الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شام-الفصل السادس والعشرون

منير المجيد
(Monir Almajid)

2019 / 8 / 11
الادب والفن


في ربيع ١٩٧٥ لجأت عائلة لبنانية، زوجان وأربع أطفال، إلى شقة وديعة الصغيرة، هرباً من الحرب اللبنانية الأهلية، وتحوّل هدوء المكان إلى صخب لعب الأطفال، واللهجة اللبنانية وأغاني وديع الصافي.

كنّا، سمية وأنا، نجلس جميعاً في فسحة الدار، نتحدث وندخّن ونحتسي القهوة، بينما وديعة تسقي شجيرات الورد.

ومواعيدي مع سمية استمرت. في الكلية، مشاوير السينما، زيارة الأصدقاء، وهكذا. كثيراً ما كنّا نتقابل، دون موعد أو إتفاق مسبق، عند صديقتنا المشتركة مها على سبيل المثال، أو في شقة صديقتها الحلبية، التي، ربما، كانت أول من أعلنت عن ميولها السحاقية بوضوح في البلاد.

لست متيقناً من تفسير هذه الظاهرة. قد يكون الرابط بيننا في غار مجهول لا مأوى له، حيث تحدث أمور غريبة لها علاقة بالروحانيات. هي عميقة وأكثر بكثير من مجرد أمور تحدث، والدليل كان، دون شك، تلك المواعيد العفوية.

أغرب هذه اللقاءات العفوية، حدث حينما سافرت لزيارة أخيها الذي كان يدرس في باريس.
وقت الزيارة كان أسبوعاً، حسب ما خُطط له. قالت لا حاجة لكتابة رسالة، لأنني سأعود قبل وصولها لك.

غابت لأكثر من أسبوعين، ولم أسمع منها.

أذكر، أن عدة أصدقاء كانوا في زيارتي، حينما وقفت على نحو مفاجئ وقلت أنا ذاهب إلى المطار.
الساعة كانت قرابة العاشرة مساءً، والجو ربيعي تتخلله نسمات تشبه الهمسات، والقمر مكتمل.
فتنته لا تضيء الأشياء فحسب، بل تنسكب عليها كالفلورسينت الذائب.
هكذا فكرت وأنا أنتظر الباص الذي جاء، خلافاً للعادة، نصف فارغ من الركاب.
لحقت بالباص المتجه إلى المطار في آخر لحظة في موقفه عند البريد. ومن نافذة الباص كان نور القمر واضحاً على قمة قاسيون أيضاً.

حينما دخلت قاعة الإستقبال في المطار، كانت سميّة تدخل من باب القادمين، برفقة أخيها.

لم تسألني كيف عرفت موعد قدومها. حتى لو فعلت، كيف أجيب؟

بعد زيارة باريس حدث أمر ما. ذلك اللهيب في علاقتنا خفتت حدته من طرفها، بينما صار الحب يمزقني.
لا بد أن للحب أنصال مخفيّة. كنت أتوّقد جمراً.

كلما اعتقدت أننا نحقّق تقدماً، كانت سميّة، وعلى نحو غير مهذب أحياناً، ترجع خطوة إلى الوراء.
هل كانت تريد وضع حدٍ لهذه القصة؟ ماذا حدث في باريس؟ لماذا لم نعد نتحدث بتلك الأريحية والإنفتاح الذي طبع علاقتنا؟
دارت في دماغي ملايين الأسئلة.

لا أعرف، حتى الآن، إن بادلتني سميّة الحب بنفس الطريقة ومنذ البداية. كان فيها دائماً ذلك التعالي الأخرق الذي ينظر فيه الدمشقيون إلى أبناء المحافظات الاخرى.
هل كانت إيثاريّة كما كنت معها، أم كانت أثرة كما دلّت بعض تصرفاتها؟ لكن هل هذا مهم؟ الأهمية عندي تلخصت بما أعطتني سميّة من مشاعر جديدة عليّ.
أشياء لم أجربها من قبل. وهذا كان كافياً في عالمي الصغير حينذاك.

صرت أتسلى بعزل نفسي أحياناً وأغوص في أفكاري، محاولاً لمّ شخصي المتفتت في الداخل.
أحياناً كنت أتحّلق، مع الشلّة، حول مسجّل ونستمع بعمق إلى موسيقى تحت-الأرضية لكبار محششي ومتعاطي المخدرات الأمريكان والبريطانيين، جيثرو تل كانوا المفضلين عندي.
أو أُرضي فضولي بشتّى الطرق، مثل ذاك اليوم حين هبطت الدرج بسرعة لأستطلع جنازة كبيرة محروسة بأفراد الشرطة والأمن على طرفي الشارع.

الجنازة جاءت من جهة شارع الزينبية إلى ساحة التحرير، واتجهت، كما خط الباصات، يساراً. إزداد فضولي أكثر حينما استدارت يساراً، مرّة اخرى، إلى شارع مرشد خاطر.

توقف السير تماماً. كان الصمت هو سيّد الموقف في البداية، وحينما كثرت سيارات الأمن والشرطة وصدرت إليهم الأوامر بالإنصراف، وضعوا «التوابيت» أرضاً، وأخرجوا منها هراوات وهاجموا رجال الشرطة والأمن.

لم تستمر المعركة لأكثر من خمس دقائق، حينها سمعت زخّة من رشاش اوتوماتيكي، فاختفى الحشد المؤلف من رجال ونساء في الشوارع الجانبية، بعد أن تمّ اعتقال البعض.
لم يتحدث أحد عن الأمر، سوى إذاعة إسرائيل باللغة العربية.
قالوا أموراً عن مظاهرة كبيرة للجالية اليهودية إحتجاجاً على مقتل ثلاث فتيات يهوديات أردن النزوح إلى إسرائيل عن طريق الجولان بمساعدة البعض من أجهزة الأمن السورية. وقد قام هؤلاء باغتصابهن وقتلهن وأخذوا حليهن أيضاً.

ما تبقى من وقت في كلية الفنون الجميلة، صرفته على مشروع تخرجي، الذي اخترت له إسماً مستهلكاً «الإنتظار»، وصار لي غرفتي الخاصة هناك، أقفل بابها.
مشرفي إلياس زيات، كان يأتي لزيارتي في غرفتي لدى وديعة، وقضينا ساعات نحتسي العرق، ونتحدث عن أشياء كثيرة، دون أن نتطرّق إلى مشرع التخرج.

تفاجأت حين حصلت على ثاني أفضل علامة، بعد إدوار شهدا. لم تحضر سميّة يوم التخرج، ولم أرها لمدة طويلة بعد ذلك.

بعد التخرج ذهبت إلى القامشلي وانتظرت، في وقت ضائع، سنة دراسية كاملة لألتحق بالخدمة العسكرية، التي سوف تكون وقتاً ضائعاً إضافياً لمدة سنتين ونصف.

القامشلي كانت القامشلي إياها التي تركتها قبل بضع سنوات. توسعت قليلاً وازدادت الأبنية الإسمنية، لكن بيوت الطين كانت تغلب. لاحظت ازدياداً في عدد الشحاذين الذين كانوا يكشفون عن عاهاتهم، والنساء عن أطفالهن المحمولين كخرقة، لبثّ الشفقة في قلب المارة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح