الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا والرواية/ شهادة

محمود شقير

2019 / 7 / 31
الادب والفن


منذ ابتدأت الكتابة في العام 1961 كنت معنيًّا بأن أكون كاتبا للقصة. مع ذلك، لم يغادرني التوق إلى كتابة الرواية. ويبدو أن هذا التوق انعكس على أسلوب كتابتي للقصة القصيرة جدا، بحيث أنجزت كتبا قصصية فيها سياقات روائية. كأنني كنت أمهد بذلك لكتابة الرواية، من دون أن أتنكر لكتابة القصة.
أعيش في مجتمع فلسطيني مبتلى بالاحتلال الإسرائيلي، الذي ما زال جاثمًا على صدور الناس في بلادي منذ سنوات طويلة، وما زال في الوقت نفسه يجمّد فرص التطور الطبيعي لهذا المجتمع، بحيث راح الناس هنا يعيدون للعائلة الممتدة وللعشيرة هيمنتهما على المنتمين لهما من رجال ونساء، هذا الانتماء الاضطراري في أغلب الأحيان للاحتماء بهما من عسف الاحتلال ومن انعدام الأمن والأمان، يعني تعزيز سطوة المحافظة، وحضور الأعراف والتقاليد على نحو مبالغ فيه، وتقييد حرية النساء، وشخصنة الأمور على النحو الذي يجعل حركة الروائي في هذا المجتمع محكومة باعتبارات كثيرة وبمحاذير.
مع ذلك، لم أعدم في ما كتبت وفي ما سوف أكتب اللجوء إلى أساليب فنية وتقنيات مكنتني وتمكنني من تحدّي التقاليد والأعراف البالية، والترويج للقيم والتطلعات العصرية التي تنتصر للإنسان، ومزج ذلك كله بحقيقة أن حياة الفلسطيني لن تستقيم على نحو صحيح إلا بالتخلص من الاحتلال، وإحراز الحرية والاستقلال، للظفر بحياة كريمة تتوافر فيها قيم العدل والديمقراطية والأمن والطمأنينة والسلام.
***
أنتمي إلى عشيرة بدويّة ما زالت تتداخل في حياتها اليومية أنماط العيش البدويّة والفلاحيّة والمدنيّة. ولعلّ جذوري البدويّة هذه هي التي ألهمتني ما يمكن أن أرويه عبر الكتابة. وما أرويه يستمدّ نسغه من معايشتي لما تعانيه عشيرتي وغيرها من العشائر البدوية الفلسطينية، من قلق الانتقال من طور حضاري إلى طور حضاري آخر، ومن الصراع الناشئ عن ذلك على صعيد الفرد وعلى صعيد الجماعة، وهو قلق يتمحور أساسًا حول ثيمتين لهما علاقة بالمجتمع وبالوطن، وأعني بهما حماية الأرض والمرأة، مع ما تشتمل عليه مقولة حماية المرأة من مفاهيم بعضها صحيح وبعضها الآخر يتناقض مع منطق العصر واحترام إنسانية المرأة وحقّها المشروع في حياة حرّة كريمة، في حين تظلّ مقولة حماية الأرض مقترنة بالمفهوم الصحيح الذي يعني الدفاع عن الوطن ضدّ أيّ عدوان.
وإذا أخذنا ذلك في ضوء صراعنا مع الاحتلال الإسرائيلي، وما يضيفه إلى المعاناة الأولى من أشكال أخرى من المعاناة، ومن مسبّبات للقهر وللخوف من فقدان الأرض ومن التهجير وما يستدعيه ذلك من ضرورة للصمود في أرض الوطن وللتحدي والتضحية، فهذا يعني أن ثمة كثيرًا مما لم يُكتب بعد عن جوانب عدّة في حياة الشعب الفلسطيني، وفي بعض تجليات التجربة الفلسطينية.
ولعلّ حياة البدو في فلسطين وعلاقتهم بالمأساة الفلسطينية وردود فعلهم عليها، منذ أن تشكّلت بداياتها وحتى حدوثها على نحو فاجع، لم تلق العناية الكافية من الروائيين الفلسطينيين إلا على نحو محدود.
ربما كان هذا سببًا من الأسباب التي حفزتني على كتابة روايتين عن البدو، وعن مكان خصب فسيح سكنه البدو اسمه: البرية. هاتان الروايتان هما "فرس العائلة" و "مديح لنساء العائلة".
***
لم تدخل كتابتي حتى الآن في صلب التحولات العربية الأخيرة في ما جرت تسميته "الربيع العربي"، وذلك لأن ما كتبته في رواية "فرس العائلة" وفي رواية "مديح لنساء العائلة" يغطي فترة زمنية سابقة من حياة الشعب الفلسطيني، وبالذات الفترة من بدايات القرن العشرين حتى أوائل الثمانينيات حين خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت في العام 1982 . لكن هذا الأثر سيظهر باستفاضة في الرواية الثالثة من هذه الثلاثية؛ رواية "ظلال العائلة"، حيث أتطرق إلى الفترة الزمنية من ثمانينيات القرن العشرين إلى وقتنا الراهن، وقت التحولات وما شابها من التباسات جديرة بالتطرق إليها بإسهاب.
ويمكن القول في هذا الصدد: إن بذور ما يجري الآن وإرهاصاته كانت كامنة في تفاصيل الروايتين السابقتين على نحو غير مباشر. ولا أنكر أنّني كتبت هاتين الروايتين وعيني على الحاضر، وعلى ما ينوء به من قضايا وإشكاليات، ومن بؤس وخراب، وما قد يتمخض عنه من آمال وتطلعات.
ولعل المشكلة التي سعيت إلى تذليلها قبل الشروع في كتابة روايتي "مديح لنساء العائلة"، هي البحث عن أسلوب السرد المناسب الذي يمكن تفريغ التجربة من خلاله، أقصد تجربة عائلة العبد اللات التي أخذها الشتات إلى بقاع شتى بعد النكبة الفلسطينية. وكان هناك بطبيعة الحال إغراء المادة التاريخية التي لا بد من التعاطي معها ما دمت أتابع التطورات التي طالت العائلة المذكورة في ظرف تاريخي محدد. وكان يتعين عليّ في الوقت نفسه أن أحذر من الوقوع في أسر التاريخ أو في شرك الرصد الفوتوغرافي لجزئيات واقع مضى وما زال أثره باقيًا في الوجدان وفي حياة الناس.
لذلك اعتمدت السرد بضمير المتكلم، بحيث تتولى الشخصيات الرئيسة في الرواية التحدث عن نفسها وعن الآخرين، وبحيث تقوم ببلورة الأحداث من وجهة نظرها. كما اعتمدت أسلوب الرسائل التقليدية الذي اضطلع به أحد أبناء العائلة، تعبيرًا عن حياته في المهجر، واستجابة منه لما يحدث لأبناء عائلته في الوطن. وأعتقد أن ثمة مبررًا لاعتماد السرد بضمير المتكلم بسبب تشظي العائلة وظهور شخصية الفرد الذي لم يعد مستعدًا للانصياع لرغبة كبير العائلة كما كانت الحال في السابق.
أدعي أنني استطعت من خلال ذلك السيطرة على مادة كثيفة تتباين فيها الأمكنة، ويشتبك فيها الخاص مع العام، وتتوزع فيها الأحداث على امتداد أربعين عامًا، هي الفترة التي عايشتها عائلة العبد اللات، وتعايش معها أبناؤها وبناتها، وقد جربوا حلاوة العيش حينًا، ومرارته في أغلب الأحيان.
***
وأعتقد أن كتاباتي القصصية أسهمت في تشكيل أدواتي السردية لكتابة الرواية، حتى إن نقادًا أشاروا إلى أن روايتي الأولى "فرس العائلة" تنبني فصولها ومشاهدها من وحدات قصصية، ومن قصص قصيرة جدًّا تتوإلى وتتكامل على هيئة سرد روائي. ولست أجد ضيرًا في ذلك، بل إن فيه شكلاً من أشكال التجديد في الكتابة الروائية كما أدعي، وفيه استفادة من الجملة المتحرّرة من الزخارف اللغوية، وفيه كذلك استفادة من السخرية التي ظهرت في روايتي "مديح لنساء العائلة" وكنت كرّستها، أي السخرية، في مجموعتين قصصيتين هما "صورة شاكيرا" و "ابنة خالتي كوندوليزا".
وقد سبق لي أن كرّست كتبًا قصصية كاملة، تتشكل من قصص قصيرة جدًّا، متصل بعضها ببعض، وفي الوقت نفسه منفصل بعضها عن بعض، حيث بالإمكان قراءة كل قصة على حدة، وبالإمكان قراءتها في ترابطها كما لو أنها رواية مكتملة. أقصد هنا كتابي القصصي: "احتمالات طفيفة"، الذي اعتبره الناقد حسن خضر رواية، وكتابي: "القدس وحدها هناك" الذي اعتبره الناقد إلياس خوري رواية، وكذلك مجموعتي القصصية "سقوف الرغبة" التي لاحظ الكاتب جميل السلحوت ما فيها من سياق روائي.
***
وقبل أن أشرع في كتابة "مديح لنساء العائلة" كان علي أن أجد الشكل الفني الملائم الذي يتناغم مع أسلوبي في كتابة سرد متقشف، قادر على الاكتفاء بمئتي صفحة بدلًا من مئات الصفحات، لتتبع مسيرة عائلة بدوية فلسطينية على امتداد أربعين عامًا، بدءًا من أربعينيات القرن العشرين إلى العام 1982، العام الذي شهد حصار بيروت وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان. وإلى جانب الامتداد في الزمان، فثمة الامتداد في المكان، أو الأمكنة التي شهدت شتات العائلة البدوية وتبعثر أبنائها تحت ضغط الهجرة القسرية التي نتجت عن النكبة الفلسطينية الكبرى في العام 1948، وتحت ضغط الفقر والحاجة إلى تحصيل الرزق.
لذلك، ولتفادي الشرح الذي يطول والسرد المطوّل، أسندت بطولة الرواية إلى شخصيات محورية قليلة من بين شخصيات الرواية الكثيرة، بحيث تقوم هذه الشخصيات المحورية بالتعبير عن نفسها وعما يحيط بها من بشر وأحداث، عبر ضمير المتكلم، وباللغة الخاصة بكل شخصية من هذه الشخصيات.
***
وكنت معنيًّا، وأنا أكتب "فرس العائلة" وكذلك "مديح لنساء العائلة"، بتسليط الضوء على حياة البدو واشتباكهم مع الحداثة ومع الغزاة في آن واحد. وضمن هذا السياق كانت المحافظة على ذاكرة المكان واحدة من ركائز هاتين الروايتين، باعتبار الهيمنة على المكان تشكل جوهر الصراع مع الغزوة الصهيونية.
وأثناء ذلك، تعرضتْ الهوية الفلسطينية لمحاولات التبديد والتذويب، إلا أن تمسك الفلسطينيين بأرضهم، وبانتمائهم لوطنهم، أسهم في إبقاء الهوية عصية على كل المحاولات. بل إنها ازدادت غنى بالنظر إلى انفتاحها على ثقافات الشعوب من دون تعصب أو انغلاق.
***
ولأن القضية الفلسطينية تتأثر إيجابًا وسلبًا بكل ما يحدث في الوطن العربي من تطورات، وحيث إن ما يجري الآن في بعض أقطار هذا الوطن الكبير يغطي، بما يتسم به من قسوة وترويع، على ما يجري في فلسطين من جرائم إسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، ويغطي كذلك على تهويد القدس ومساحات أخرى واسعة من أراضي الضفة الفلسطينية المحتلة، فإن مهمة الروائي الفلسطيني تصبح أكثر اشتباكًا مع معضلات الوضع العربي وتأثيرها المباشر وغير المباشر على الوضع الفلسطيني.
وهذا يعني أن ثمة ضرورة لكتابات إبداعية يعي مبدعوها أهمية الدفاع عن القيم التي تحترم إنسانية الإنسان، وتعلي من شأن الديمقراطية والتعددية والمواطنة والتعايش في المجتمع الواحد، وترفض التطرف والإقصاء. وتعزّز في الوقت نفسه قيم النضال وبقاء الشعب الفلسطيني صامدًا فوق أرضه، مستعدًّا للتضحية من أجل انتزاع حقه في الحرية والعودة وتقرير المصير والاستقلال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو


.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد




.. بسبب طوله اترفض?? موقف كوميدي من أحمد عبد الوهاب????


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم