الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقاربة الأمة والحداثة (2/3)

خالد فارس
(Khalid Fares)

2019 / 8 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


2. مقاربة الامة والحداثة (2/3):

العنوان الفرعى:

الاقتصاد ضرورة والسياسة حرية (الأمم فى الإشتراكية). السياسة ضرورة والاقتصاد حرية (الأمم فى الرأسمالية). قضية الامم الحديثة بين الضرورة والحرية؟
هل الانسان (حيوان سياسى: أرسطو؟) أم (انسان العمل: ماركس؟)

فى المقالة السابقة تطرقنا الى موضع الامة من خلال مقاربة فكرة الامة الامريكية.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=646385. فى هذا الجزء, سنواصل تقديم موضوع طويل وشائك, ولكن فى اطار هذه المقالة, سوف أختزل المقاربة على حساب توضيح مفاهيم نظرية بحاجة الى تفكيك أكثر.

الدولة والأمة مفهومان متلاصقان فى الحداثة, لاينفصلان, اختزال احدهما فى الآخر, سوف يقود ويؤدى الى أن الدولة هى الأمة (فى حالة اذا ارادت الدولة أن تختزل الامة فيها) أو أن الأمة غير قابلة للانضواء تحت الحداثة (فى حالة أذا أرادت الامة اختزال الدولة فيها). فى كلتا الحالتين, سوف نكون أمام نوع من أنواع الفاشية المعاصرة.

اعتبر غرامشى الدولة هى المجتمع السياسى زائد المجتمع المدنى, وأن الصراع الذى يدور هو التناقض المتواتر بين الاثنين. لكن يكون بذلك غرامشى قد فصل السياسى الى سياسى برلمانى أو رسمى (الاحزاب التى تشارك فى البرلمان وترسم وتشرع العملية السياسية) وسياسى مدنى (الاحزاب التى لا تشارك فى لابرلمان) ولكن لها دور فى المعارضة ودور فى الحركات الاحتجاجية.

فى اعتقادنا, أن السابق على مسألة المجتمع السياسى وغير السياسى, هو الرابط بين الاقتصادى والسياسى.

الموضوع المطروح سياسى بطبيعته, و السؤال الذى يفرض نفسه, من أين تنبع السياسة عند- أو فى الأمم؟ درج المثقف اليسارى, على توظيف مسألة البناء التحتى والفوقى, لمفهمة السياسة على أنها تنبع من المبنى التحتى فى المجتمع, وهو الاقتصاد. ولكن المثقف اليسارى تجاوز حدود السؤال والاجابة, واختلط عليه مسألة السبب من خارج الشىء أم السبب من العلاقة بين الاثنين. بمعنى, أنه اذا كان السبب من خارج الشىء, أى أن الاقتصاد يحدد السياسى, سنجد أنفسنا أمام جدلية التطور الميكانيكى الآلى. أما اذا بحثنا عن السبب من العلاقة بين الاثنين, سنجد أنفسنا أمام جدلية التطور اللاميكانيكى العضوى.

للامر شأن آخر, له علاقة باللغة العربية, أو فى الأبحاث الفلسفية حول قصور اللغة العربية عن عصور تطور الحداثة أو قصور الحداثيين عن عصور تطور اللغة العربية.

اعتبر أرسطو أن الانسان "حيوان سياسى", ما يميز الانسان عن الحيوان هو فى كونه سياسى. وهو سياسى لانه يتكلم أى لديه لغة, وهو بذاته ما يمثل عملية تفكير الانسان أو الانسان وهو يفكر, أو التى ينبع منها تفكيره. اللغة هى السياسى, وهى الانسان. انتقل هذا المفهوم الى العالم الليبرالى, واتخذت اللغة صيغة حداثية هى حرية التعبير- Freedom of Expression.

فالسياسى فى العالم الليبرالى هو الكلام الحر, القدرة على التعبير الحر, الصحافة الحرة, من الكلام وحرية التعبير يستطيع الانسان أن يكون سياسى, وتتحقق انسانيته بذلك. اذا السياسى ضرورة أبدية, لا مساومة عليها. فى اعلان الدستور الامريكى "كل البشر سواسية", يعنى أنهم متساوون سياسيا, ولأن السياسى هو انسان ولن يكون انسان الا اذا كان له حق وحرية فى التعبير والكلام, تصبح الضرورة هى الانسان فى كونه سياسى يجادل ويخاطب ويناقش ويتفاعل بالكلام, لذلك حتى نضمن المساواة يجب ضمان حقه فى حرية فى التعبير.
فى نظام التعليم الامريكى, على سبيل المثال, يتم تعليم الطلاب, كيف نقارن بين الاطفال والكلاب. الفرق الجوهرى هو الكلام. أى أن الانسان يتكلم والكلاب لا تتكلم. عند أرسطو الكلام والعقلانية شىء واحد. عندما تتحدث هو الشىء ذاته عندما تفكر.

يقول أرسطو أن أصوات الحيوانات للتعبير عن الالم والفرح, أما عند الانسان فهى للتمييز بين العدالة واللاعدالة. السياسة فى حرية الكلام فى النموذج الليبرالى, هى الضرورة الابدية, والاقتصاد هو الحرية أو الذى يجب أن تتجسد فيه حرية التملك والتبادل والأسواق.
تُبنى الأمم فى العالم الليبرالى على أن الضرورة فى السياسى والثقافى المتجسد فى الكلام الحر, والحرية هى حرية الاقتصاد التى تتجسد فى الاستثمار والملكية والأسواق.

فى المقابل, وعلى النقيض من ذلك, تختلف مسألة الضرورة والحرية عند ماركس. الاقتصاد, والعمل تحديداً, هو الضرورة الأبدية, يقول ماركس "مادام العمل خالقاً للقيمة الاستعمالية, أى مادام عملاً نافعاً, فإنه شرط ضرورى لوجود الجنس البشرى, بصورة مستقلة عن كل أشكال المجتمع, إنه ضرورة أبدية تفرضها الطبيعة, وبدونه لايمكن أن يجرى أى تفاعل مادى (أيض) بين الانسان والطبيعة, وبالتالى لاتوجد حياة" (عبد الجبار فالح (2013). رأس المال, نقد الاقتصاد السياسى. كارل ماركس. ترجمة د فالح عبد الجبار. دار الفارابى -بيروت-لبنان. ص 72).

لماذا يعتقد ماركس ان العمل هو الضرورة الابدية التى تميز الانسان, وليس كما قال أرسطو أن ما يميز الانسان لغته وهى التى تجعله "حيوان سياسى"؟.

يقول ماركس "إننا نفترض أصلا أن العمل قد بلغ صورة أصبح معها مقصوراً على الإنسان وحده. إن العنكبوت يقوم بعمليات تشبه عمليات النسّاج, والنحلة, فى بناء خلاياها, ستكون أبرع من مهندسين معماريين فى بناء خلايا العسل. غير أن مايميز أسوأ معمارى عن أبرع نحلة, هو أنه يقيم البنيان فى خياله قبل أن يبنيه من الشمع" (عبد الجبار فالح (2013). رأس المال, نقد الاقتصاد السياسى. كارل ماركس. ترجمة د فالح عبد الجبار. دار الفارابى -بيروت-لبنان. ص 234) (ملاحظة مع تعديل فى الترجمة, لان الترجمة ليست دقيقة).

والسؤال الذى يطرح نفسه, أين مسألة الحرية؟ فى الاشتراكية, تتحقق الحرية عندما يتم تعميم العمل, أو يصبح اجتماعيا, وليس عملاً فرديا وتتحول الضرورة الى مبدأ "كل حسب قدرته وكل حسب حاجته" (المجتمع الشيوعى). بلغة أخرى, أن الضرورة الأبدية هى الاقتصاد الذى يجعل من عمل الانسان تجسيدا لعلاقته بالطبيعة, علاقة تنموية (ايضية-ميتابوليزم), أى فى عملية انتاج الناس لحياتهم, وتتحقق الحرية فى الحالة الاشتراكية عندما يستطيع الناس تقرير مصير أعمالهم (تقرير مصير علاقتهم التنموية بالطبيعة), ولاحقاً عندما يكون لديهم الحرية فى تقرير مصير حاجاتهم وخياراتهم (الحرية فى خيارات العمل).

ان عملية الانتقال من أن السياسة (الانسان سياسى) كضرورة أبدية تنبع منه الحرية الاقتصادية فى حق التملك والاستثمار والأسواق, مما يجعل من غاية المجتمع تكديس ثروات على شكل سلع أو عملات (أمم امبريالية أو أمم يقوها تراكم الثروات), الى الاقتصاد (انسان العمل) كضرورة أبدية تنبع منه الحرية السياسية فى التعبير الاجتماعى أو التواصل مع المجتمع (Social Intercourse), مما يجعل من غاية المجتمع مراكمة سياسية ترسخ مبدأ العمل المنتج والعلاقة التنموية مع الطبيعة ومع الانسان.

إن مقولة ماركس الشهيرة "إن تاريخ أى مجتمع حتى الآن, ليس سوى تاريخ صراعات طبقية (ص 53)......غير أن كل نضال طبقى هو نضال سياسى (ً 72)" البيان الشيوعى: هرمان دونكر الفارابى). تؤشر هذه المقولة, أن تاريخ الأمم الحديثة الذى تحكمه مجريات الصراع الطبقى, هو صراع سياسى, ينبع من الاقتصاد (الضرورة الأبدية) ولكنه ليس اقتصادى, بمعنى أن كل صراع هو صراع سياسى, أى أنه يتعلق بالدرجة الأولى فى الحرية السياسية.

أن الحاجة الى بناء هيكل سياسى يضمن الحرية السياسية على أن تنبع من "كل حسب قدرته وكل حسب حاجته", لهو ضرورة تاريخية لبناء أمم حديثة, تؤمن, ليس بتراكم الثروات (سلع وأموال), بل بتراكم منتجات تحقق للانسان حريته وتنمويته. يصبح دور الاعلام والتعليم والاحزاب والنقابات نشر الخطاب الحر حول جوهر الانسان فى موقعه كانسان مُنتج فى علاقة أيضية-ميتابولزم مع الطبيعة وقوانينها. يؤدى المثقف والحزب والدولة والاعلام والتعليم دور من شأنه تقريب الانسان الى حيزه الطبيعى فى الحياة, على أساس الضرورة الانسانية.

تجد الأمم التى تنشأ على أسس ليبرالية نفسها بأنها مضطرة الى تعريف نفسها بمقاييس السياسى الابدى, ولان هذا السياسى لا يقوم بذاته, أى لا يستطيع أن يوقف زحف تناقضات الاقتصاد (لأن الغاية هو تراكم ثروات تؤدى الى خلل هيكلى فى المجتمع), يلجأ السياسى الى الثقافى, لخلق بنية مادية صلبة تستطيع السيطرة أو تبرير الوجود. وهى عملية "أدلجة", تحويل السياسى الى سِياسَوى والثقافى الى ثَقافَوى (دونالد ترامب, نيتينياهو, وغيرهم الكثير..).

أن مايجرى فى أميركا و"اسرائيل" هو نموذج بناء أمم سياسوية-ثقافوية, بلغة أخرى تحويل حرية الكلام والتعبير الى أيديولوجيا (تصنيم الواقع, أو الوجود المناقض لجوهر الانسان) وذلك لبناء كتلة صلبة لتبرير الحروب التجارية والاقتصادية ومعالجة التناقضات. بسبب حجم التناقضات التى تخلقها هذه الظواهر, يتحول مشروع امة فى دولة الى وحش (الوحش الامريكى والصهيونى على سبيل المثال), يتسلح بكافة أنواع العتاد والأسلحة الفتاكة والأمنية, لكى تفرض وجودها. نموذج الصراعات الذى فرضته أميركا على العالم, والكيان الصهيونى على الوطن العربى, ينبع من بنية هذا الوحش الدولتى. يصارع هذا الوحش الكاسر, الجميع, فى التجارة و الحروب والحصار والانقلابات والاستخبارات والانتاج والثروات الوطنية والجغرافيا.

تبنت الليبرالية الوطنية فى مطلع القرن التاسع عشر الفكرة التى تستند على تحويل مفهوم حرية الفرد ضمن سياقها الليبرالى الى حرية للجماعة العضوية. وتعريف الجماعة العضوية قد يتخذ العديد من التأويلات, الا أنه يجب أن لا يخرج عن مفهوم المجتمع الحديث, أو المجتمع بمفهومه الحداثى, أى تغليب قضايا وأولويات الانسان على أنثروبولوجيا الماضى. وفى قول آخر, فان مفهوم الجماعة العضوية, بحاجة الى تأصيل, لأن من مخاطره, هو أن تصبح أى جماعة, تمتلك قوة عسكرية ومالية وأيديولوجية "شعبوية", أن تتحدث عن كونها جماعة عضوية, وتستعيد التاريخ الإثنى أو الدنيى (مثل الصهيونية السياسية الحديثة), ثم تطالب بانشاء دولة أمة لاحتضان الجماعة "العضوية", وتحويلها الى أمة حديثة مثل "القومية اليهودية" أو "القومية المسيحية" التى نادى بها حزب الكتائب اللبنانى.

بناء الامم الحديثة يتطلب فك تبعية الافراد لجماعات ما قبل الحداثة (سلالية, دينية, قبلية, مذهبية, عشائرية أو عرقية), وتحويل استقلال الفرد, الى مسألة فى استقلال الانسان, بمعنى أن الفرد بحاجة الى مجتمع حديث يحقق فيه انسانيته (ما هى الضرورة الانسانية التى يتبع منها حريته؟).

يتبع مقاربة الأمة العربية (3/3).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص