الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قالوا: بركات زلوم

أفنان القاسم

2019 / 8 / 12
الادب والفن


*********************
توضيح

وقفات وليست مواقف، فالمواقف من ورائها غاية ما، والوقفات كلمات أو لحظات تَعِدُنا وتُعِدُّنا لنتخذ موقفًا، هدفي ليس هذا أو ذاك، هدفي توثيق بعض الكتابات عني في هذا المنبر، وفي هذه اللحظة الحاسمة من عمري الأدبي، وأنا أعيد زيارة الكتاب المقدس، وأتعرض لشتى ردود الفعل، وهي كذلك مناسبة لأرتاح.

*********************



لم تكن غائبًا بينما حضر كثيرون وكانوا غائبين فأي حديث أشجى من حديث يطول حولك ومعك في مكان لم أكن فيه





أي زمن أجمل من زمن معك، وأية علاقة أجمل من علاقة مع مدينة أنت فيها ومع قصة كتبتَهَا أو رواية نزفتَ عصبك في كتابتها يا صاحب المسار المفتوح نحو المدن التي تطل من عيونها المرتعشة بالدفء والخوف علينا نحن المسكونين بالجرح الذي يلوثه محيطٌ مهزومٌ فَرِحٌ حتى الجنون الغبي بهزيمته.


كنتُ دائمًا أبحث عنك لأني أشتاق إلى صدقك الصوفيّ، أشتاق إليك وأنت في بيتك الذي على بعد مائة متر من بيتي المراكشيّ المطل على النخل الذي يداهم الأفق ويتطاول على الشمس في غروبها وشروقها وتكسر خضرته التي تحمل حلمها الذي لا ينطفئ حدة الشفق المرجاني الطالع من عيون الشهداء القادمين من زمن الفرسان العتيق، وكنتُ أشتاق إليك وأنا مع طلبتي في المدرج وأنت مع طلبنك في المدرج المجاور، وكنت أبحث أحيانًا عنك وأنا معك، أبحث عن الامتداد اللانهائي فيك، امتداد الكلمة في قلبك الطفل الذي سيظل أبدًا رهين عذابه.


وهذا هو مؤتمر الاتحاد الكتاب والصحفيين يعقد في الجزائر العاصمة، فأجري إليها من وهران أكاد أبتلع الطريق، وكان الطريق فصل ربيع، وكانت كل المدن التي نحبها، تسكن الفضاء الذي صار في عيني، وتسكن الجبال، وتسكن الشجر، وهذه أنتِ أيتها البلوطة الخليلية التي علَّقْتُ على جذوعك العنيدة مراجيح طفولتي، هذه أنتِ هنا تستحيلين غابة لانهائية من البلوط المشاكس الذي يطاردني يحمل في معاصمه مراجيح صباي، وهذه أمي التي مضت دون أن أراها تدفعني في الهواء جالسًا فوق حبلي الرقيق، يا لصوتي القادم من هناك، من أرجوحة الطفولة يُعَلِّقُ عليها اليوم جندي إسرائيلي خوذته بينما وقف يبول مسترخيًا على جدار بنيناه حجرًا حجرًا ولملمنا حصاه من الوعر. يا لصوتي بين المناغاة والتلعثم وهديل الحمام الذي كان ينقر القمح فوق أكفنا، يا له يذكر فلسطين بالثاء من كثرة الأسنان التي أسقطها زمن الطفولة، ويا لصوت أمي الجليل: اعدل لسانك يا ولد، الحرف حتى الحرف مهم! ورحلت أمي دون أن أراها، وتحولت إلى حرف في فمي، وإلى صورة في فضاء مفتوح كقاعة اجتماع في زمن ديمقراطي لا تتخبأ فيها الأشياء، ولا تبدو بنصف الملامح من الخوف يسكن القلب. لماذا يقتحم أبو المخشى الآن مساحة الذاكرة؟ هل كان غبيًا أم سليط اللسان كما يقول عنه المؤرخون حين هجا الأمير الأموي؟ هذا أنت أبو المخشى تسبح في القاعة المغلقة مقطوع اللسان مسحول العينين، تسبح وحدك مثل قط أعمى يحاصره الصمت والأبواب الموصدة، وهذه الأندلس التي ابتلعت لسانك بصمت تودع الأمير العربي الأخير بصمت، ولم يبق لنا يا أبا المخشى في الأندلس إلا الحرف والكتابة الصامتة وشيء من ملامحنا القديمة.


وهران تبتعد والمدينة الأخرى تقترب إلى حد المواجهة، وفي فندق مَزَفْرَان أسأل عنك، وأسأل عنك في فندق الرياض، لكنك لم تأت بعد. آهٍ يا أفنان مَزَفْرَان تحول إلى وطنٍ عاد إليه كل المنفيين! منذ سبعة عشر عامًا لم أر عبد الله حجازي، ومنذ سبع سنين لم أر عبد الرحمن بسيسو، وهذا شاعر أذكر أني رأيته منذ ثماني سنين، كان فارًا حينها من بيروت، فارًا من مدينة لم يستطع معايشتها لأنها تلفظه، بيروت قاسية القلب كالحجر ودافئة القلب مثل حلم. لماذا أحب عبد الله الذي لم تبدله سفارته العتيدة في وارسو، ولماذا أحب عبد الرحمن الذي الآن في قبرص، ولماذا أحب عبد الرحمن الآخر الذي في ستوكهولم، ليس إلا لأنهم ما زالوا يحملون وجوههم القديمة، لم يغيرها صقيع السفارات. هذه الوجوه أعرفها، تتحرك في قاعة المؤتمرات أو في القاعات الجانبية، أقلب النظر فيها وجهًا وجهًا، كنت أنت الغائب الوحيد الذي يعنيني، لعلك تأتي الآن، ندخل القاعة الدائرية، نجلس في المقاعد الفستقية، ينطق شفيق الحوت بصوت عريض يعبئ القاعة، ينادي على الأعضاء اسمًا اسمًا، يرد الحاضرون، وما زلت أترقب دخولك الباب، والصوت العريض المخدوش من سهر الليالي لا يزال ينطلق من صاحبه ذي البشرة الحمراء، الناعمة مثل الزبدة السويدية، وها هو اسمك يسكن القاعة دونك أيها الغائب الحاضر.


تحدثت طويلاً عنك مع كثيرين ممن يعرفون أفنان دون أن يروه، كنت أحدثهم عن أفنان الذي أعرفه في الرواية وفي البيت وأعرفه في مقهى على رصيف مدينة اقتحمناها معًا في زمن المنفى الذي يحملنا ونحمله. عبد الرحمن بسيسو يحبك دون أن يراك، وأنا أعرفه وأحبه وهو سوف يكون له شأن في النقد، ولأنني أعرفه وأعرفك أعطيته عنوانك وسوف يكتب إليك، فأنت سيد الرواية الفلسطينية، لهذا سوف يكتب إليك، واتفقت معه بشأن مقالات يمكنك أن تكتبها ويمكنه أن يدفعها لمجلات له صلة وثيقة بها، بينما أعرف ضائقتك أيها المنفي العظيم.


لم تكن غائبًا بينما حضر كثيرون وكانوا غائبين فأي حديث أشجى من حديث يطول حولك ومعك في مكان لم أكن فيه، لكنك قوي الحضور إلى حد الحضور. إنك أيها الحبيب مسافر معي ومسافر أمامي، أصاحبك فيحلو الحديث معك وعنك، وأضع رحالي في مدن المنفى فألقاك في انتظاري.


وهران








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24


.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً




.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05