الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفراغ والبحث عن العجائب

ناجح شاهين

2019 / 8 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


عندما يكون الإنسان في حالة فاعلية جادة معنية حقاً بالعمل المنتج أو الكفاحي أو الإبداعي...الخ، فإنه يكون مستغرقاً تماماً في متعة الممارسة ونشوة الإنجاز. أما عندما يكون المرء في وضع المتفرج الذي ينتظر الوقائع المسلية أن تأتيه من خارج ذاته دون أن يكون مشاركاً في السيرروة الحياتية بأبعادها المختلفة، فإنه "يتخصص" في البحث عن الطرائف والمسليات والمشهيات التي تعطي الحياة طعماً عن طريق "اختراع" الوقائع المضحكة أو المثيرة للدهشة لتجدد الرتابة القائمة على محض الفرجة السلبية.
يستطيع أي شخص عاش حقبة الثورة الجزائرية أو الفيتنامية أو الانتفاضة الشعبية الفلسطينية أواخر الثمانينيات من القرن الماضي أن يشرح لنا الفروق الهائلة بين الحياة الغنية الحافلة بالفعل ونشوة التواصل الحي مع رفاقه وجيرانه وبين الحالة الراكدة التي سادت عندما تهمش فعل الجماهير وأصبح دورها أن تنتظر ما سيأتي به القائد أو المفاوض ...الخ
هناك حالة من التثاؤب تجتاح الناس عندما يفقدون اتجاه البوصلة ويتلبسهم شيطان اللاتسيس الذي يحرمهم من جمالية القيمة الذاتية وقيمة العمل الجماعي التفاعلي القائم على التواصل الحي بين الذوات التي تجمعها غايات واهتمامات مشتركة تؤسس للتواصل التلقائي والمثمر بين أبناء الحي والديرة والقرية والمخيم والمدينة. هكذا غدت حياة الناس في مناطق السلطة عندما "آمنوا" أنه لا دور لهم فيما يحدث في بلادهم، وأن حياتهم يجب أن تتجه نحو اقتناص الفرص للمناصب والمنافع والثروات، بغرض الحصول على السلع ووسائل الترفيه والسفر للتمتع في أرجاء الدنيا من قبيل تركيا أو ماليزيا...الخ بالطبع يعرف أي شخص ممن عاش أيام الانتفاضة الأولى أن جمال اللحظة الذي كانت توفره الصلات العميقة بين الناس في سياق مقاومة الاحتلال لا يمكن مقارنته بالتجربة المتثائبة المرتبطة بزياة بلد ما مثل تركيا والتفرج على أسواقها ومعالمها...الخ.
أذكر كيف عرضت علي امرأة كانت قد اعتادت السفر حول العالم أن تدفع تكاليف سفري من أجل أن أرافقها في رحلة إلى تركيا. كانت المسكينة تشكو من عدم قدرة هذه السفريات على كسر حدة الوحدة والفراغ الذي تعاني منه هنا. لقد حاولت عبثاً أن تحصل على المتعة والمعنى عن طريق السفر من هذه البلاد "المملة"، لكن النتيجة كانت المزيد من خيبة الأمل. "اكتشفت" بدون تحليل أو تفكير أن دعوة أحد الأشخاص مثلي قد يحل المشكلة. هكذا ببساطة كشفت في دعوتها أن جوهر الأزمة إنما يكمن في تراجع إمكانية التواصل مع أبناء الوطن بسبب انغلاق كل منهم على زنزانة ذاته وغياب الفاعلية المشتركة التواصلية التي تحقق للناس سعادة لا يمكن وصفها حتى عندما يتحقق ذلك في سياق حياة قاسية مثل حياة النضال ضد الاحتلال.
في سياق حالة اللافاعلية وغياب الفعل الإنساني المشارك في صناعة الحياة وإنتاجها، تنتشر ظواهر البحث عن الوقائع المتطرفة والعجيبة حتى في نطاق تافه وضحل من قبيل المبالغة في الحديث عن الطقس. مثلاً ينهمك الناس في الحديث عن شدة الحرارة "غير العادية" التي تحل بنا هذه الأيام، أو أن موجة حر هائلة سوف تجتاح البلاد قريباً ...الخ ولعل من المثير للشفقة أن طقس فلسطين كان معتدلاً هذا الصيف إلى درجة كبيرة. حتى أن درجات الحرارة لم تصل إلى منتصف الثلاثينات إلا نادراً. لقد كان الصيف إجمالاً ربيعاً اكثر منه صيفاً. لكن الناس الجائعة لاختراع الأخبار المتطرفة "المسلية" واصلت الكلام على نحو مدهش وغير واقعي عن الحر الشديد. ببساطة تم شل فعل المواطن وتحويله إلى متفرج حتى أنه لم يعد يجد ما يتواصل به مع مواطني وطنه إلا مواضيع شكلية من قبيل الطقس.
هنالك مقهى جميل وسط رام الله اسمه مقهى "العربي" أجلس فيه كثيراً بسبب إدماني أرغيلة التمباك. الشاب الصغير الذي يجهز "نفس" التمباك غالباً ما "يتواصل" معي حول شدة البرد أو شد الحر بحسب الفصل. أذكر في أحد أيام الشتاء الماضي كان هناك مطر ناعم والحراة تدور حول 14 مئوية، لكنه عبر كعادته عن حالة الرعب التي تميز الجو البارد المرعب...الخ ضحكت وقلت له بشيء من السخرية: "لو أننا في أيام الانتفاضة لكان هذا اليوم يوماً رائعاً لأنشطة المقاومة، لكننا في زمن البحث عن الغرائب."
بسبب نجاح الرأسمالية في قلعتها الأهم الولايات المتحدة في تهميش فاعلية الإنسان وتحويله إلى متفرج، فإنها تقدم له دائماً وعلى مدار الساعة مواضيع غرائبية من أجل أن تسد الحاجة إلى التسلية القائمة على الجديد الذي ليس له سوابق، الجديد الذي يصلح لأن يقول أحدنا للآخر: " هل سمعت عن ماري نيكول؟ اتضح أنها ضاجعت 17 رجلاً خلال شهرين، لذلك هناك صعوبة في تحديد من هو والد ابنتها الذي سيرث الأموال الطائلة التي تركتها." مثل هذا الموضوع مسلي تماماً، وقد يلبي حاجة الناس إلى الطرائف مدة شهر أو أكثر. عموماً هذه القصة غطاها الإعلام الأمركي على مدار ستة أشهر.
خطر ببالي أن صانع القرار التربوي في الأردن قد رغب على نحو ما في تسلية الجمهور الذي لا يقل يأساً وبؤساً عن إخوانه في فلسطين، ولذلك فقد منح أحد الطلبة الدرجة الكاملة 100 من 100 في امتحان التوجيهي من أجل أن يجد الناس موضوعاً "متطرفاً" يتحدثون فيه، ويسد الفراغ الهائل الذي يعيشونه بسبب تهميشهم وتحولهم إلى متفرجين على كل شيء حتى أنفسهم.
ترى هل كان الناس "يستمتعون" في بلادنا بأخبار "متطرفات" داعش و"غرائبياتها"؟ ربما، وإلا كيف نفسر أن الفعل الأكثر انتشاراً قد تركز حول البحث عن المواقع ومشاهدة الأفعال الإجرامية "العجيبة" التي كانت تقوم بها داعش؟
يقال إن الماركيز دي ساد كان مستعداً أن يضمن رواياته مشهداً لرجل يضاجع فيلة، أو لإمرأة تضاجع فيلاً إذا كان ذلك سيسلي القراء!
عندما يصبح الإنسان متفرجاً على حياته ومصيره، وتغدو أكبر الوقائع، مثل ما تتعرض له فلسطين حالياً مواضيع للتواصل الشكلي الباهت، يموت الإنسان بصفته كائناً فاعلاً متواصلاً ومنتجاً وحتى سعيداً، ويحل محله شبح بائس يبحث عن الفرح في الاستهلاك الفج لشهوات الفرج والبطن وما يرضي قشرة العقل الخارجية من أخبار ومعلومات تافهة تتصف بالغرابة المصطنعة التي تبهت مع الزمن والتكرار، وتفتح مثل الإدمان، الشهية للمزيد من جرعاتها.
فقط عندما يعود الإنسان إلى أخذ مصيره السياسي والاجتماعي والاقتصادي بين يديه بالتعاون والتشارك مع إخوته في الوطن، يغدو للحياة معنى وطعماً، وتصبح الأخبار الغريبة والطريفة بضاعة كاسدة لا تهم أحداً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: المرشحون للانتخابات الرئاسية ينشطون آخر تجمعاتهم قبيل


.. رويترز: قطر تدرس مستقبل مكتب حماس في الدوحة




.. هيئة البث الإسرائيلية: تل أبيب لن ترسل وفدها للقاهرة قبل أن


.. حرب غزة.. صفقة حركة حماس وإسرائيل تقترب




.. حرب غزة.. مزيد من الضغوط على حماس عبر قطر | #ملف_اليوم