الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما أصعب الكلام

محمود كرم

2006 / 5 / 13
حقوق الاطفال والشبيبة


لا أدري ربما ثمة أنانية أن نضع ( أكبادنا ) في منتصف الطريق ، ونطلبُ من الآخرين أن يقرأوا شيئاً لا يمتُّ إلى عالمهم بصلة ، ولكن ليعذرني القاريء العزيز ، فقد يجد في هذه المساحة شيئاً يغريه على متابعة القراءة أو قد لا يجد شيئاً ، وفي كل الأحوال امتناني لكل مَن يقرأني ولكل مَن لم يقرأني أيضاً ..

أكثر الأشياء التي ينتظرها الأبوان هو رؤية الابن في أولى خطوات مشيهِ ، ففي هذه المرحلة من عمر الطفل يطمئن الأبوان لنموهِ الطبيعي وتتبدد عندهما المخاوف بشأن تأخره في المشي ..

كانت لنا محاولات كثيرة ومتعددة في تمرينهِ على المشي ، وقد أثمرت تلك المحاولات بنتائج جيدة ومع قليل من الصبر بدأ ( حمّودي ) بالإعتماد على نفسه في المشي وكانت فرحتنا بذلك لا توصف ، وأحسستُ حينها بأنه قد اصبح مستقلاً يعتمد على نفسه في الوصول إلى ما يريد وأخذ ما يشاء ..

وفرحة الطفل بقدرته على المشي وإطلاق ساقيه للريح تزيده بهجة وثقة وانطلاقاً ، لأنه في هذه الحالة يتصور بأن لا قيود تحدّ من حركته وانطلاقتهِ وكلما كان ثابتاً في مشيه كلما كان أكثر انطلاقاً وتحرراً في حركاته ..

حينما بدأ حمودي بخطواته الأولى في المشي كنتُ أتركه يمشي على حريته لأرى أي الأماكن في البيت تستهويه ، فكانت مكتبتي المتواضعة في مرمى هدفه خاصة الأرفف السفلية منها ، حيث كانت تحتوي على دواوين الشعر ، وكان يسحب الديوان الذي يعجبه ويُجري عليه مسحاً جيولوجياً ويرميه أرضاً وكنتُ أقول في نفسي ربما سيعثر يوماً على قصيدة شعرٍ تعجبه ..

ويظل هكذا أمام المكتبة ممسكاً بما تتلاقفه يداه ، لأجدُ بعد برهةٍ كومة من الكتب ملقاة على الأرض ، وحينما كنتُ أرفع صوتي عليه قليلاً ليكف عن العبث بالمكتبة أجدهُ يزداد إصراراً على التخريب ..

وحينما نكون بالقرب من المطبخ تكون الثلاجة المسكينة مرتعاً لنزهتهِ المعتادة ، يسرع إليها منتشياً يحاول بكل ما أوتيَ من قوة فتحها وحينما لا يستطيع يبدأ بالإحتجاج والصراخ والبكاء عندما يصل الى مرحلة اليأس ، ولا أدري لماذا الثلاجة تستهويه الى هذه الدرجة ، ربما يدفعه لذلك شغف الطفل بفتح الأشياء المغلقة ليكتشف ما بداخلها حينما يراقبنا عن كثب ونحن نفتح الثلاجة ونغلقها في كل مرة ..

بينما نحن حينما كنا أطفالاً وحسب الروايات التي ترويها لنا الوالدة العزيزة ، كان يستهوينا في مرحلة المشي المبكر باب البيت ، نذهبُ إليه مسرعين لأنهُ يطل على ( الفريج ) جنتنا الموعودة في اللعب والركض والمرح ..

أما المكان الأكثر استحواذاً على اهتمام حمودي وهو يستمتع بالتجوال على قدميه كان التلفزيون ، يذهبُ إليه مدفوعاً برغبة جامحة للإمساك بالأشكال الملونة وهي تتقافز أمام عينيه على الشاشة الفضية والعبث بالأزرار وتلطيخ الشاشة ببصمات يديه ..

وأكثر ما يستفزني حينما يصرّ على الوقوف أمام التلفزيون وأكون منسجماً بمتابعة مباراة لفريقي المفضل ( مانشستر يونايتد ) ، فلا أجدُ أمامي طريقة إلا حمله لأنزل به الى باحة ( حوش ) المنزل لأقول له في نفسي دونك هذا ( الحوش ) إطلق ساقيك للريح بعد أن أوصي أمي الحبيبة بالعناية به ..

أما عن مرحلة دخوله عالم النطق ، فتلك تجربة لا زلتُ أحتفظ بذكرياتها اللذيذة معه ، فالطفل في مرحلة النطق الأولى أشبه ما يكون بلعبة الكلمات المتقاطعة ، حرفٌ من هنا وحرفٌ من هناك وفي النهاية كلمة مُبهمة عليكَ أنتَ أن ( تفلترها ) لتفهم مغزاها ..

كنتُ كثيراً أتشوق لسماع ما ينطق بهِ لسان ( حمودي ) في بداية تركيبه الشاق للأحرف ، وأول الكلمات التي كان لها وقعٌ خاص على قلبي نطقه لـ ( بابا ) و ( ماما ) ..

وكثيراً ما أشبه أيضاً أذن الطفل بالطبق الفضائي الذي يلتقط كل موجة حرفٍ وكل همسةٍ وكل إشارة واردة أو صادرة ..
وحينما كان في أشهرهِ الأولى كنتُ أنا وزوجتي نُحادثهُ كثيراً ولم نلقَ منه إلا الضحكات وكان الهدف من ذلك تمرين أذنه على بعض الكلمات والأحرف ..

ربما كانت هذه وسيلة جيدة لا أعرف ، لأني لستُ متخصصاً في علم التربية ، ولكنها معلومة سمعتها من أصحاب الخبرة ، فكنتُ أقوم بتسجيل ما ينطق به حمودي في بدايات كلامه من باب ( توثيق التجربة ) ..

وبقدر ما كانت فرحتنا كبيرة ونحن نسمعهُ يتمتم ببعض الكلمات التي يصاحبها موسيقى خاصة به ، كانت فرحتهُ هو شخصياً بتلك التمتمات أكبر كفرحتهِ حينما أصبح يمشي ..

وكان يردد على مسامعنا بعض الكلمات السهلة والبسيطة التي يسمعها منّا بين الحين والآخر ، وحينما كان يأخذه الحماس في التشديد على بعض الكلمات كان ينزعج من أي مقاطعة له وكأنه يريد أن يقول لنا لا تصادروا حقي في الكلام ..

وحينما لا تأتي الكلمة التي ينطق بها متسقة لغوياً في تركيبها كانت هي الأكثر متعة لنا ونحاول أن نرددها فيما بيننا من باب التندر ..

للأطفال لغتهم المحببة لهم ولنا ، يقولون ما يشاؤون دون خوفٍ أو حذر أو تردد أو خبث ، وتأتي كلماتهم عفوية طاهرة صادقة نقية ..

وفي مرةٍ بينما كان حمودي يتعثر كعادتهِ في إكمال جملةٍ ما ، نظرتُ إليه مستحضراً عنوان قصيدة أحمد مطر في ناجي العلي قائلاً له : فعلاً ما أصعب الكلام ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما مدى خشية تل أبيب من إصدار المحكمة قرار باعتقال نتنياهو وغ


.. الجزء الثاني - أخبار الصباح | الأمم المتحدة تعلق مساعداتها إ




.. أطفال فلسطينيون يطلقون صرخات جوع في ظل اشتداد المجاعة شمال ق


.. الأمم المتحدة: نحو نصف مليون من أهالي قطاع غزة يواجهون جوعا




.. شبح المجاعة.. نصف مليون شخص يعانون الجوع الكارثي | #غرفة_الأ