الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قالوا: حسن حميد

أفنان القاسم

2019 / 8 / 15
الادب والفن


*********************
توضيح

وقفات وليست مواقف، فالمواقف من ورائها غاية ما، والوقفات كلمات أو لحظات تَعِدُنا وتُعِدُّنا لنتخذ موقفًا، هدفي ليس هذا أو ذاك، هدفي توثيق بعض الكتابات عني في هذا المنبر، وفي هذه اللحظة الحاسمة من عمري الأدبي، وأنا أعيد زيارة الكتاب المقدس، وأتعرض لشتى ردود الفعل، وهي كذلك مناسبة لأرتاح.

*********************



تراجيديات أفنان القاسم قامة عالية للوطن قامة عالية للنص





"تراجيديات" عمل أدبي جديد للروائي والقاص الفلسطيني د. أفنان القاسم... صدر حديثًا عن إحدى دوريات الوطن المحتل... وهو في مجمله ست وثلاثون لوحة، كل واحدة منها تأخذ بيد الثانية، حتى تصل في العمل إلى نهايته...


لقد قرأت للدكتور القاسم أكثر من عمل، وقد فرغت مؤخرًا من قراءة مجموعته القصصية "الذئاب والزيتون" الصادرة عن الدار العربية للكتاب في الجماهيرية العربية الليبية، وقد أعجبت بالقصص، كما أعجبت بروايته "النقيض"، لأنها –أي القصص- تجلو موضوعات من داخل الأرض المحتلة، أو تضيء شخصياتٍ وأحداثًا كان خليقًا بها أن تظهر وتحيا مرة ثانية... ليستفاد منها، ولتكون، في نهاية المطاف، أنموذجًا يحتذى به، وفي خلق جديد...


"تراجيديات" عمل د. القاسم الجديد... أجد أنه من الصعب، وقد قرأته أكثر من مرة، أن أصنفه في جنس أدبي محدد، وإن كان يأخذ شكل "النوفلت"، أي الرواية القصيرة، وهي جنس أدبي شائع في أوروبا... فاللافت للنظر في "تراجيديات"، والذي لم أقع عليه في الأعمال الأدبية التي قرأتها للدكتور القاسم، هو التشكيل الفني للنص. فالتقنية عالية القامة حقًا، والربط الأدبي، والتغاضي عن بعض الأحداث وإضاءة بعضها الآخر وبالتناوب منح العمل قدرًا من الفن الأدبي الذي لا يقدر عليه من لم يتمكن من حرفة الكتابة وصنعتها... وجمالية هذا الفن... إنه يخفي صنعته، رغم وضوح الخيوط، والمساحات، والأمداء، التي تشد الشخصيات بعضها إلى بعض، والتي تتنقل عبرها...


لقد اجتهد د. القاسم، في توجيه تراجيدياته، من خلال شخصيات تاريخية منسوخة في شخصيات حاضرة، تعيش بين ظهرانينا... نواجهها في الصباح والمساء، وفي الصحف، وفي المعتقلات، وفي الخنادق، وفي دروب القرى، وشوارع المدن... شخصيات رغم تاريخيتها البعيدة قريبة منا، ألوفة، لها في نفوسنا كمطلعين على تاريخها الماضي، وقع خاص، فمن شخصية النبي (وهو هنا غير محدد، ويعني به شخصية الرجل الهادية، والعارف بما توارى...) إلى شخصية الرجل الوسيم... تمتد أوراق الرواية. وتتباعد أحداثها.


وقارئ العمل سيدرك، دون عناء كير، ثقافة القاسم النامية إلى درجة استيعاب تاريخ شخصيات عمله، ليس ماضيها الفارط، وإنما تاريخها اليومي-الوقتي. فالإسقاط المعيشي الراهن للشخصيات والأحداث، من خلال ماضٍ "تالد" أعطى الشخصيات غنى إضافيًا لفهمها، ولمعرفة مراميها... فهو يقدم لنا شهرزاد الأنثى (المعاصرة والماضية) ومن رؤية حديثة، رؤية لا ترى المرأة أنثى وحسب، وإنما تراها فردًا فاعلاً في مجتمع يمضي إلى ألقه... وأهمية المرأة عند القاسم، وفي تراجيدياته، ومن خلال شخصيتي شهرزاد وأثينا، تتجلى في فهمها لسيرورة الرجل تاريخيًا، الرجل الذي لم يعد عندها ذلك الحائط العالي الواقف في وجهها حائلاً بينها وبين التطور وممارسة الفعالية الحقيقية-المنتجة في المجتمع، فهي تفهمه كفرد مواز في علاقاته ونشاطاته لها، كفرد مماثل، وتفهم نفسها كأنثى حرة، لا كأنثى مهيضة الجناح، أو كضلع من أضلاعه الأربعة والعشرين.


في بعض الأعمال الأدبية التي قرأناها، لكاتبات وكتاب، وجدنا أن شخصية المرأة على الدوام، لا تشكو من وطأة الأمية أو التخلف، أو قيام الكيان الصهيوني بدورياته وبواريده وممارساته... قدر ما تشكو من وطأة الرجل وسطوته... وما ترى فيه من واقف وحيد في وجه تقدمها الحضاري!


هنا في "التراجيديات" نجد أن القاسم متفهم لدور المرأة، وأهميتها في المجتمع... لذلك هي عنده فرد، وليس أنثى موضوع شهوة.


إن شخصية "أثينا"، التي ترافق بطل الرواية –لنقل إن العمل رواية- هي ليست ملهِمَة له ليحقق نجاحاته وحسب، بل هي فاعلة في بناء هذه النجاحات... وفاعلة في بناء وقفته فوق الإحباطات... وليس هذا وحسب، بل هي فاعلة في بناء نجاحاتها، وفاعلة في بناء وقفتها فوق إحباطاتها أيضًا... إنها ليست مهتمة بفعل الرجل أو مرممة لفعل الرجل، بل مساهمة في بناء فعل ناتج عن عمل مشترك للرجل يد فيه، ولها هي كامرأة-فرد يد فيه أيضًا.


هنا، استبدال موفق لدور المرأة ف المجتمع.


ولعل هذا الاستبدال، جاء في رواية القاسم من خلال تفهمه لطبيعة المرأة الفلسطينية، التي لم تلعب، وفي الأعمال الأدبية، التي كتبت منذ قيام الثورة الفلسطينية سنة 1965، وحتى اليوم، دور العاشقة، من أجل مد مواقف العشق والابتذال، ولا دور المحبوبة الهيمانة بحبيبها، ومطارداتها لتغيرات أشكال القمر والنجوم في السماء سهرًا... وتمتمات باسمة!


لقد بدت فاعلة في أكثر الأحيان، فهي حبيبة وعاشقة لحالات انتصار حبيبها، سواء أكان الحبيب أبًا أو أخًا أو خليلاَ.


لكن تلك الأعمال، كانت تني تأكيد أن المرأة فرد فاعل في المجتمع، وفعله تام ومعافى لوحده، بل كانت تصر دومًا على وضع المرأة في إطار الأنوثة، والمساعدة، في أفعالها، إتمام فعل الرجل، البادئ دومًا، والمبتكر دومًا، ووحده أيضًا.


"التراجيديات" عمل يطوف في أمكنة عدة من الوطن المحتل، يطل بنا على السهول، والجبال، والساحات، والبوابات، والأزقة، والشوارع، والناس في القرى والمدن.


يرسم صورة، بل صورًا لواقع الحال المعيشي في الوطن المحتل من خلال شخصيات معاصرة، لها أسماء تاريخية قديمة.


ولعل الشخصية التي تكاد تكون أشد إضاءة في النص، هي شخصية النبي، والذي له ملامح وتصرفات السيد المسيح، الذي يستنفر الخلق كبارًا وصغارًا، ويستنفر الحقول والأودية، والسواقي، والأنهار، والأشجار... يستنفر الدنيا كلها... بطبيعتها وناسها... لبناء موقف صحيح... هنا تتجلى سمة الإنسانية في الإنسان، وهنا تبدو نوازع الشر، وهي تمضي ذليلة منسحبة، دون أن تلوي أعناقها إلى الخلف... لترى كيف استقام المشهد.


شخصية النبي في "التراجيديات"... ليست شخصية المخلِّص وحسب، وإنما هي شخصية من امتلك الحق والرأي الصائب، والساعي للوصول إلى الحقيقة... وإن كانت تظهر في وجوه مختلفة، مثل الرجل العادل، والمجنون، والراوي أحيانًا... أيضًا، هناك شخصية أثينا المرأة والمدينة، شخصية لها بعداها الزماني والمكاني، وهي توازي في أبعادها وأفعالها للرجل النبي، وتظهر مثله تمامًا في وجوه مختلفة مثل شهرزاد، عشتار، والزوجة، وقرطاجة.


"التراجيديات" عمل مدهش في لغته، وفي صنعته اللفظية، وهذا الأمر لم أقع على مثيل له في مؤلفات أفنان القاسم التي قرأتها... فلغته، وفي كل صفحة، وبلا مبالغة، نجد مقاطع من النثر الفني الجميل، والعالي القيمة...


وفي ظني أن اللافت للنظر، وبقوة إضاءة غير عادية، أن القاسم قارئ ممتاز، ومتمثل للنص الديني، الذي هو، وفي أكثر مواقعه، نص أدبي رفيع المستوى مدهش في تعابيره وصوره أيما إدهاش. إن تلازم الموت للحياة، وتلازم الطبيعة –بما فيها من طيرونيات- للإنسان... وتبادل المواقع والأمكنة بين هذه المحاور الأربعة... ووجودها في نص أدبي واجد، أمر لا نقع عليه كثيرًا، وهو المتوفر، وبحس نام في الكتب الدينية.


إن الموت والحياة، والطبيعة والإنسان... أقانيم متواجدة، وبحضور قوي في "تراجيديات" أفنان القاسم، وهذا لا يأتي –بالمطلق- مصادفة، وإنما بالاجتهاد والرسم والاستيعاب.


لقد بهرتني –التراجيديات- كعمل أدبي فنيته التقنية عالية المستوى... وهي كتاب الحاضر للواقع الفلسطيني المعيشي، وإن كان القاسم يتغافل (هنا وهناك) عن ذكر الوطن... لكن الوطن واضح الحضور من خلال الأمكنة وأسمائها، ومن خلال هموم أفراده، وتطلعاتهم، ومن خلال طبيعته (بموسيقاها، وأشجارها، وحيواناتها، ووديانها...) الجميلة.


إن "التراجيديات" عمل مكتوب بعين بصيرة، شديدة الإبصار، فهي لم تغفل عن سحب كل ما تراه إلى النص الأدبي، كما لم تغفل عن تنقية فاعلية الأبصار من شوائبها، فموسيقا الغدران الناتجة عن جريان الماء، هي غير الموسيقا الناتجة عن المدافع الرمادية، ولكل منهما مدلولها! إن العين، في هذا العمل، حاضرة في كل سطر من سطوره، و "التراجيديات" مكتوبة بوعي وهذذيان معًا، ليس بحثًا عن المتناقضات، وإنما لمواجهة الصورة مع ضدها، لتحسينها حينًا ولبيان تشوهها حينًا آخر... والغاية من وراء هذا كله تدوين الموقف وتجسيده، وفي وهمي أن الصفحات الأخيرة من العمل، هي التي تشكل لحظات، أو لحظة الكشف والإفصاح، ففيها تغيير سريع الخطى لشخصيات العمل... من خلال مكان محمول هو القطار... حيث أن الناس يصبحون من البلاستيك، أدواتهم بلاستيكية، وقطارهم بلاستيكي، وسيقان نسائهم بلاستيكية أيضًا. إن الكاتب هنا يود أن يقول: إن اضطراب الأفكار والرؤى وانحيازها إلى جانب الظلام، ناتج عن تغير مبطن في جُوَّانِيَّتِهِم، ف "الرجل الوسيم"، الشخصية التي تتبلور شخصيته في آخر الرواية، يتحكم بذئاب، يسيِّرها كما يشاء... تؤدي المهمات المطلوبة منها... وهو بينها ذئب خطير، بل أخطرها وأشرسها، وبين الناس، وفي حال الظهور، رجل وسيم في قيافة ممتازة... إن غياب الموسيقى، وهي فن من أرفى فنون الدنيا، في آخر الرواية، وسيطرة الصمت والبكاء الذي يسيله الراوي... هو نتيجة طبيعية لما يقوم به الناس البلاستيكيون-الذئاب.


إن صفة البلاستيكية التي يضفيها القاسم على الشخوص في ذيل روايته لا تأتي مصادفة، أو حبًا بالبلاستيك، وإنما متأتية من فهم طبيعة البلاستيك كمادة، وقد خدمت الغرض الذي أراده حين طور شخصياته الواقفة في وجه الظلام والاستبداديين.


أخلص إلى القول، إن هذا العمل الموفق، والجميل، الذي قدمه أفنان القاسم، يشكل نقلة هامة في تاريخية كتابته للنص الفني، ففي أعماله السابقة كان يبني الصور الواقعية، يسجلها، ويبني مواقفها... دون الاهتمام –الذي نجده الآن في عمله هذا- باللغة وتعبيراتها... وهو الآن، وفي "التراجيديات"، يجول في الأرض، والسماء، ويطارد التاريخ، والأفكار المستقبلية، ويجمع بين الماضي والحاضر، من أجل استخلاص النتائج للتنبؤ بما سيكون مستقبلاً...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأردن يتراجع 6 مراتب في اختبار إتقان اللغة الإنكليزية للعام


.. نابر سعودية وخليجية وعربية كرمت الأمير الشاعر بدر بن عبد الم




.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24


.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً




.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع