الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماذا يريد سفاح السودان الجديد

محمود يوسف بكير

2019 / 8 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


كان واضحا منذ بداية المفاوضات في السودان بين المجلس العسكري ووفد المدنيين من جبهة الحرية والتغيير أن الأول دخل العملية التفاوضية لغرض محدد وهو إعادة الاستقرار للسودان وليس لتحقيق مطالب الثوار العادلة ونقل الحكم للمدنيين. ولكن ما لم يدركه المجلس العسكري هو أن ما ينشده من استقرار سوف يكون هشا للغاية فالاستقرار الدائم لا يقوم إلا على العدل.

وفي هذا نتسآل دائما هل يمكن أن يعقد ذوو النيات الطيبة أي اتفاق جيد مع الشيطان؟ لو طبقنا منطق الديالكتيك فإن مثل هذه الصفقة تكون مستحيلة لإن الشيء ونقيضه لا يجتمعان وبناءا عليه لابد أن تكون أي صفقة مع الشيطان سيئة أو شيطانية. والسبب أن الكروموسومات الخاصة بالشيطان تجعل منه كائنا سيئا بالسليقة ولذلك فإن مهمته الأساسية في الحياة هي شيطنة كل ما حوله ونشر الشر والأذى، وحتى عندما يبدو الشيطان واعظا في لحظات معينة فإنه يكون في مرحلة التخطيط لخداع فريسته والهجوم عليها في الوقت المناسب. إنه كملقي الحب للطير لا ليطعمها ولكن ليصيدها به.

أتحدث عن الفريق أول محمد حمدان دقلو القائد غير الرسمي للمجلس العسكري في السودان والمشهور بحميدتي، وكان هو رئيس وفد المجلس العسكري في مفاوضاته مع وفد الحرية والتغيير الذي كان يمثل الثوار والمعارضة المدنية دون تفويض رسمي بهذا.
وبعد مفاوضات صعبة شهدت تعنتا شديدا من جانب حميدتي توصل الطرفان إلى اتفاق الإعلان الدستوري الذي سينظم المرحلة الانتقالية في السودان والتي يفترض أن تنتهي بنقل صلاحيات الحكم من المجلس العسكري إلى
حكومة مدنية.
وقبل أن نوضح بعضا من أهم الثغرات الخطيرة في الإعلان الدستوري لابد أن نتعرف على شخصية السيد حميدتي الذي يبلغ من العمر 43 عاما ومعروف عنه أنه لم يكمل تعليمه وليس لديه أي خبرة في المجالات العسكرية سوى قتل المدنيين العزل. وكان تاجر جمال ناجح في دارفور. ولحماية إبله وحماية التجار الآخرين من القبائل المختلفة كون عصابة مسلحة قوية لحماية القوافل التجارية. وقد لفتت قوته وقوة علاقاته بالقبائل الأخرى انتباه البشير فقام بتكليفه بسحق تمرد إقليم دارفور عام 2003 الذي أدى إلى مقتل وتشريد مئات الألوف من أبناء الإقليم. وكانت هذه المذابح بداية صعود حميدتي هرم السلطة في عهد البشير عن طريق العنف والقتل والتدمير.

وبسبب هذه المذابح أصدرت محكمة العدل الدولية أمرا باعتقال البشير للمثول أمام المحكمة بتهمة الإبادة الجماعية ولكنه لم يمتثل للأمر وهو رئيس بحجة أن المحكمة لم تحاكم توني بلير وجورج بوش على جرائم مماثلة أثناء غزو العراق، والبشير الآن في حماية العسكر.
وبعد هذا قام البشير بمنح حميدتي رتبة الفريق في غفلة من الزمن وقربه منه ثم قام بتحويل عصابته إلى قوات نظامية تابعة للحكومة بمسمى قوات الدعم السريع لحماية نظام حكمه وأصبح حميدتي بمثابة الذراع اليمنى للبشير. ويصل حجم هذه القوة الآن إلى حوالي 30 ألف مقاتل وهم مزودون بأحدث الأسلحة والمعدات وهي مدعومة من كل من الإمارات والسعودية وتقوم ببعض العمليات العسكرية لحساب من يدفع في كل من ليبيا وتشاد وربما اليمن.

وعندما اندلعت الثورة ضد البشير رفض حميدتي أوامر الأول باستخدام العنف ضد المتظاهرين ليس حبا في المتظاهرين أو إيمانا بالثورة ولكن لرغبته في استغلال الثورة كسبب لخلع البشير والاستيلاء على السلطة. وقد ظهر الوجه الحقيقي للرجل عندما قامت قواته بفض اعتصام الثوار السلميين أمام مقر الجيش السوداني في يونيو 2019 وهي العملية التي أفضت إلى مقتل حوالي 150من المعتصمين هذا غير الجثث التي تم إلقاءها في النيل. ولم يحاسب أي أحد على هذه الجرائم حتى الآن.
وعودة إلى السؤال الذي طرحته في بداية المقال وهو هل يمكن الوثوق وعقد اتفاق مع سفاح دموي مثل السيد حميدتي؟ أتمنى من كل قلبي أن أكون مخطئا وأن يخذلني الفريق حميدتي بأن يكون صادقا في وعوده للثوار وأن يلبي مطالبهم المشروعة في حياة حرة وكريمة يسودها العدل والمساواة والديموقراطية ودولة القانون، عندها سيضع السودان على طريق التقدم والازدهار ويدخل التاريخ من أوسع أبوابه ولا يوجد ما يمنع السيد حميدتي من أن يغير مسار حياته الدموية ويأخذ هذا المنعطف الجديد.

أما بالنسبة للثغرات التي ذكرنا أنها موجودة في الإعلان الدستوري الذي تم التوصل له بحسب رأينا المتواضع فإن من أهمها ما يلي:

- أن المجلس السيادي والذي سيكون إعلان سلطة في البلاد سيتكون من ١١ عضوا، خمسة من أعضاء المجلس العسكري وخمسة من المدنيين. أما العضو المرجح فسوف يكون مدنيا ذو خلفية عسكرية! وهذا يعني في رأينا أنه سيكون عضوا عسكريا ولكن بلباس مدني لأن العسكري لا يغير عقيدته أبدا أيا كان اللباس الذي يرتديه. وتقوم هذه العقيدة في عالمنا العربي البائس على مبدأ أساسي وهو أن العسكري أعلى شأنا من المدني وأنه من العار أن يتلقى العسكري أي أوامر أو توجيهات من هذا المدني الوضيع. ومعنى هذا ببساطة أن العسكر سوف يسيطرون على المجلس السيادي وعلى كل قراراته.

-كما إن مدة الفترة الانتقالية هي 39 شهرا " لا أدري لماذا 39 وليس 40 شهرا مثلا!" المهم أنه سوف يتم خلالها تناوب السلطة بحيث يرأس أحد الممثلين العسكريين المجلس السيادي لمدة 21 شهرا ثم يعقبه أحد الأعضاء المدنيين لمدة 18 شهرا. وحسب وجهة نظرنا فإنه كان من المفروض أن يرأس العضو المدني الفترة الأولى لحصول المدنيين على فترة حكم أقل. وحسب توقعاتنا فإن العسكر سوف يكون بمقدورهم تقديم تشريعات وقوانين في مدتهم الاولى تحد من قدرة المدنيين على إجراء أي تغيرات ذات معني في فترة ولايتهم الثانية.

-الأخطر من هذا هو أن قوات الدعم السريع سوف تتبع القائد العام للقوات المسلحة أي السيد حميدتي وهو ما يترك الأعضاء المدنيين دون أي غطاء أو حماية. ولا أدري كيف سيتعايشون مع هذه الأوضاع الصعبة والتي قصد منها على ما يبدو إحداث شقاق بين قوى المعارضة عن طريق الإبقاء على كل الأوضاع على ما كانت عليه قبل الثورة ووأد أحلام شباب الثورة الذي قام بواحدة من أعظم الثورات في تاريخ العرب تعرضوا خلالها للقتل والسجن والاغتصاب والتعذيب واستمرت ثورتهم لأشهر طويلة رغم شراسة قوات حميدتي والظروف الاقتصادية والمناخية الصعبة ووسط تجاهل عربي ودولي غريب.

أعرف جيدا أن المدنيين الذين تفاوضوا على هذا الإعلان الدستوري بذلوا أقصى جهدهم للحصول على اتفاق أفضل ولكنهم فشلوا ولذلك رضوا بالفتات بدلا من لا شيء، ولكنني من المؤمنين أن عدم التوصل إلى اتفاق أفضل من التوصل إلى اتفاق سيئ تمتد آثاره إلى سنوات عديدة ويتطلب تغييره ثورة أخرى.

لا أدري إلى متى ستظل المنطقة العربية حاضنة تفريخ خصبة للسفاحين واللصوص والنصابين والدجالين والمعتوهين.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شخصًا سخيفًا متوسط المواهب
عبد الحسين سلمان ( 2019 / 8 / 15 - 22:53 )
تحية للدكتور محمود يوسف بكير

هذا هو الفرق بين عمل أكاديمي متين و بين الدعاية السياسية.

مقال الدكتور هو من نوع العمل البحثي العلمي الذي يوضح للجمهور الأحداث بلغة السهل الممتنع.

1. قصة محمد حمدان دقلو , تشبه قصة الإمبراطور نابليون الثالث Napoleon III والتي كتب ماركس عنه, ملحمة أدبية سياسية , وقد وصفه : grotesque mediocrity
بأن شخصًا سخيفًا متوسط المواهب من أن يؤدي دور بطل. وذلك في كتابة : الثامن عشر من برومير , -لويس بونابرت 1852


2. .....يرأس أحد الممثلين العسكريين المجلس السيادي لمدة 21 شهرا ثم يعقبه أحد الأعضاء المدنيين لمدة 18 شهرا....

هذه لعبة, ولعبة خطيرة جداً, سوف يقوم / حميدتي / خلال ال 21 شهراً بسحب البساط من الاعضاء المدنيين...وينظم صفوفه و جواسيسيه و حيله لكي لا يأتي المدنيين.

مع الشكر و التقدير للدكتور


2 - رد الى الاستاذ عبد الحسين سلمان
د, محمود يوسف بكير ( 2019 / 8 / 16 - 19:37 )
أشكرك يا صديقي العزيز على إضافتك للمقال . حميدتي بالفعل لا يصلح إلا لقيادة العصابات ، ولأننا في العالم العربي أصبحنا نعيش في غابات وأدغال فإن حميدتي و أمثاله هم رجال هذه المرحلة التاريخية بكل أسف. أنا حزين على دخول الثورة السودانية نفق مظلم بعد كل هذه التضحيات. مع أطيب تحياتي وأمنياتي


3 - المتوقع
على سالم ( 2019 / 8 / 17 - 20:41 )
اهلا استاذ محمود ومقاله تكشف مواطن الاستبداد والعلل والامراض فى اوطاننا العربيه البائسه المنكوبه بهؤلاء الحكام الديكتاتورين الطغاه الدمويين , ماهو رأيك فى رئيس الوزراء البريطانى الجديد بوريس جونسون , يبدو انه متهور ويشبه ترامب فى الكثير من الطباع , المحتمل ان يخرج من الاتحاد الاوربى بدون مشاورات او اتفاقيات مما سيعرض بريطانيا الكثير من الهذات , لقد رأيت فيديوهات كثيره عنه واهمها هو انه مسلم الاصل من جد تركى , سافر جده الى بريطانيا ايام كمال اتاتورك وتزوج من فتاه بريطانيه اشهرت اسلامها وانجب منها صبى وفتاه وكانوا ايضا مسلمين , عندما اصبحت هذه الفتاه يافعه تزوجت من بريطانى وانجبت بوريس جونسون والذى كان يحمل اسم تركى مسلم , الذى حدث بعد ذلك ان هذا الفتاه الام انقلبت على اصلها المسلم وتنصلت من الاسلام وغيرت اوراقها الثبوتيه التى كانت مسلمه واسمت اولادها اسماء انجليزيه , لااعرف ان كانت هذه القصه حقيقيه ام مختلقه


4 - الي الاستاذ علي سالم
محمود يوسف بكير ( 2019 / 8 / 19 - 20:41 )
تحياتي أستاذ علي سالم .بوريس فعلا شخص متهور ويشبه ترامب في انه يكذب كثيرا وكان أيضا صحفيا بينما كان ترامب نجما تليفزيونيا، أي أن لكل منهما خبرة إعلامية وهي خبرة هامة ومطلوبة في دهاليز السياسة في أوروبا إمريكا هذه الأيام وهو واحد من الثلاثة الكبار الذين قادوا حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، والآخرين هما فاراج وجوف. وكما ذكرتم فإنه يسعى لخروج بريطانيا من الاتحاد حتى ولو بدون اتفاق بالرغم ما سيسببه هذا من مشاكل اقتصادية كبيرة لبريطانيا ولذلك يسعى زعيم العمال لإسقاط حكومته من خلال البرلمان والموضوع معقد تماما..أما بالنسبة لما أوردته عن أصله الإسلامي فهذا معروف هنا في بريطانيا وبوريس نفسه يقول أن أصله عبارة عن خليط يهودي على مسيحي وإسلامي ولكنهم هنا لا يهتمون بأصل الانسان عكسنا في العالم العربي البائس حيث نهتم بأصل وفصل الانسان وكأن الانسان مسؤول عن أصله. ..

اخر الافلام

.. إيران تتحدث عن قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل.. فهل توقف الأم


.. على رأسها أمريكا.. 18 دولة تدعو للإفراج الفوري عن جميع المحت




.. مستوطنون يقتحمون موقعا أثريا ببلدة سبسطية في مدينة نابلس


.. مراسل الجزيرة: معارك ضارية بين فصائل المقاومة وقوات الاحتلال




.. بعد استقالة -غريط- بسبب تصدير الأسلحة لإسرائيل.. باتيل: نواص