الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليسنج والخواتم الثلاثة

سعيد عدنان
كاتب

(Saeed Adnan)

2019 / 8 / 6
الادب والفن



في زمن قديم ؛ كان في كليّة الآداب ، بقسم اللغة العربيّة ، درس اسمه : ( الأدب العالميّ ) يُدرّس على سنتين ؛ في السنة الثالثة ، وفي السنة الرابعة . كان درس السنة الثالثة ؛ الأدب الألمانيّ ، وكان درس السنة الرابعة الأدب الروسيّ . وكلا الدرسين نافع مفيد يصل بين دارس الأدب العربيّ ، والآداب الأخرى .
لم يكن بين أيدي الطلبة كتاب مؤلّف أو مترجم يبسط شؤون الأدب الألمانيّ ، ولم يكن في سوق الكتب ، ببغداد يومئذٍ ، ما يُعين على درس هذا الأدب ؛ فلم يبقَ إلّا ما يتحدّث به مدرّس المادة ! كان المدرّس يرجع إلى كتاب باللغة الألمانيّة بين يديه ، ويحاول أن يترجم منه ؛ فتستقيم له الترجمة حيناً ، ويلتوي عليه المعنى أحياناً ؛ غير أنّه حين بلغ ليسنج ( 1729 – 1781 ) ومسرحيّته ( الخواتم الثلاثة ) استقام له الفهم والإفهام بنحو ما ، واستطاع أن يُبين عن مغزى صاحب المسرحيّة في مسرحيّته ، وأن يقول : إنّه أراد بالخواتم الثلاثة الأديانَ الثلاثةَ ( اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام ) ، وإنّه كان يدعو إلى أن يكون بينها ضرب من الألفة والتآزر ؛ إن لم يكن في جانبها اللاهوتي ؛ ففي جانبها الناسوتي القائم على العمل الصالح في رعاية الإنسان ، ورأب صدعه ! رغبتُ في أن أقرأ المسرحيّة ، وأن أقف على فنّ المؤلّف وفكره ؛ لكنّها لم تكن قد تُرجمت إلى العربيّة !
كان ليسنج ، جوتهولد إفرائيم ليسنج ، أديباً ؛ شاعراً وكاتباً ، وكان فيلسوفاً من رادة التنوير في القرن الثامن عشر في ألمانيا ، وكان مع ذلك ناقداً . بل إنّ دارسي الأدب والنقد إنّما يعرفونه ناقداً ، ويذكرون كتابه : ( لاوكوون ) حين يتحدّثون عن معالم النقد الأدبيّ في أوربّا ؛ إذ وقف فيه عند النحت والتصوير والشعر ، مبيّناً مقدرة كلٍّ منها على التعبير ، واصفاً ما بينها من اقتراب وتباعد .
لكنّ مكانة ليسنج الرفيعة إنّما تأتي من صدارته في قضية التنوير في القرن الثامن عشر ؛ كان يجعل الإنسان أوّلاً ، ويقدّم العقلَ على ما سواه ؛ وكلُّ فكر ، وكلُّ فنّ وأدب ؛ إنّما هو وسيلة من أجل الرقي بالإنسان والسمو به ، وتعزيز خصاله الإنسانيّة . وقد كان هذا الأمر نُسغَ فكره ، وعنوان أدبه الذي لا يحيد عنه .
دارَ التنويرُ في القرن الثامن عشر على قراءة الدين قراءةً جديدة تفارق إطار الكنيسة ، وتنظر إلى مكانة الإنسان فيه ؛ وكان العقلُ سيّدَ الفهم ؛ به تُعرف الأشياء ، وبحكمه تُنزل منازلها ، والوحي إنّما يُفهم بنور العقل ! ولا ريب في أنّ ذلك أثر من آثار الإصلاح الديني الذي جاء به مارتن لوثر ، وهو أيضاً أثر من آثار عصر النهضة ؛ إذ انتقلت الأذهان من النظر في الكتب القديمة وشرحها ، إلى النظر في الطبيعة ودراستها ، والوقوف على ما يحكمها من أنظمة . وكلّ ذلك ناتج من استبدال منهج بمنهج ! فلقد استبدل قادةُ عصر النهضة منهجَ الاستقراء بمنهج الاستنباط ! وانتقلوا من قراءة الكتب القديمة إلى قراءة الطبيعة ! وأنكروا أن تكون كلُّ الحقيقة في تلك الآثار القديمة ؛ بل إنّ جوانب من الحقيقة تكمن في الطبيعة وعناصرها . وما أن أخذ العلماء في عصر النهضة يقرؤون الطبيعة ؛ حتّى تقلّص ظلّ الحقائق القديمة ، وتزعزعت ركائزها ، وشرع التنوير ، من حيث هو احتكام إلى العقل ، ينفذ في كيان الفكر والأدب .
لقد ورث ليسنج ثمار الإصلاح الديني ، وثمار عصر النهضة ، وأفاد منها ، ثمّ ارتقى بها خطواتٍ أخرى في سبيل التنوير . إذ عبّر عن ذلك في فكره ، وفي أدبه ؛ فقد كتب : ( تربية الجنس البشري ) مُبيناً فيه عن مجرى التاريخ ، ومكان الوحي والعقل فيه ؛ وعنده أنّهما من أجل الإنسانيّة ورقيّها ، ولا يصحّ لهما أن ينقطعا عن الحياة . وكتب المسرحيّة الشعريّة : ( الخواتم الثلاثة ) ؛ وقد أذاب فكره المستنير في أحداثها وشخصيّاتها .
تجري حوادث المسرحيّة في القدس ، على زمن صلاح الدين الأيّوبي ، حيث تلتقي الأديان الثلاثة ، ويلتقي أصحابها ، وتمتدّ الوشائج بينها . يبدأ مشهدها الأوّل من فصلها الأوّل بعودة " ناتان " إلى بيته من سفر طويل ، بعد أن باع واشترى ، وهو التاجر اليهودي ذو المال الوفير . وما أن يصل حتّى تُخبره " ضايا " مربيةُ " ابنته " أنّ حريقاً ، في غيبته ، شبّ في الدار وكاد يودي بـ " ابنته " " ريشا " ؛ لولا فارس من فرسان المعبد اقتحم ألسنة النيران ، وأنقذها . ثمّ تُخبره أنّ فارس المعبد هذا ؛ إنّما هو أحد الأسرى الذين وقعوا بين يدي صلاح الدين الأيّوبي وهو يحارب الإفرنج ؛ فأمر بضرب أعناقهم واحداً واحداً ؛ فلمّا بلغ السيّاف عنق هذا الفارس ، وأمره برفع رأسه حتّى يُقطع ؛ وقعت عينا صلاح الدين عليه فاختلجت مشاعره ، وأمر برفع السيف عنه ، وفكّ قيده ، والعفو عنه ! وقد قيل في ذلك : إنّ صلاح الدين تذكّر به أخاً له مات من عشرين سنة ، وإنّ ملامح فارس المعبد ترمي إلى ملامح أخيه ! وكأنّ فارس المعبد نجا من القتل حتّى يُنقذ " ريشا " من الموت !
ثمّ يجد ناتان أنّ " ابنته " قد علِقت فارس المعبد ، وشُغفت به ؛ لكنّ فارس المعبد مختفٍ لا يظهر ، ولا يريد على صنيعه شكرا ؛ وما يزال ناتان به حتّى يجده ، فيمدّ معه أطراف الحديث ، ويُقيم الصلة . وتمضي حوادث المسرحيّة على أكثر من مسار ؛ غير أنّها كلّها تصبّ في مجلس صلاح الدين ، وتشتبك خيوطها عنده ؛ إذ يلتقي اليهودي بالمسيحي تحت خيمة السلطان المسلم .
وفي بيئة كهذه لا بدّ أن يقع سؤال ، وأن يرد جواب ؛ أيّ الأديان هو الحقّ ؟ وقد سأل صلاحُ الدين ، ذات يوم في مجلسه ، ناتان ؛ أيُّ دينٍ هو الحقّ ؟ وقد دلّت حوادث المسرحيّة ، منذ ابتدأت ، على صدق ناتان ، وحكمته ، وهدوء نفسه ، واعتدال رأيه حتّى لُقّبَ بـ ناتان الحكيم ؛ فكان من جوابه أن روى لصلاح الدين حكاية فحواها ؛ أنّ رجلاً ورث عن آبائه خاتماً كريماً يمنح حامله الصفاء ، والسلام ، ويُلقي عليه محبّة من الناس ، وكان له ثلاثة أبناء ؛ فلمّا دنا منه الموت عزّ عليه أن يمنح الخاتم لواحد من أبنائه ويحرم الآخرين ؛ فانقدح في ذهنه ؛ أن يُكلّف صائغاً ماهراً بصناعة خاتمين على طبق خاتمه في كلّ شيء ؛ حتّى إذا استوت بين يديه ثلاثة خواتم لا فرق بينها دفع لكلّ ولد من أولاده خاتماً ! ومغزى الحكاية في الإجابة عن سؤال صلاح الدين ؛ أنّ الأديان سواء ، وكلّها حقّ عند أصحابها ، وأنّ الجامع بين الناس إنّما هو المحبّة والألفة وروح التعاون !
ليست هذه المسرحيّة من التراجيديا ، وليست من الكوميديا ؛ ولكنّها مسرحيّة أفكار استطاع المؤلّف فيها أن يُذيب الفكر ، وأن يصبّه على شخصيّات من صنعه ، وأن يمضي بهذه الشخصيّات إلى مصائرها التي أرادها لها . فقد تكشّف الأمر شيئاً فشيئاً ؛ أنّ ريشا ليست من صلب ناتان ، وإنّما هو متبنّيها ، والقائم بأمرها ، وأنّ فارس المعبد الذي لمح فيه صلاح الدين شبهاً من أخيه المتوفّى قبل عشرين سنة ؛ إنّما هو ابن ذلك الأخ من زوجته المسيحية الألمانيّة ، وأنّ ريشا نفسها هي ابنة ذلك الأخ أيضاً ، وأنّها أخت فارس المعبد ! لقد أراد المؤلّف أن يقول إنّ هذه الأديان نافذ بعضها في بعض ، وإنّ هذه الدماء جارٍ بعضها في بعض ؛ فلا ينبغي أن تقع العداوة والبغضاء !
جرت حوادث المسرحيّة سلسلة شائقة بعضها ينبثق من بعض ؛ حتّى اكتملت عند غاية المؤلّف في إشاعة روح السلام والمحبّة والوئام .
كنتُ مشوقاً أن أقرأ المسرحيّة ، وأن أقف على فكر المؤلّف وفنّه ؛ فلّما قرأتُها بترجمة فوزيّة حسن الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر وجدت نصّاً ثريّاً بالفكر والفن جديراً بالقراءة ، وإعادة القراءة ! غير أنّ الترجمة لم تسلم من لحن في النحو والصرف ؛ وكان حريّاً بالمترجمة أن تستدرك ما فاتها من شؤون النحو والصرف ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حوار مع الدكتـور سـعـد كـمـونـي حول مجمل أعماله الفكرية | حا


.. مسك الكلام | علي عليان - ممثل ومؤسس مهرجان المسرح الحر الدول




.. الممثل البريطاني المصري خالد عبدالله لـCNN: وجدت نفسي حين وق


.. حضور استثنائي للفنان عادل إمام في زفاف حفيده




.. أخبار الصباح | بعد هجوم بوتين الكبير.. الناتو: علينا تعلم ال