الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قفا ثقافي بارد

سامي البدري
روائي وكاتب

(Sami Al-badri)

2019 / 8 / 6
الادب والفن


قفا ثقافي بارد


رغم كل طرق التفكير المنظمة والأفكار الفلسفية المجردة والنضوج العلمي والتقدم التكنولوجي الذي حققه الإنسان، إلا أننا لا نراه يسير نحو الكمال وإنما نحو الاندحار والانحلال والخيبة، المادية والمعنوية أو الروحية.
وهذا الاندحار، وما يتبعه من انحلال ليس سببه (فائض الطاقة) الذي تحدث عنه الأمريكي بروك آدمز في كتابه «قانون الحضارة والانحلال»، وإنما سببه تآكل المساحات الخضراء الثقافية التي تضبط قيمه من عقل الإنسان، التي هي أشبه ما تكون بالمساحات الخضراء التي تترك في وبين أحياء المدن للتنزه والترويح، والتي يحيل غيابها، المدن، إلى كتل من الجدران الصماء، التي تكرس في لاوعي الإنسان أو عقله الباطن، ثقافة السجون والانغلاق والانكفاء وشعور الاستلاب، الذي كان ـ شعور الاستلاب ـ السبب الأول لقيام الفلسفة الوجودية.
أمر محير فعلا أن يرافق عصر أو حضارة الازدهار العلمي والتقدم التكنولوجي، عملية نكوص ثقافي بالشكل المفزع الذي نراه في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، عصر تفجر العلم والتكنولوجيا في أقصى مدياتهما. ما من شك أن الثقافة المادية التي رافقت عصر ازدهار العلم، وتدخل قوانين الربح والخسارة الاقتصادية، التي صارت تحكم تفكير وحسابات الإنسان الحديث، بحكم اللهفة خلف المال، باعتباره مفتاح السيطرة على سعادة المقتنيات، التي أغرقت المصانع الحديثة الأسواق بها، كل هذا أفرز ثقافة مادية ـ سلعوية بصلابة الفولاذ وجفافه، أقصت كل ما عداها من ثقافات وقيم إلى الخط الثاني.. بل حولتها إلى ضيف ثقيل، وخاصة القيم الدينية، التي لم تعد تذكر إلا في المناسبات والمصائب والكوارث الكبيرة التي يعجز العلم الحديث عن تفسيرها أو ردها.
الطاقة الفائضة التي تحدث عنها بروك آدمز استهلكتها مصانع العلم الحديث ومنتجاتها الاستهلاكية وأحلت محلها ثقافة (القيم الباردة)، التي لا يغير حرارتها إلا قيمة الأوراق المالية التي يتوفر عليها رصيد الإنسان وماركة السيارة والبدلة التي يذهب بها إلى مقر المصنع الذي يعمل فيه.. وهي بالتأكيد أجمل وأكثر أناقة من أسمال المسيح ورهبان ديانته، وأسمال الرهبان البوذيين والمتصوفة والزهاد المسلمين، رغم أن أصحاب الأسمال الذين ذكرنا، كان يتوفر لهم الوقت لخلع أسمالهم والرقص تحت المطر، بل وحتى الجلوس لساعات، في ظل شجرة، لترقيعها أو رتق بعض فتوق زمنها، لأنه ـ زمنها/زمنهم ـ لم يكن محاصرا برقاص ساعة يضبط لهم توزيع أنفاسهم، قبل أوقاتهم، على (صناديق) و(تخوت) تلك المصانع.
مثلما تفعل كل حضارة، فرضت حضارتنا الحديثة ثقافتها وقيمها، وهذا أمر طبيعي في نظام الحضارات وقوانين وديناميك سيادتها وازدهارها، إلا أن المشكلة التي تواجهها حضارتنا الحالية هي في إنها لم تفرز وضعا وقيما ثقافية توازي في تقدمها، حجم تقدمها العلمي والتكنولوجي؛ خاصة بعد حالة تصلب الشرايين التي أصابت الفلسفة ـ مصدر وحاضنة الثقافة ومشروعها ـ أو تحجر خطواتها على حافة الهوة التي وضعها عليها العلم الحديث بتقدمه، وفرضه لقيمه الاقتصادية المادية التي تطلبتها ديمومة استمرار تقدمه. فالتقدم الصناعي يتطلب أسواق تصريف للبضائع التي تنتجها المصانع، وهذه الأسواق تطلبت ثقافة استهلاكية صرفا، في حين ظلت القيم الثقافية الموروثة، في جانبها الروحي على وجه الخصوص، معلقة على حافة الحلم الذي رآه المؤرخ آرنولد توينبي على مذبح كنيسة (آمبل نورث)، حيث وجد نفسه يقبض على أسفل الصليب المعلق على ذلك المذبح وهو يسمع صوتا يقول له: «تمسك وانتظر»… إلى متى سيستمر هذا الانتظار وما هي أهدافه ومبرراته؟ وهذا هو السؤال الذي يجب أن تجيب عليه ثقافتنا، بما فيها حاضنتها الفلسفية وانطلاقا منها طبعا. فإلى متى سنبقى متمسكين بأسفل (صليب الأمل) هذا وننتظر، وقد مر على انتظارنا هذا 2014 من الأعوام إلى اليوم؟ أما آن لنا أن نقتنع أن هذا الصليب ـ بخلفيته الثقافية اللاهوتية طبعا ـ ليس أكثر من قطعة من الخشب الأصم وإنه آن لنا أن ننتج وضعا ثقافيا آخر أكثر ملائمة لاحتياجاتنا؟
ويجب أن نؤكد هنا أن ما يعنينا في هذه اللحظة، من عمر زمننا وحضارتنا القائمة، هو ليس إنقاذ حضارتنا من تدهورها وانحلالها، إنما ما يعنينا هو إنقاذ الإنسان، عبر مشروع ومنظومة ثقافية جديدة تعيد الاعتبار للإنسان، وتعيده إلى موقعه ككائن متطور وقادر على إنتاج الأفكار، وأيضا يمثل مركز الوجود الحياتي على هذه الأرض… والأهم أن يكون محور اهتمام الحضارة وهدفها لا مجرد ترس في ماكنتها. ويجب أن ننوه هنا كمراقبين ودارسين، بأن حضارتنا القائمة (الحضارة التكنولوجية/الاقتصادية أو حضارة الاقتصاد بمعنى أدق)، هي مازالت تجّد باطراد لافت للنظر، في نموها وارتقائها المعرفي/العلمي الخالص، وهذا ما لا يستطيع أحد إنكاره عليها أبدا؛ إلا أن جدها هذا يمارس نوعا من الطغيان والبطش (اللاهوتي) ضد كل ما عداه، وأولها كيان الإنسان ووجوده ووجوديته الفرديان، وكينونته الشخصية وحريته الفطريتان، اللذان هما عماد أناه ودورة وجوده في حياته التي تقاوم الإلغاء والتحجيم والتحنيط أبدا، التي عبر عنها الفيلسوف الوجودي، سورين كيركغارد بصرخته ضد نظام هيجل اللاغي لفردية الإنسان وحريته في نفسه: «لن أكون عنصرا وحسب في نظامك، إنني أنا»، التي عبر، هرمان ملفل، عن (فلسفتها) بإسلوبه الأدبي الشيق: «إن كل تفكير جدي عميق هو محاولة مجهدة تؤديها الروح لتحتفظ ببحر استقلالها الواسع»، وهذه هي الفكرة الأساس في الرد على أو مواجهة النظام (الثقافي) الذي أفرزته أو فرضته حضارة القرن العشرين، حضارة سيادة الاقتصاد؛ لأن هذه الحضارة اعتمدت فكرة النظام التنظيمي (التقنيني) على كل نواحي الحياة، على اعتبار أن النظام وحده القادر على المحافظة على تماسك المجتمع، وبالتالي فإن هذا التماسك أو حاجته تحولت إلى قانون يحكم ويجرّم، وهذا ما أفرز وضعا ثقافيا خاصا، مهادنا ومساوما، من دون أن يتوقف أمام السؤال المهم: ولكن ما هو النظام؟ وهل كانت نوايا هذا النظام سوية وغير مصلحية لأصحابه؟ وهل هو كفيل بخلق وضع ثقافي مضاد أو قبوله؟.. بمعنى: هل تقبل كبريات مصانع الإنتاج الصناعي تغيير سياساتها الإنتاجية ونوعية منتجاتها، بناء على مطلب ثقافي أو جهة ثقافية؟ بمعنى هل تقبل مصانع الأسلحة تغيير نوعية منتجاتها إلى منتجات سلمية بناء على مقترح أو رؤية ثقافية، رغم أنه ثبت للعقل البشري، ومنذ اللحظة الأولى التي أنتج فيها الفريد نوبل البارود، أن الأسلحة مضرة وقاتلة ولا فائدة منها لا للحياة ولا لتدعيم النظام، لأن فتك الأسلحة أصبح هو الدعامة الأساسية لخرق وتحطيم هذا النظام من الأساس؟
إن حضارتنا الحالية، حضارة العلم الاقتصادية، تمارس سياسة إزاحية صامتة ضد الثقافة البريئة (أي الثقافة التي ينتجها الحس والشعور الفطريان، قبل العقل البشري، ووفق نسق تطوره وحاجاته الفطرية ـ الروحية ـ وليس وفق قوانين العرض والطلب التي أفرزها نظام حضارة الاقتصاد) وهذا هو ما خلق الوضع المأزوم الذي يعيشه الإنسان الحديث في ثقافته: نسق تقبله وتفاعله مع نظام وقوانين العملية الاقتصادية (قوانين الربح والخسارة) التي تحولت لنظام يحكم العملية الثقافية، كنتاج فكري تفرضه حاجات الإنسان الفطرية أو الطبيعية. وإذ نقول إن جزءا كبيرا من مشكلة الإنسان اليوم هو ثقافي، فهذا يعني أن اختلالا قد أصاب نسق متغيرات التقبل والاحتجاج والرفض الفطرية المسؤولة عن إنتاج الثقافة، بشكليها، التطوري والتطويري، وإن جزءا من أنظمة العملية الاقتصادية ـ كفعل حضاري ـ قد انسحب عليها وصار يتحكم فيها أو يتدخل في عملية توجيهها.
وهذا يعني، بطريقة من الطرق، أن الفعل الثقافي قد صار جزءا في منظومة التعمية والتسلط المتخفية خلف أو المحتمية بقداسة النظام، وهي تمارس عملية إحداث الشروخ ـ سواء عن قصد أو غير قصد ـ وبناء التصدعات التابوية، المنظورة وغير المنظورة في طرق التفكير ووجهاته، وتسلبه بريق التباين واشتراطاته الأفقية والعمودية، ولعل هذه المشكلة هي أحد أسباب نكوص الفلسفة واضمحلالها وتراجعها عن ساحة الفعل والخلق الثقافي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرباط تستضيف مهرجان موسيقى الجاز بمشاركة فنانين عالميين


.. فيلم السرب لأحمد السقا يحصد 22.4 مليون جنيه خلال 10 أيام عرض




.. ريم بسيوني: الرواية التاريخية تحررني والصوفية ساهمت بانتشار


.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة




.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن