الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الساديون الجدد

الفرفار العياشي
كاتب و استاذ علم الاجتماع جامعة ابن زهر اكادير المغرب

(Elfarfar Elayachi)

2019 / 8 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


ما وقع ليس جزءا من فيلم او خدعة سينمائية , انه نقل مباشر من واقع مؤلم و عبثي لطفلة تحترق و الناس منهمكون في اخذ الصور, و ربما يتسابقون من يحقق سبقا في اثارة الموضوع , او من يفوز باكبر قدر من المشاهدات و التتبع , انها رحلة البحث عن البوز و الشهرة على حساب حياة طفلة تلتهمها النيار كما تلتهب النار الحطب .
ما وقع يجعل الاخرس ناطقا , انها فاجعة تعلن موت الاحساس البشري و نهاية الاخلاق و موت الضمير الانساني .
المفكر العربي ابراهيم نصر الله و في روايته الرائعة زمن الخيول البيضاء , يتساءل امام بشاعة الوضع و ماساويته يلزمنا قلوب اكبر لكي تتسع لكل هذا الاسى و لكل هذه الاوجاع والاحزان ؟
قصة هبة الطفلة البرئية و التي صرخت باعلى صوتها طابة النجدة من حشود قررت ان تتفرج , اغلبهم كان مشغول بتصوير حدث الحرق و الاحتراق و مشهد النيران .

موت هبة احتراقا و الناس يتفرجون و يصورون , يشكل صدمة اخلاقية للجميع و ادانة للضمير الاخلاقي و للسلوك الديني للجميع من حضر و من صور و من وقف صامتا و حتى و ان كان منفعلا , لان الانفعال في وقت الشدة و النواح هو دليل ضعف .
هبة ماتت و رحلت لكنها كشفت لنا عوراتنا و عورات الجهات المسؤولة عن حمايتنا في لحظات الخطر .
ماتت هبة و حملت معها حزنها الى عالم اكثر عدلا و واكثر رحمة حيت مكان الاطفال الجنة , كما قال ذلك الروائي دوستويفسكي في روايته الشهير ة الاخوة كارامازوف حين خاطب الام التي فقدت ابنها ان مكانه الجنة فلا داعي من البكاء .
لا داعي للبكاء على طفل سيكون ضيفا عن الله و سيكون في الجنة انهم ملائكة الرحمان , البكاء الحقيقي ينبغي ان يكون على قيم مجتمع يموت يوميا , مجتمع يعيش فيه الساديون الجدد من يستمتعون بعذابات الاخرين و يتلذذون بصراخ طفلة تحترق .
مانت هبة و انتقلت الى علم اكثر امنا و اكثر عدلا وتركتنا في عالم موحش , معلنة نهاية الاخلاق و نهاية القيم و ان الانسان فقد ذاته و ان جسده قد راكمه الصدأ اجسادنا و لم يعد نحس ولايفكر و لانتحرك و لا يفعل ولا ينفعل , و حتى ان انفعل اخذ هاتفه من اجل تصوير مشاهد نهاية طفلة و هي تموت وسط النيران .
لقد اصبح الفعل هو القدرة الى التقاط الصور و انتاج اكبر قدر من السيلفيات , فالصورة اهم من الحدث
اعتبرت المفكرة الفرنسية الزا كودار ان شبكات التواصل الاجتماعي هاته أصابت العالم بالجنون، وأن العالم فقد عقله بسبب ما يسمى باإليموجي وهي كلمة مستعارة من اللغة اليابانية وتدل على ما يكتب بالصور،
الذات الرقمية التي تجد سعادتها في مغادرة الواقع الفعلي و الاقامة خارج ذاتها تدخل في تواصل و تسويق لذاتها عبر السلفي , و هو ما يجعل الذات عاشقة لذاتها و تحقيق « اللذة السيلفية» بحسب تعبير الزا غودار .
عصر السيلفي ادخل الذات عصر الفضيحة و كشف اللحظات الحميمية و الخاصة بها و جعلها فعلا متاحا للجميع , ربما لا يعد قيمة الشخص في احتفاظه بأسراره , و لكن بمحاولة الكشف عنها. لذا فموت هبة كشف عوراتنا و ان مجرد كائنات سادية تبحث عن سعادتها على ركام احزان الاخرين .
الحدث عميق ودال و حزين يكشف حجم الانشقاقات في بنية الفعل الاخلاقي و السلوكي للانسان المغربي و الذي فقد روحه وواقعيته و اصبح يعيش عبر الهاتف و من خلال الهاتف , و انا موجود بقدر ما ينتج من صور و بقدر ما يحقق من اعجاب .
الامر مؤلم هؤلاء الساديون الجدد و الذين تركوا اخلاقهم وتنازلوا قيمهم , و مد يد العون لطفلة في حالة خطر و منحوا لانفسهم فرصة استخراج هواتفهم و تشغيل كاميراتهم و اختيار المكان المناسب حتى تكون الصورة افضل و اجمل , و يكون الفيديو اكثر واقعية و اكثر جمالية .
ما وقع يكشف حجم التحولات و عمقها بالمجتمع المغربي و كيف اصبحت السادية امر عاديا , وان الاخلاق الصلبة و التي تربى عليها المغاربة تحولت الى خلاق سائلة ورخوة تتمثل في تحويل الحدث الى صورة , و ان اقصى ما يقدمه الساديون الجدد لطفلة تموت احتراقا هو توثيق لحظة موتها بغية الحصول على اكبر نسبة من المشاهدة و ربما الحصول على تعويض مالي من ادارة اليوتوب .
ما وقع ان العولمة حولت اخلاقنا الصلبة الى اخلاق سائلة ذائبة بلا قوة و بلا مفعول و النتيجة سيولة اخلاقية لا مثيل لها عنوانها الاساسي : ترك طفلة تصرخ وحيدة و هي تحترق والساديون يستمتعون بإخراج هواتفهم الانيقة و الذكية لتوثيق لحظات الموت .
موت هبة كشف حجم الاعطاب لمؤسسة المفروض فيها الجاهزية لتدبير الحالات الخاصة , الصور المنشورة حول تدخل الوقاية المدنية يكشف انها مؤسسة تعمل بشكل متخلف من خلال المعطيات الاتية :
اولا : ضعف التجهيزات
رجال المطافئ يعملون بدون وضع خوذات على رؤوسهم وهو امر غريب و منافي لشروط العمل , اظافة الى غياب السلالم من اجل الوصول الوصول الى الطفلة .
ثانيا : وضعية الطفلة لم تكن تستدعي رشها بالماء و انما العمل على التدخل لازالة الاطار الحديدي للنافذة , وهو مؤشر يشكل ضعف التدريب و غياب الكفاءة
ثالثا : مشاركة شخص مدني مع طاقم رجال الوقاية المدنية و هو امر غير مسموح به ويعكس حالة الارتباك داخل مؤسسة المفروض فيها القدرة على التركيز و الدقة اثناء تدبير المخاطر
رابعا : تاخر وصول رجال المطافئ و الوقاية المدنية وهو مؤشر سلبي على ضعف الجاهزية و الحس المهني
خامسا : ضعف صبيب الماء وهي ملاحظة في غاية الخطورة تكشف ان كمية الماء كانت قليلة او ان هناك عطب في نظام اطلاق الماء .
الحذر لا يلغي القدر , قدر الطفلة هبة ان تموت احتراقا و قدر اسرتها ان يخيم على منزلهم حزن اسود , لكن ليس قدرا ان نملك مؤسسات عمومية تنفق عليها اموال ضخمة و و اعتمادات فلكية و حين نحتاج لها في ابسط تدخل يكون الخذلان و عدم الفعالية و سوء تدبير الازمات .
المفكر السياسي الالماني كارل شميد اعتبر ان قيمة مؤسسات الدولة تظهر في وقت الازمات , فقيمة مؤسسة الوقاية المدنية يجب ان تظهر في اوقات الشدة و ليس استعراض قوتها في تفريق المحتجين المطالبيين بأبسط حقوقهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر أمني: ضربة إسرائيلية أصابت مبنى تديره قوات الأمن السوري


.. طائفة -الحريديم- تغلق طريقًا احتجاجًا على قانون التجنيد قرب




.. في اليوم العالمي لحرية الصحافة.. صحفيون من غزة يتحدثون عن تج


.. جائزة -حرية الصحافة- لجميع الفلسطينيين في غزة




.. الجيش الإسرائيلي.. سلسلة تعيينات جديدة على مستوى القيادة