله عند المدخل ، وأجاهد لاستقباله قبل المدخل ، عند سيارته ، حال خروجه منها بالترحاب والقبل ، وعبارات لها مدلول عميق من مثل أن حضوره آنسنا ، وأنسانا مصابنا . الناس درجات ، ليس في الحركة فقط ، بل في الثبات أيضاً .
هكذا جرى الحال .. حتى وصل سيادته . كنت أثناء وصوله أصافح رجلاً عادياً ، بزيّ مهترىء ، ووجه بائس . ولست أدري كيف تصادف وصوله ومصافحتي لهذا الفرد العادي الذي أصرّ على تقبيلي دون أن أملك منعه . وحالما انتهيت من قبول عزائه تقدمت من سيادته ، بعد أن مسحت يدي ببنطالي ، وبحركة لافتة للنظر ، صافحته واقتربت منه لأتم شعيرة العزاء بتقبيله . فوجئت بما هو غير متوقع . كنت كمن يغتسل بسوائل جسمه . تصبب عرقي واحمرّ وجهي وسال خجلي . أحسست لحظتها بأن آلافاً مؤلّفة من العيون تستقر في هيئتي الملتاثة ، والمضطربة ، فماذا أفعل لأداري خيبتي ؟ . إن الصدّ الذي قوبلت به بدا واضحاً للجميع . لقد أشاح بوجهه عني دون أن يدع لي فرصة تقبيله . وفي سرعة هائلة سحب يده من يدي قبل تمكيني من وضع يدي الثانية على يده ، دلالة الامتنان والرضا والتآزر . شعرت بالانهيار فتهاويت على مقعد قريب ، وأنخت رأسي ثم رحت بعد دقائق أرفع ببطء هامتي . ومن بين أصابع يدي راحت عيناي تلتقطان الوجوه المحيطة بي فرأيت ما رأيت ، وليتني لم أر ما رأيت . كانت الوجوه مصوبة نحوي في شماتة وتشف . أغلقت أصابعي فعدت لا أرى أحداً ، وأحاطني ظلام دامس . وأراحني غرقي في كتلة السواد المعتمة من توتري وانفعالي .
حرت فيما أفعل حتى نضح الذهن فكرة مؤداها أن الهرب وسيلتي الوحيدة للنجاة من مأتم نفسي . وكان أن فعلت ، وتوسطت الشارع وتنفّست الصعداء . قلت لابد أن أعتذر لسيادتـه ، فلا ريب أنه أشاح بوجهه لأنني قبله كنت أصافح ذلك الهامشي الذي قبّلني عنوة . سأشرح له أن المآتم لها طقوسها . وسأقول له إنني في ضيق مما جرى ، وأنه على حق بأن أشاح بوجهه عني ، فربما يكون الرجل الذي قبّلني مريضاً فتنتقل عدوى المرض إليه عن طريقي . وسأقول له بأنني رهن الإشارة في كل ما يرتئيه … وبينما كنت مأخوذاً من هذا الخاطر تذكرت الرجل الرث ، فاشتد غضبي ، ولعنته علانية ، وبصوت عال ، آلاف اللعنات وقررت أني حالما أراه سأصفعه على خدّه حتى يسقط من الألم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07